عادل حمودة يكتب: حكايات استراتيجية.. مصر تؤثر فى العالم بـ«قوة النموذج» الذى قدمته فى منتدى الشباب ومشروع حياة كريمة

مقالات الرأي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة

قوى المصالح تتنكر فى مبادئ أخلاقية مثل الذئب فى قصة «ذات الرداء الأحمر»

حلف الناتو وضع استراتيجية جديدة لتغيير المنطقة قبل أسابيع من انفجار الوضع فى تونس ومصر


ليس فيما ستقرأ نميمة فلا تبحث عنها.

ومهما نقبت لن تعثر على ثرثرة تقلص شعورك بالملل.

الحديث هذه المرة جاد وثقيل ولكنه ضرورى.

حديث يحدد خطوط التواصل مع العالم ونقاط التأثير المتبادلة بيننا وبينه.

 

فى شتاء عام ٢٠٠٤ خرج جوزيف ناى (رئيس المخابرات الوطنية فى إدارة بيل كلينتون) على العالم بتعبير «القوة الناعمة» الذى جن به «المتكلمون» حتى مل الناس من سماعه.

قصد «ناى» بتعبيره قوة التأثير بأشياء بعيدة عن السلاح والمال والتدخل السافر فى شئون الغير.

أثرت الولايات المتحدة على العالم بمشروب الكوكاكولا وشطائر ماكدونالد وأفلام هوليوود وموبايل آيفون وتطبيق جوجل.

أثرت فرنسا على العالم بأنواع الجبن وموضة الثياب وتميز العطور.

أثرت إيطاليا على العالم بفطائر البيتزا.

وتمدد التأثير المصرى إلى محيطه بتسامح الأزهر وصوت أم كلثوم وروايات نجيب محفوظ وسينما يوسف شاهين وقصائد أحمد شوقى وصحافة محمد التابعى ومصطفى أمين وروز اليوسف وكتب محمد حسنين هيكل.

كان هيكل هو أول من نقل مصطلح القوى الناعمة إلينا وكثيرا ما اشتكى من سوء استعماله وفى حواره مع لميس الحديدى تحدث عن لجنة الكفاءات التى شكلها مجلس اللوردات فى بريطانيا من ١٣٠ شخصية لتحديد أحدث مفهوم للقوة الناعمة.

اتفق المشاركون على أن القوة الناعمة هى قوة «النموذج» الذى تساهم به الدول فى حوار العالم حول كل ما يهم الإنسانية لتكون أفضل وأرقى.

«قوة النموذج» تجلت فى «منتدى شباب العالم» حيث تلتقى الثقافات وتتعايش الاختلافات وتتقارب الجنسيات وحيث تتوافق الأجيال الجديدة على نبذ الحروب وتجاوز الفوضى ومواجهة تفكيك الدول والتمادى فى ممارسات إبادة الجنس وإبعاد التكنولوجيا المتطورة عن الصراعات التى تسعى إلى ما هو أكثر من التحكم فى البشر.

«قوة النموذج» ستضاعف من مساهمة مصر فى التأثير بعيد المدى عندما تستضيف فى شرم الشيخ مؤتمر المناخ (كوب ٢٧) لإيقاف «عملية السطو على البيئة» حسب تعبير هنرى كيسنجر فى كتابه: «النظام العالمى».

كانت النسخة الرابعة من المنتدى «بروفة جنرال» للمؤتمر القادم فى ظل جائحة كورونا مجهولة المصدر وسريعة التحور.

وبنظرة طائر فى السماء نجح المنتدى فى السيطرة على غالبية التفاصيل الكبيرة والصغيرة ولكن مؤتمرًا بحجم «كوب ٢٧» يشارك فيه ممثلون عن الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة وممثلون عن المنظمات المدنية وممثلون عن الصناعات التحويلية الخضراء (مجموعهم ربما يصل إلى ٤٠ ألفا) يحتاج إلى كل ما نملك من خبرات وقدرات لنعطى لقوة النموذج نموذجا.

وسبق أن انتبه العالم إلى «قوة النموذج» الذى قدمته مصر فى نجاحها غير المسبوق فى القضاء على التهاب الكبد الوبائى.

وبقوة النموذج أضاف مشروع «حياة كريمة» لمصر رصيدا خارجيا مؤثرا.

 

لم تزد المدة عن ١٠٠ يوم.

قتلت قبيلة «الهوتو» فى «رواندا» ثلاثة أرباع قبيلة «التسى» واغتصبت نساءها ودفنت أطفالها أحياء.

حدث فى صيف ١٩٩٤.

فى العام التالى انتقلت المذابح إلى «البوسنة» حيث مارس «الصرب» كل وسائل التنكيل بالمسلمين.

بعد عشر سنوات استيقظ ضمير العالم وأقرت الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة «حق التدخل» لمنع الإبادة الجماعية والتطهير العرقى والجرائم ضد الإنسانية.

وهدأت أنفاس البشرية.

ولكن بعض الدول الكبرى سعت إلى توسيع «حق التدخل» لفرض إرادتها على دول أخرى أو لتوسيع مصالحها.

بالطبع لن تستخدم القوة فى التدخل وإلا أثارت الغضب وإنما تتستر وراء غطاء أخلاقى يبرر تدخلها ويخفى نيتها.

فى ٨ يناير ١٩١٨ عرض الرئيس الأمريكى «وودرو ويلسون» على الكونجرس ما عرف بمبادئه الأربعة عشر.

هللت الدول الخاضعة للاحتلال للمبدأ الأوروبى الخامس الذى نص على «وضع إدارة عادلة للمستعمرات تنفذ ما يحقق مصالحها».

لكن وراء ذلك الغطاء الأخلاقى كانت المفاوضات السرية مستمرة بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية توزيع ميراث الدولة العثمانية فى الشرق الأوسط بينها حسب اتفاقية «سايكس بيكو».

ووراء الغطاء الإنسانى نفسه صدر وعد بلفور عن وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور ونظرت فيه حكومة صاحبة الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين.

ليس كل ما يبرق ذهبا.

ليس كل حديث عن المبادئ السامية خالصا لوجه الإنسانية.

الذئب أحيانا يتنكر فى ثياب جدة عجوز ليخدع فتاة بريئة ويضعها بين أسنانه كما فى قصة ذات الرداء الأحمر.

ومنذ وقعت هجمات سبتمبر وضع الرئيس الأمريكى جورج بوش غزو العراق هدفا لم يحد عنه للسيطرة على النفط وبحثت أجهزة مخابراته عن صلة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة فلم تجد.

وكذب وزير خارجيته كولن باول أمام الأمم المتحدة مدعيا امتلاك العراق أسلحة نووية ليبرر الغزو فى ١٩ مارس ٢٠٠٣ ليسقط الديكتاتورية ويفرض الديمقراطية.

لم يكن ذلك صحيحا تماما.

فيما بعد اعترف باول بأن تبرير الحرب نقطة سوداء فى حياته.

وفيما بعد أيضا لم يعرف العراق الديمقراطية وإنما عرف حروبًا أهلية وصراعات طائفية ومذابح نفذتها تنظيمات إرهابية.

ولا شك أن الديمقراطية ماسة ثمينة مغرية تضوى لكنها قد تعمى الأبصار أحيانا.

ما حدث فى سوريا واليمن وليبيا عقب ثورات الربيع العربى يؤكد ذلك.

فى حروبنا مع إسرائيل فقدنا ربع مليون شهيد وفى حروبنا ضد أنفسنا فى العشر سنوات الماضية فقدنا عشرة ملايين منا إلى جانب تشريد مثلهم ليضافوا إلى سجلات اللاجئين.

سألت هيكل: «هل انتهت فرصنا الديمقراطية؟».

أجاب: «نحن منقسمون بين تيار يؤمن بأن الإسلام هو الحل» وتيار يصر على أن «الديمقراطية هى الحل» وكل منهما حالم لم ينتبه إلى حقائق واقعه ومعطيات عصره وطبيعة البشر من حوله ولو سألتنى عن الحل لن أتردد فى قول «المعرفة هى الحل» لو شئت علاج مشكلة افحصها ادرسها اعرفها قبل أن تفكر فى الخروج منها».

تجربة مصر بعد ثورة يناير ربما تشرح ما يقصد هيكل.

جاءت الانتخابات برئيس إخوانى بنسبة لا تزيد كثيرا عن واحد فى المائة والانتخابات عادة يكسبها أصحاب الشعارات المثيرة للعواطف ولكنهم غالبا ما لا يملكون ما يحول كلماتهم المعسولة إلى رغيف خبز وقرص دواء ومسكن مناسب ومحطة كهرباء وطريق ممهد وفرصة عمل.

ومنذ اليوم الأول بدا مؤكدا أن عمر الجماعة فى الحكم لن يطول.

سألت هيكل: «لم تفشل النظم المنتخبة أحيانا؟».

أجاب: «عندما يصل حاكم إلى السلطة فإن عليه كى ينجح أن يستعين بالنخبة المتخصصة التى تساعده فى رفع الكتلة الشعبية العريضة بكل ثقلها إلى مستوى أعلى لكن البعض لا يؤمن بالنخبة ويؤمن بقدرته المنفردة على رفع الكتلة مثل ماوتسى تونج الذى ساعد على «تطفيش» النخبة خارج الصين ليتلقفها خصمه شان كاى شيك فى ازدهار تايوان التى كان يحكمها».

لم تنهض الصين إلا بعد أن ردت الاعتبار للكفاءات.

وبدأت فى تخليص شعبها من البطالة والأوبئة ودمجه فى مجتمع التكنولوجيا الراقية ليرتفع مستوى معيشته واعتبرت ذلك الحزمة الضرورية لحقوق الإنسان قبل التفكير فى حزمة الحريات التى أكدت أنها ستأتى ستأتى.

 

كنت فى برلين عندما أتيح لى أن أحضر مؤتمرا لحلف الناتو يتحدث عن مستقبله ومهامه وتمويله.

ما إن سقط الاتحاد السوفيتى حتى رفعت الولايات المتحدة يدها بعلامة النصر ولكنها فى الوقت نفسه خسرت الكثير من قواها بعد أن كلفتها الحرب الباردة خمسة تريليونات من الدولارات.

فى وجود الرئيس الأمريكى باراك أوباما بدأت واشنطن تطالب حلفاءها بزيادة حصتهم فى تمويل حلف الناتو ولكن الأهم البحث عن مهام جديدة للحلف بعد أن انكفت موسكو على نفسها.

فى شتاء عام ٢٠٠٩ عقدت قمة الناتو فى ستراسبورج لوضع استراتيجية جديدة للتحكم فى العالم واختيرت لجنة من ١٢ شخصية مؤثرة ترأسها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة واستمعت اللجنة إلى ١٢٠٠ خبير على مدى ١٨ شهرا قبل أن تقدم تقريرها إلى القمة التالية التى عقدت فى لشبونة فى شتاء ٢٠١٠.

اتجهت الاستراتيجية الجديدة التى أقرها قادة الغرب فى الحلف جنوبا إلى البحر المتوسط حيث رصدت تهديدات غير محددة مثل الإرهاب والفساد والصراعات المذهبية وحيث عجزت النظم السياسية عن مواجهتها رغم أنها أخذت من الامتيازات الغربية ما لا تستحق.

تعهدت فرنسا بتونس والجزائر وليبيا بمشاركة من إيطاليا.

وتعهدت تركيا بسوريا.

وبقيت مصر والسعودية فى عهدة الولايات المتحدة.

ولكن قبل أن تبدأ تلك الاستراتيجية فى التنفيذ انفجرت الثورة فى تونس وتبعتها مصر وبسهولة غير متوقعة انسحب زين العابدين ومبارك من المشهد.

وجرى ما جرى فى سوريا واليمن وليبيا والجزائر والسودان فيما بعد.

وصفت تلك الاستراتيجية باستراتيجية الباب المفتوح حيث توقعت ووضعت فى حسبانها حدوث أشياء غير متوقعة تتعامل معها حسب الظروف على أن يحقق الحلف هدفه النهائى وهو السيطرة على تلك المنطقة ولو اضطر إلى إعادة رسم خرائطها.

والمؤكد أن ثورة يناير سبقت تنفيذ ما ينتظرها فى استراتيجية الناتو ولكن لا يعنى ذلك تركها فى حالها بعيدا عمن دبر لها.

ويفسر ذلك ما جرى من أحداث هددت استقرار الدولة وتماسكها حتى نجت.

قبل ذلك تدخل الناتو بجراحة عسكرية انتهت بقتل القذافى.

ولولا وجود قاعدة علوية متماسكة لما بقى النظام فى سوريا على حاله رغم الملايين التى قتلت وشردت.

ليس فيما جرى ويجرى صدفة.

ولكن أغلب الناس لا يعلمون.