د. محمود جلال يكتب: تمويل الابتكار وريادة الأعمال في مؤشر الابتكار العالمي (12)

مقالات الرأي


تم الاعتراف بالملكية الفكرية كأصل منذ فترة زمنية طويلة ولكن حتى الآن لم تصل أسواق الأعمال إلى التطور المطلوب لتحقيق الاستفادة من ذلك، حيث يجب تشارك كلٍّ من مالكي الملكية الفكرية والقطاع المصرفي لحل مشكلة تقييم أصول الملكية الفكرية (IP asset valuation) وقبولها كضمان في عمليات التمويل، بحيث يمكن للمستثمرين والمبتكرين الاستفادة من قيمة أصول الملكية الفكرية لديهم واستخدامها كمحرك رئيسي للنمو، الأمر الذي سيعود بالفائدة على الاقتصاد ككل ويشجع على المزيد من الابتكار.

الجزء الثاني عشر: فرص التغلب على التحديات التي تواجه استخدام الملكية الفكرية كأصل لتمويل الابتكار:

تجد الشركات الغنية بالملكية الفكرية صعوبة في تقديم الضمانات الكافية لتلقي التمويل اللازم لتحقيق النمو المستقبلي مقارنة بالشركات التي تمتلك أصولًا مادية تقليدية، نظرًا لعدم استعداد المقرضين للمخاطرة في مثل هذه الاستثمارات. 


ويأتي السبب في إحجام القطاع المصرفي عن إقراض رأس المال على أساس ضمانات في شكل أصول غير مادية نظرًا لطبيعتها الخاصة، فمنها ما هو له قيمة محتملة مثل براءات الاختراع والعلامات التجارية والتصاميم الصناعية ولكن لم يتم اختبارها في السوق بعد، ومنها ما هو لمنتجات متداولة في الأسواق بنجاح، حيث يحتاج المثمنون والمستثمرون إلى تقييم المخاطر، لأنه قد لا تتحقق الإمكانات غير المختبرة أو قد يكون من الصعب تكرار النجاح المؤكد، وهل هذه الأصول غير المادية يمكن أن تكون قابلة للتداول. 


ولتشجيع الشركات على الاستثمار في الملكية الفكرية وتمكينها من الاستفادة منها، تقوم الحكومات بالجهود المستمرة مع القطاع المصرفي لتسهيل عمليات تمويل الابتكار وتعظيم العائد على الملكية الفكرية من خلال تحسين المعرفة بقيمتها وكيفية تقييمها وآليات تداولها (trading mechanisms) وضمان عمليات التمويل، الامر الذي سيؤدي إلى تحفيز النشاط الابتكاري الذي يعزز النمو الاقتصادي.


والمملكة المتحدة من الدول التي اتخذت خطوات جادة في ذلك الأمر، مما كان له الأثر الكبير في نمو الاستثمار في الأصول غير المادية (مثل تلك التي تحميها الملكية الفكرية) نموا كبيرًا من 71.91 مليار جنيها استرلينيا في عام 1997 إلى 134.29 مليار جنيها استرلينيا في عام 2016 بما يعادل نسبة زيادة 87٪، حيث أصبحت استثمارات الشركات البريطانية في الأصول المعرفية غير المادية (intangible knowledge assets) تمثل نصف قيمة الاستثمارات الاجمالية سواء كانت مادية أو غير مادية، ولكن تشير التقارير أن أقل من نصف هذه الاستثمارات القائمة على المعرفة تتمتع بالحماية من خلال استخدام حقوق الملكية الفكرية.


كما نجد أيضا أن أكثر من 80٪ من قيمة بعض الشركات بسوق الأوراق المالية (stock market) تستند إلى أصول غير مادية، الأمر الذي يعكس الأهمية الضمنية للملكية الفكرية للشركات بالمملكة المتحدة ويعكس أيضًا أهميتها المتزايدة للاقتصاد خاصة في الدول المتقدمة، فقد تطور فهم الملكية الفكرية ووظائفها المرجوة في المملكة المتحدة على مر السنين حيث كان يُنظر إليها في السابق على أنها أدوات دفاعية بحتة، والآن براءات الاختراع والعلامات التجارية والتصاميم الصناعية أصبحت شكلا من أشكال الممتلكات أو الأصول التي تضمن الحفاظ على القيمة التي أنشأها المبتكرون الناجحون، الأمر الذي أدى لتضاعف إجمالي طلبات حقوق الملكية الفكرية بالمملكة المتحدة من 75،436 طلب في عام 2002 إلى 152،322 طلب في عام 2019.

 
كما تقدر الوايبو في التقرير العالمي للملكية الفكرية لعام 2017 أن ثلث قيمة السلع عالميًا يأتي من الأصول غير المادية مثل التكنولوجيا والعلامات التجارية، حيث تعد الملكية الفكرية الآن أكثر الأصول قيمة في العالم، ومع ذلك تواجه الشركات والممولين والمستثمرين عقبات كبيرة في تحديد قيمة الملكية الفكرية واستغلال الإمكانات الاقتصادية لأصول الملكية الفكرية.


وفي تقرير لمكتب الملكية الفكرية في المملكة المتحدة صدر في عام 2013 بعنوان دور الملكية الفكرية والأصول غير المادية في تسهيل تمويل الأعمال، الذي أظهر عدم التوافق بين القيمة المحتملة للشركات التي تمتلك محافظ ملكية فكرية قوية وفرص الاستثمار التي يتيحها المستثمرون، بسبب عدم وجود جرد واضح للملكية الفكرية والأصول غير المادية، والتي بدونها لا يمكن للمقرض أن يكون متأكدًا من أن الأصول التي يجب أن تكون موجودة هي في الواقع في متناول اليد.


كما أنه لا يوجد منهجية واحدة متفق عليها لتقييم الملكية الفكرية، وندرة الخبرات المتخصصة في عمليات التقييم المعقدة مما يرفع من تكلفتها ويحد من نموها وتطورها. 


حيث نجد طبقا وتقرير آخر لمكتب الملكية الفكرية في المملكة المتحدة صدر في عام 2017 بعنوان دراسة لسوق تقييم الملكية الفكرية في المملكة المتحدة، ذكر أنه يتم سنويًا ما بين 3000 و4000 عملية تقييم من خلال 600 متخصص في تقييم أصول الملكية الفكرية (IP valuers) وهم إجمالي من يعملون في هذا المجال بالمملكة المتحدة، فنجد أن هذه المعدلات المنخفضة لتقييم الملكية الفكرية لا تتناسب مع الاستثمار الكبير الموجه نحو إنشاء الأصول غير المادية وتزايد معدلات تسجيل الملكية الفكرية من خلال أنظمة التسجيل الدولية والوطنية، فبالرغم من اهتمام الشركات بتسجيل الملكية الفكرية محليًا ودوليًا ولكنها تفشل في تحويل القيمة الضمنية لهذه التسجيلات إلى استثمارات.


فهناك عدم توافق بين إيمان الشركات بقيمة الملكية الفكرية وافتقار القطاع المصرفي إلى اليقين بشأن كيفية إجراء تقييم للابتكار المقنن بواسطة الملكية الفكرية، ويتضح مدى هذه المشكلة من خلال عدم اليقين فيما يتعلق بالقيمة الفعلية لشهادة الملكية الفكرية، والتي تتراوح طبقا والتقرير ما بين 50 مليون ومليار جنيها استرلينيا، الأمر الذي يظهر تفاوتًا كبيرًا فيما يعتقد أنه قيمتها.


ويبرز أيضا التقرير الفجوة الهائلة في السوق، ومشكلة التقليل من قيمة الأصول المحتملة للملكية الفكرية للشركات المبتكرة، وضرورة فهم أولئك المشاركين في تمويل الشركات الناشئة والصناعات المبتكرة المعتمدة على الملكية الفكرية لقيمة الملكية الفكرية وتحديدها كميًا، كما يوضح أن الفشل في معالجة هذه المشكلة لن يجعلها تختفي، وسيستمر المبتكرون والمستثمرون في المطالبة بممارسات موحدة وسليمة منهجيًا لتقييم أصول الملكية الفكرية.


لذلك يضع التقرير الإطار التنظيمي والمعايير والمنهجيات لتقييم قيمة أصول الملكية الفكرية، وبرامج فحص الملكية الفكرية (IP Audit programs) بالشركات كواحدة من خطط مكتب الملكية الفكرية لدعم الأعمال، ويبرز التغييرات التي تمت في لوائح المحاسبة في المملكة المتحدة ومنها الاعتراف بالأصول غير المادية في الميزانيات العمومية (balance sheets)، كما يدعو إلى ربط الملكية الفكرية بهيكل اللوائح المصرفية، حيث تؤدي اللوائح داخل القطاع المصرفي إلى مشاكل تجاه مصداقية تقييم أصول الملكية الفكرية، وسيولة الشركات كثيفة الملكية الفكرية، والذي يمثل تحديا كبيرا أمام الشركات التي تسعى للحصول على التمويل، حيث تفتقر مؤسسات التمويل إلى الوعي بدور الملكية الفكرية كأصل قيم، وإن كان غير ملموس، وكيف يمكن استخدامه في توليد التدفق النقدي.


أيضا يظهر التقرير أن عدم تحديد ونشر أصول الملكية الفكرية بشكل فعال في استراتيجيات الأعمال يؤدي إلى إغفال بعضها وإضاعة فرص تقييم قيمتها التجارية الكاملة، أثناء عمليات التقييم اللازم للإقراض من الممولين.


ولعلاج هذه التحديات قام مكتب الملكية الفكرية بالمملكة المتحدة بتخطيط مشروعين بحثيين أوليين، أحدهما هو شراكة بين مكتب الملكية الفكرية وبنوك رائدة في المملكة المتحدة لقياس مدى استقرار الشركات كثيفة الملكية الفكرية الحاصلة على قروض، والثاني شراكة مكتب الملكية الفكرية مع مثمني الملكية الفكرية لتتبع تقدم هذه الشركات وتحليل تطور قيمتها غير المادية بمرور الوقت، حيث يعتقد أن هذه الجهود سوف تؤدي إلى تحويل أصول الملكية الفكرية إلى استثمار ناجح وزيادة عناصر قوة مالكيها في مواجهة جهات التمويل.


والمملكة المتحدة ليست وحدها التي تهتم بتقييم أصول الملكية الفكرية كوسيلة لتشجيع الاستثمار، نظرًا لما تمثله الملكية الفكرية من مجال نمو عالمي واستثمار رابح، حيث تقوم بجهود مماثلة كل من الولايات المتحدة، وكندا، وسنغافورة، والصين، والاتحاد الأوروبي. 


لذا يجب اشتراك كل من المتخصصين المصرفيين والماليين مع خبراء الملكية الفكرية في إعداد القواعد المنظمة لتقييم أصول الملكية الفكرية بحيث تصبح ممارسة موحدة وشاملة وواسعة الانتشار عالميًا، وتحقق تقييم قوي لأصول الملكية الفكرية وتؤدي إلى تقليل مخاطر المبالغة في تقدير هذه الأصول. 


ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن تقييم قيمة أصول الملكية الفكرية ونشر فوائد القيام بذلك من المهام المعقدة التي سوف تستغرق وقتًا خاصة في ظل حرص الشركات على السرية والتأمين البالغ للملكية الفكرية بها.

وللحديث بقية،