عادل حمودة يكتب: الأهداف الخفية فى حرب بوتين على أوكرانيا

مقالات الرأي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة

خطة الغزو تصورت حربًا خاطفة لن تستغرق سوى ساعات

المقاومة الأوكرانية خاضت معارك شرسة دفعت الغرب إلى تقديم مساعدات عسكرية متطورة عاجلة

صمود العاصمة دفع بوتين إلى استخدام الأسلحة الاستراتيجية الحرارية التى تعجل بتدمير البنية العسكرية والمدنية


حصار جوى بدأته بريطانيا وحصار مالى وافقت عليه ألمانيا وحصار رياضى طالبت به بولندا برفضها اللعب ضد الفريق الروسى فى مونديال قطر

اعتراف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم وأن تصبح دولة حليفة لروسيا وإسقاط حكومة كييف وتسريح جيشها

سر الطائرة بى ٥٢ إتش التى أجبرت بوتين على التهديد بالأسلحة النووية

حارس بوتين الشخصى السابق: ليست لدينا حدود مع أوكرانيا حدودنا مع أمريكا المسيطرة عليها

العقوبات الأولى على روسيا خفضت العجز فى الديون وفى التضخم ولكنها أغلقت الاقتصاد على نفسه

بكين تخترق المجال الجوى لتايوان وواشنطن ترسل حاملات طائرات خوفًا من تكرار السيناريو الروسى فى أوكرانيا


الكتابة عن حرب لم تنته مثل نقد مسرحية ارتجالية لم يسدل الستار عليها بعد.

 

«لا يفهم بوتين سوى بوتين».

روت إحدى عماته أن «فوفا» وهو صغير تسلق أعلى حافة شقة المنزل التى تقع فى الدور الخامس وخلال رحلة صيد وقع فى النهر وكاد أن يغرق لولا عناده.

يتذكر زملاء المدرسة ميله إلى التورط فى الشجار بينما كان تحصيله الدراسى متواضعا وإن تمتع بذكاء حاد وفضول استثنائى وذاكرة قوية وظلت أولوياته مبهمة.

بنفسه يعترف: إنه «تلقى ثقافته من الشارع».

وما أن تقاضى أول راتب من عمله حتى اشترى أكبر قالب حلوى فى المتجر وقدمه إلى أمه.

ولكنه تعلم درسا مهما يفيده فى الفوز: «فى المواجهة اذهب إلى الآخر وسدد الضربات كأنها المواجهة الأخيرة الحاسمة».

تخرج فى كلية الحقوق لكنه انضم إلى الاستخبارات الروسية وخدم فى ليينجراد (مسقط رأسه) ودريسدن (ألمانيا) وهناك شهد سقوط الاتحاد السوفيتى الذى بدا مثل أسد «عجوز» تعبث بأسنانه الفئران.

عاد إلى بلاده وهو يشعر أنه صقر فقد ريشه ويشرب دموعه.

ظلت عقدة «القوة العظمى» تطارده ولكنها أصبحت خطة عليه تنفيذها بعد أن أصبح رئيسا.

لكن بحكم خبرته فى الاستخبارات تعلم «إبقاء الآخرين فى حالة من الرعب المعلق لخلق لديهم حالة من عدم القدرة على التنبؤ» حسب ستيفين وايت فى كتابه «مفاتيح السياسة الروسية».

 

عندما سلبت روسيا شبه جزيرة القرم (عام ٢٠١٤) من أوكرانيا اكتفى الغرب بفرض عقوبات اقتصادية عليها ولكن المثير للدهشة أن تلك العقوبات خفضت من الديون إلى ٢٠ ٪ فقط من إجمالي الناتج المحلى وخفضت من نسبة التضخم فى حدود ٥ ٪ وبنت احتياطيات أجنبية بقيمة ٦٢٠ مليار دولار وشيدت ما يسمى «اقتصاد الحصن» حسب مجلة «أيكونميست» عدد ٢٥ فبراير.

بدت شبه جزيرة القرم مثل قطعة «إستيك» شهية على مائدة بوتين أغرته على ما يبدو بأكل الثور بمفرده.

حشد بوتين ١٨٠ ألف جندى بكافة أسلحتهم الهجومية المتطورة ــ على الحدود مع أوكرانيا إلى جانب ٣٠ ألفًا آخرين سمحت بيلا روسيا بوضعهم على حدودها مع أوكرانيا.

لعب بوتين بمهارة على أعصاب البشرية وعجز أكثر محللى الاستخبارات الغربية مهارة فى التنبؤ بمسار الأزمة سلما أو حربا؟ لكنه فى النهاية وضع روسيا فى بؤرة اهتمام العالم.

لكن ما يثير الدهشة أنه حقق ما يريد من مكاسب دون حرب فلم تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ولم تقم قواعد عسكرية على أرضها ولم تتلق من الغرب سوى أسلحة دفاعية متواضعة إلا أنه أعلن الحرب عليها ودمر بنيتها التحتية العسكرية والمدنية بدعوى نزع سلاحها وتسريح جيشها وإجبارها على الحياد بعد إسقاط حكومتها وتشكيل حكومة من الجنرالات تكون قريبة من موسكو.

لم شن بوتين الحرب مادام حصل على ما يريد بمجرد التهديد بها؟.

ينقسم سكان أوكرانيا (٤٣ مليون نسمة) إلى روس أرثوذكس (١٧ ٪) وأوكران كاثوليك (٧٧ ٪) نجحت موسكو فى إثارة حرب أهلية بعد دعم مجموعات انفصالية فى المنطقة الشرقية (دونباس) واعترفت باستقلال إقليمى دونيستك ولوهانسك عن أوكرانيا.

يصف بوتين الأوكران الكاثوليك بـ «النازية» بسبب امتداد جذورهم وأصولهم إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية التى ولدت فى عام ١٨٠٤ كما أنهم ساندوا هتلر عندما قرر اجتياح روسيا لكن الحقيقة أن الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلنسكى اليهودى الديانة أفسد الوصف على بوتين فلم يثر الانتباه.

لكن تلك العقدة التاريخية لم تكن لتكفى لتبرر الغزو.

 

حسب مراكز أبحاث استراتيجية (منها المعهد الملكى لدراسات الأمن والدفاع) لم يكن بوتين ليحقق أهدافه الخفية دون حرب.

أراد بوتين اعترافا من حكومة أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا ما يعنى استسلام دول العالم إلى الأمر الواقع.

وأراد بوتين أن تكون أوكرانيا دولة حليفة فى نطاق نفوذ روسيا.

وأراد أن يعترف الغرب ــ خاصة الولايات المتحدة بوضع روسيا الخاص فى أوراسيا خاصة فى أراضى الاتحاد السوفيتى السابق تمهيدا لقيام دولة كونفيدرالية بين روسيا وأوكرانيا.

وأراد أن تتغير الحكومة الأوكرانية الحالية على أن تعترف حليفتها بسيطرة روسيا على شرق البلاد فى منطقة دونباس.

ويفترض ذلك إثبات أن الرئيس الأوكرانى فلاديمير زلينسكى عاجز عن الحكم.

والرئيس الأوكرانى (٤٤ سنة) جاء من آخر منطقة بعيدة عن السلطة فهو فنان كوميدى ومغنى ومقلد شخصيات لعب دور رئيس جمهورية أختير صدفة فى مسلسل تليفزيونى «خادم الشعب» ولكن الصدفة تكررت فى الواقع وأصبح رئيسا فعليا واختار لحزبه اسم «خادم الشعب».

بتلك السيرة استهان بوتين به وتصور أنه لن يقدر على مواجهة الحرب ولكن لم تكن حساباته دقيقة.

ومن الواضح أن تلك الأهداف لا يمكن تحقيقها بالطرق الدبلوماسية وتصور أنه يمكن فرضها بعملية عسكرية تصفها موسكو بأنها حرب تحرير من السيطرة الأمريكية على أوكرانيا ستسحب قواتها منها بعد أن تحقق أهدافها.

حسب فيكتور زولوتوف الحارس الشخصى السابق لبوتين والذى يقود جنود الحرس الوطنى: «ليس لدينا حدود مع أوكرانيا إنها حدود مع أمريكا التى لها السيادة هناك وكل ما عداها تابع».

 

وضع بوتين خطته على أساس الحرب «الخاطفة» التى لن تستغرق سوى ساعات ستسقط بعدها العاصمة (كييف) ويسلم الجيش الأوكرانى سلاحه ويعود أفراده إلى بيوتهم سالمين تاركين السلطة إلى جنرالات تختارهم موسكو.

وبدا بوتين متأكدا أن الغرب لن يتدخل عسكريا.

حلف الناتو المصاب بـ «الموت الدماغى» على حد وصف الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ــ لن يساند أوكرانيا بأكثر من الأسلحة الخفيفة التى ستستخدمها فى حرب عصابات ضد القوات الروسية إذا احتلتها ولن يختلف موقف البنتاجون كثيرا.

على ما يبدو أيضا كان الغرب لا يثق فى قدرة الجيش الأوكرانى على الصمود فلم يشأ تقديم المزيد من الأسلحة الدفاعية المتطورة حتى لا تضاف إلى غنائم الحرب الروسية.

خذل الغرب أوكرانيا دون أن يستوعب بسهولة أن بوتين وضع أمن أوروبا على المحك.

وتصرف بنعومة لا تناسب التهديدات التى أمطر بها الرئيس الأمريكى جو بايدن الاجتماعات والفضائيات وكأنه ممثل فى ديزنى لاند يتنكر فى فراء أسد.

لكن فاجأ الجيش الأوكرانى العالم كله بقدرته على المواجهة فزاد الكرملين نسبة القوات المشاركة فى الحرب من ٣٠ إلى ٥٠ فى المائة فى اليوم الثالث للقتال وشعر الغرب بالحرج وأدرك أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد قائما فلم يتردد فى إرسال أسلحة «فتاكة» من الولايات المتحدة ومختلف دول أوروبا التى حسمت موقفها بعد ساعات طوال من النظرة الضيقة لمصالحها.

سبق إرسال تلك الأسلحة مكالمة تليفونية استمرت ٤٥ دقيقة بين بايدن وزيلنسكى للتأكد من قوة الموقف الأوكرانى على الأرض كما استعان البيت الأبيض بطاقم من المحامين حتى يضمن قانونية إرسال الأسلحة حسب الأعراف الدولية فى الحروب.

وفى الوقت نفسه أصبح سقوط «كييف» هدفا سياسيا قبل أن يكون هدفا عسكريا على بوتين تحقيقه مهما كلفه الأمر وإلا خسر الكثير من مبررات استمراره فى الحكم.

أمر جيشه بحصارها من أربع جهات وبدأ إسقاطا جويا فوق ضواحيها وخرجت من المخازن العسكرية الروسية أسلحة استراتيجية متطورة تستخدم للمرة الأولى.

والأسلحة الاستراتيجية مصممة لضرب مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والبنية التحتية والاتصالات الحكومية وتستخدم صواريخ بالستية بها أجهزة مزودة برؤوس حرارية التى تمتلك قدرات تفجيرية سريعة.

ومن جانبهم نسف الأوكرانيون الجسور والطرق حتى يعيقوا تقدم القوات المدرعة التى عليها فى النهاية احتلال العاصمة.

وأمام خسائر الروس غير المتوقعة نسبوا كثيرًا من العمليات الأوكرانية الناجحة إلى مساعدات أمريكية غير مباشرة.

ودون مقدمات مناسبة أعلن بوتين تجهيز ما لديه من أسلحة نووية فى مفاجأة تضارب العالم فى تفسيرها واستيعابها.

هناك من اعتبرها ابتزازًا وهناك من اعتبرها ضغطًا لتقبل أوكرانيا بالمفاوضات مع روسيا وهناك من ذكر بأزمة ممر الخنازير بين روسيا والاتحاد السوفيتى فى كوبا عام ١٩٦٠.

لكن المؤكد أن السبب المباشر كان تحرك طائرات بى ٥٢ أتش من بريطانيا إلى ألمانيا وطائرة بى ٥٢ حاملة قنابل عادية لو أضيف إليها «أتش» لكانت حاملة لرؤوس نووية.

 

ما حدث فى المساعدات العسكرية حدث فى العقوبات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية.

أعلن الغرب عن عقوبات مشددة ستجبر بوتين على دفع الثمن ولكن بدت فى البداية عقوبات دعائية تفتقد الفاعلية.

طالبت بريطانيا بحظر الطيران الروسى ولكنها وجدت من يعترض بحجة أن ذلك يعنى إعلان حرب ضد روسيا.

لكن مع شدة الحرب ثبت أنها حجة واهية وبدأت بريطانيا فى منع الطائرات المسجلة فى روسيا المملوكة للدولة والأفراد من الطيران فوق مجالها الجوى وتبعتها تسع دول (أستونيا ولاتفيا ولتوانيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا وتشيك) فى حصار جوى شبيه بما حدث للعراق بعد احتلالها الكويت واتخذت روسيا الإجراء نفسه مع تلك الدول فى رد فعل غير مؤثر.

اقترحت أستراليا حظر صادرات الطاقة الروسية (النفط والغاز) ولكن الولايات المتحدة رفضت بحجة تحجيم أسعار النفط التى تجاوت المائة دولار وأسعار الغاز التى زادت بنسبة ٤٠ ٪ تقريبا.

وتمتلك روسيا عشرة فى المائة من النفط العالمى وتعد ثانى أكبر مصدر للنفط ومنتجاته إلى الولايات المتحدة وتمتلك روسيا أعلى احتياطى للغاز فى العالم وتصدره إلى أوروبا عبر خط أنابيب نورد ستريم الثانى.

وما أن تراجع استخدام مقاطعة روسيا نفطيا حتى هدأت البورصات العالمية وسقط سعر البرميل تحت المائة دولار.

وبدأ الحديث عن أخطر العقوبات المدمرة للاقتصاد الروسى بإخراجه من «السويفت كود» لشل نظامه المالى والمصرفى.

السويفت كود وسيلة مشفرة للتحويلات المالية عبر البنوك فرضته جمعية الاتصالات المالية العالمية التى تأسست عام ١٩٧٣ فى بلجيكا وتشترك فيها ٢٠٩ دول وأكثر من ١١ ألف مؤسسة تقوم بنحو ٤٢ مليون عملية سنويا.

ولكن ألمانيا فى البداية رفضت ولحقت بها إيطاليا لسبب بسيط أنها تعتمد على الغاز الروسى الذى تسدد فواتيره عبر السويفت كود وإلا ارتد عليها العقاب إلا أنها وافقت على استخدم ذلك السلاح الذى يوصف بـخانق المصارف بحسابات هجومية دقيقة تقلل من آثاره الجانبية.

على أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على البنك المركزى الروسى وجمدت ممتلكات وحسابات بنك «فى تى بى» ثانى أكبر بنك فى روسيا حيث تبلغ أصوله ٢٥٠ مليار دولار كما حظرت تصدير التكنولوجيا عالية المستوى إلى روسيا وعلقت تأشيرات دخول المسئولين ورجال الأعمال وأسرهم إليها.

وجمدت بريطانيا حسابات وممتلكات بوتين ووزير خارجيته سيرجى لافروف ومسئولين آخرين فى حكومته ولم يكن الخبر المثير فى التجميد وإنما فى وجود حسابات وممتلكات لهم.

ونقل رجال أعمال روس ممتلكاتهم فى أوروبا إلى شركات «أوف شور» فى «فيرجين أيلاند» ولم يتردد رومان أبراموفيتش ملك نادى تشيلسى فى تسليمه إلى جمعية خيرية لتديره.

وشملت العقوبات مسئولين أوكرانيين انفصاليين فى المنطقة الشرقية إلى جانب مسئولين كبار فى بيلا روسيا التى سمحت بوجود قوات روسية على أرضها لعبت دورا مؤثرا تجاه العاصمة الأوكرانية.

 

استهان بوتين بالعقوبات مؤكدا أن استرداد الإمبراطورية الروسية أهم من الصراعات المالية والحسابات البنكية.

وأقنعه مستشاروه مثل وزير الاقتصاد السابق مكسيم أوريشكين أن العقوبات لم تفلح ضد ليبيا وضد إيران من قبل وأن معاملات السوق السوداء فى التجارة الدولية لا تقل عن عشرين فى المائة من حجمها.

وتصور بوتين أن الصين ستعوضه عن الغرب.

لكنه لم يتوقف ــ على ما يبدو ــ عند نسبة الصادرات الروسية إلى أوروبا التى تصل إلى ٢٧ ٪ بينما لا تصدر روسيا إلى الصين سوى ١٣ ٪.

وخط الغاز الممتد من سيبريا إلى الصين لن يحمل سوى ٢٠ ٪ من الغاز الذى يذهب إلى أوروبا.

ولو اتجه بوتين إلى الصين فإن بلاده ستكون بمثابة الشريك الأصغر لنظام «غير عاطفى» اعتبره من قبل مصدرا متخلفا للسلع الرخيصة.

ولو نجح الغرب فى خلق بدائل للغاز الروسى فإن نظام بوتين سيخسر يوميا نحو ٢٥٠ مليون دولار، ولو أضيف النفط إلى المقاطعة فإن الخسائر ستصل إلى تريليون دولار سنويا.

وتحالف موسكو وبكين ضاعف من اعتماد بوتين على الحرس (الشيوعى) القديم خاصة فى المؤسسات الأمنية حيث الجنرالات مشبعين بذكريات المجد فى الإمبراطورية السوفيتية ويجدون فى تواجد حكومات ديمقراطية قريبة تعمق العلاقات مع الغرب تهديدا لقدراتهم على السيطرة الحديدية كما أنهم محافظون يرون الغرب منحرفا أخلاقيا ويكفى على حد قولهم إباحته الإجهاض والشذوذ الجنسى.

وبتكرار استخدام القوة فى الخارج والداخل تغيرت طبيعة النظام فى روسيا بشكل «لا رجعة فيه» على ما يبدو.

عندما تولى بوتين الرئاسة بالوكالة بعد استقالة يلتسين المبكرة رفض العودة إلى النظام الماضى الشمولى «مع اعترافه بإنجازاته الكبيرة» وفى الوقت نفسه نبذ نماذج السوق الحرة التى طبقت فى التسعينيات وإن بدا مقتنعا بأهمية القيم العامة مثل حرية التعبير وحرية السفر إلى الخارج. وفى أقل من سنة جن به الشعب الروسى ونحت عمال السباكة تمثالا برونزيا له فى جبال الأورال وعرض البنطلون ذى الحمالتين الذى لبسه فى متحف مدينة ماجيتوجورسك بعد انتهاء زيارته لها وراح حلوانى فى مدينة تشيليا بينسيك ينتج ساعة يد عليها صورته وافتتحت «حانة بوتين» فى ناحية أخرى من المدينة تبيع مخفوق اللبن الذى يحمل اسم «حين كان فوفا صغيرا» وفوفا اسم تدليله (من فلاديمير).

وتكونت فرقة موسيقية اشتهرت بأغنية «شخص مثل بوتين» من سماته عدم معاقرة الخمر وعدم الفرار.

وفى عيد ميلاده الخمسين قدم السيبريون إليه سيف سامورى وفطائر تغذيه وهو يصنع المستقبل وكتبت فيه قصيدة بدأت كلماتها بالحرف الأول من اسمه وختمت بعبارة: «سينصبون فى كل أرجاء الأرض تماثيل لرئيس الكرة الأرضية الأول بوتين».

أكثر من ذلك اعتبره سكان قرية بولشايا يلنيا بأنه كان «بولس الرسول فى حياة سابقة» ونشرت صحيفة محلية وصفه للخيار وبيع الكرسى الذى جلس عليه مرة فى مزاد علنى اشتراه طبيب بيطرى على أمل أن ينقل إليه «روح بوتين» ولمزيد من تلك الحكايات المثيرة يمكن الرجوع إلى كتاب ستيفين وايت «مفاتيح السياسة الروسية» فصل «الحكومة الرئاسية».

ولكن كثيرا من الانتعاش الذى شعر به المواطن الروسى بدأ ينكمش بسبب زيادة العمليات العسكرية فى الشيشان وسوريا وجورجيا وأوكرانيا.

كما أن عودة جنرالات الزمن الأحمر إلى السلطة فرض شعورا بالخوف والهمس كان قد اختفى.

 

فى العقود الأخيرة من الاتحاد السوفيتى كان الروس يتوقون إلى أسلوب الحياة الغربية متأثرين بترف يطاردهم فى أفلام هوليوود ومجلات الموضة والسجائر وثياب الجينز المهربة.

واعتقد الروس أن الحاجز بينهم وبين السوبر ماركت كان الحزب الشيوعى الذى عاش قادته فى نعيم حرموهم منه. وعندما وصل بوتين إلى السلطة فى عام ٢٠٠٠ كانوا ينظرون إليه باعتباره ضامن النزعة الاستهلاكية والسياحة الخارجية السلمية ومن ثم تمتع بدعم الطبقات الوسطى المزدهرة ودعم الغرب على حد سواء.

تمتع الروس بثمار الانفتاح واستوردوا الكماليات وسافروا إلى الخارج حتى أنهم ــ قبل وباء كورونا ــ كانوا سادس منفق فى العالم على السياحة الدولية واشتروا منازل ثانية فى أوروبا تتراوح ما بين الأكواخ فى بلغاريا والقصور فى الكوت دازور.

أصبحت هذه المكاسب موضع شك بسبب الحروب التى تشنها روسيا والعقوبات المفروضة عليها.

ستختفى واردات أجهزة التكنولوجيا الشخصية وستفقد كثير من الشركات قيمتها وسيصبح الوصول إلى كثير من دول العالم محفوفا بالمخاطر خاصة رجال الأعمال المقربين الذين جمعوا ثروات هائلة وضعت فى حسابات مصرفية سويسرية أو سوق عقارات بريطانية.

فى الوقت نفسه أدت الحروب الخارجية إلى زيادة التضخم وخفض سعر الصرف وتراجع النمو ومزيد من العزلة للنظام القائم.

ومنذ ضم شبه جزيرة القرم بدأ المزيد من الشباب ورجال الأعمال يفكرون فى الهجرة.

 

قبل أن يزداد موقفها تشددا ضد روسيا فى حربها على أوكرانيا بدا أن أوروبا نسيت على ما يبدو الدرس الذى خرجت به من الحرب العالمية الثانية.

كلفتها تلك الحرب التى استمرت ست سنوات (سبتمبر ١٩٣٩ ــ سبتمبر ١٩٤٥) أكثر من ٦٠ مليون قتيل (٢.٥٪ من سكان العالم) وتراوحت الخسائر المادية بين ١٠٠ و٢٠٠ مليار دولار بأسعار عام ١٩٤٥ (اضرب فى خمسين لتعرف القيمة الحالية) ودمر ٣٢ ألف مصنع و٧١ ألف مدينة. تسامحت أوروبا فى التهام بولندا بين أسنان هتلر وتصورت أنه سيشبع ولكن شهيته التهمت دولا أخرى فى القارة حتى كان ما كان.

بعد نحو سبعين سنة تكرر الموقف بعينه.

تساهلت أوروبا مع روسيا عندما ضمت شبه جزيرة القرم فلم يكن هناك ما يمنع من غزو أوكرانيا للمرة الثانية ولن يمنعها النظر إلى أبعد منها بل إنها هددت السويد وبولندا لرفضهما مقابلة الفريق الروسى فى مونديال قطر.

والأخطر أن ما حدث فى أوكرانيا سبق أن حصل فى الكويت حين دخلتها قوات صدام حسين فى الثانى من أغسطس ١٩٩٠ واحتاج تحريرها إلى تحالف دولى خاض حرب الخليج الأولى التى تكلفت نحو ٧٥٠ مليار دولار وتبعتها حرب الخليج الثانية لاحتلال العراق وإسقاط صدام حسين ولكن الأهم أنها أضرمت الفوضى فى النظام العربى وتسببت فيما بعد فى حروب أهلية ومواجهات ضد التنظيمات الإرهابية.

والأشد خطورة الآن رفض الصين إدانة حرب روسيا فى أوكرانيا وراحت ترصد بعيون مفتوحة كل التفاصيل وردود الأفعال حتى تختار التوقيت المناسب للاستيلاء على تايوان التى تعتبرها قطعة من الوطن الأم.

وفى الوقت نفسه يرى الغرب أن تايوان نظاما سياسيا ديمقراطيا يجب الحفاظ عليه ومركزا تكنولوجيا للصناعات الحساسة يستحيل الاستغناء عنه.

وفى يوم غزو أوكرانيا اخترقت الطائرات الصينية الحاملة لرؤوس نووية سماء تايوان أكثر من مرة ووضع البنتاجون حاملة طائرات بالقرب من تايلاند.

بدأ الطرفان عدا تنازليا لساعة الصفر.

لكن ليست ساعة الصفر قريبة.

لا تزال الصين تتجنب مواجهة الولايات المتحدة رغم شعور بكين أن واشنطن لم تعد قوة عظمى وأن صراخها أعلى من سلوكها.

 

فى الحرب الروسية الأوكرانية غابت شمس العقل غيابا كليا واستيقظت غريزة الثأر وصار الرصاص الناطق الرسمى بلسان القوة.

منذ الطلقة الأولى فقدت قطعة «الأنتيكا» التى كنا نسميها السلام العالمى ونخبئها تحت طبقة كثيفة من الفالتين خوفا عليها من الحسد.

فى هذه الحرب استخدمت للمرة الأولى أسلحة استراتيجية وهجمات سيبرانية وأكاذيب إعلامية وضربات اقتصادية وخطط استخباراتية وصور أقمار صناعية تمتلكها شركات خاصة.

وفى دنيا مفتوحة على مصاريعها دلقت الحرب سطلا من الماء فوق رؤوسنا زادت من تكاليف التدفئة فى الشتاء وضاعفت من ثمن رغيف الخبز ولتر البنزين وجرا معهما مزيدًا من التضخم نال منا جميعا.

ومهما كانت النتيجة فإن العالم أدرك أن بلاغته أصبحت فى ترسانة أسلحته. المسلحون صاروا فلاسفة العصر. وبات مؤكدا أن الزهور لا تنبت فى مواسير المدافع.