منال لاشين تكتب: بطلات شهر رمضان السريات جدًا

مقالات الرأي

منال لاشين
منال لاشين

إيزابيل الليندى واحدة من أهم المبدعات ليس فى أمريكا الشمالية، حيث ولدت وعاشت فى تشيلى، ولكنها من أهم الروائيات فى العالم، بطلاتها دوما من النساء القويات القادرات على تحدى أقدارهن، وتحقيق أحلامهن فى إطار أسطورى، وفى واحدة من أشهر رواياتها (صورة عتيقة) بطلة شابة تنتمى إلى عائلة ثرية تقليدية فى تشيلى، فتاة سمراء ذكية أهم ما يميزها عينين واسعتين تلمعان بذكاء وحماس، الفتاة من الفرع الفقير للعائلة الكبيرة، تقول يوما لحبيبها: إن أسوأ أنواع الفقر هو فقر الأغنياء، حيث يكون عليهم التظاهر بما ليس لديهم. على الرغم من أن أحداث الرواية تقع فى القرن العشرين إلا أنها لا تزال صالحة طازجة لكل الظروف والعصور، بالفعل أسوأ أنواع الفقر هى فقر الأغنياء أو المستورين لأن عليهم أن يمثلوا دوما دورا لا يملكون إمكانياته.

ولعل شهر رمضان هو أفضل شهر يتثمل فيه جهاد فقر الأغنياء أو المستورين، أو بالأحرى جهاد المرأة المصرية للعبور بأسرهن شهر رمضان بكل طقوسه وولائمه مهما كانت التحديات، والنساء الأربع اللاتى أقدم تجاربهن السرية فى الجهاد لستر أسرهن وأزواجهن هن نماذج منتشرة بكثرة فى مجتمعنا، إنها مجرد تحية بسيطة فى اليوم المصرى للمرأة المصرية والذى يأتى هذا العام ونساء مصر يستعددن للشهر الكريم، أتفهم بالطبع رفض جميع النساء ذكر أسمائهن، لأننا فى مجتمع يحترم الغنى الفاشل ولا يحترم الفقير الذكى، مجتمع ذكورى يندر أن يعترف بجهود النساء وتفوقهن.


1- نهى
منذ ثلاثة أعوام أو أكثر توقفت نهى عن شراء عباءة رمضانية جديدة لها ولبنتها الشابة، وهو ذنب لو تعلمون كبيرًا، ففى العزائم وفى صلاة العيد تتباهى النساء والفتيات بالعباءة الرمضانية، وتكرار ارتداء العباءات القديمة يكشف الفقر أمام الأهل والأقارب، مشكلة نهى أن العباءة الرخيصة تفتقر إلى ذوق الأسر المتوسطة، (كلها ترتر وبتبرق). كانت نهى تمسك عباءة عام مضى بحزن، وتفكر فى ابنتها التى خطبت منذ أشهر، وهذا أول رمضان لها، يجب أن تظهر ابنتها بالشكل اللائق أمام أهل خطيبها، فجأة أدركت نهى للمرة الأولى أن تفصيل العباءة من أسهل ما يكون..كل ما عليها أن تشترى قماش من الموسكى أو الوكالة وتقص القماش على العباءة القديمة، سخر زوجها من الفكرة، وحذرها أنها ستضيع الفلوس وأن للخياطة أصولًا، ولكنها أصرت على فكرتها، بالفعل ذهبت إلى الموسكى واشترت أقمشة قطنية وحريرية، ومن (جوجل) عرفت الألوان التى تستخدم للرسم على القماش بأنواعه المختلفة والأماكن التى تبيع الألوان. تقول لى نهى: الناس ساعدتنى بشكل لم أتوقعه سواء فى الموسكى أو محل الألوان. منحوها المعلومات والخبرة وحذروها من الأخطاء التى يقع فيها المبتدئون من أمثالها. لم تكن نهى تملك ماكينة خياطة فى ذلك الوقت، ولذلك قامت بقص القماش، وأعطته لترزى بسيط وقام هو بالخياطة.ثم بدأت مرحلة الرسم، وكانت النتيجة مذهلة، فى العام التالى كان لدى نهى ماكينة خياطة ليس فقط من أجل عباءات رمضان، ولكن لأنها تعلمت التفصيل وقامت بتفصيل كل ملابسها وملابس ابنتها. لم تعد نهى تكتفى بالرسم بالألوان على عباءة رمضان، اشترت قماش الخيامية الشهير فى الشهر الكريم، وأدخلته بذوق على العباءات. نهى تعمل موظفة وربة بيت وخياطة لأنها تبيع عباءات رمضان رغم اعتراض زوجها. قبل رمضان بشهرين أو ثلاثة يكون عليها العمل خمس ساعات لمدة خمسة أيام فى الأسبوع إضافية لتتمكن من إعداد عدد كبير من العباءات. لم تدهشنى قدرتها على العمل، ولكن ما أحزننى أن زوجها اشترط عليها أن تقوم بالتفصيل فى السر سواء لأسرتها أو للآخرين. عليها أن تنكر جهدها وموهبتها وتكذب على الجميع. سألتها: إزاى؟. قالت بابتسامة رضا: باقول إن واحدة صاحبتى هى اللى بتعمل العباءات، وأضافت مش مهم، أهم حاجة أننا نفضل مستورين. المثير أن أكثر حاجة تفخر بها نهى هى أن أولادها الذكور (لديها توأم) اعترضا على التفصيل لها وللبنت فقط، وطالباها بأن تفصل لهما قمصانًا، وملابس البيت.

 

2- رضوى
لم ترث رضوى من والديها سوى شقة واسعة فى المهندسين، ولكن عمل زوجها بـ٦ أكتوبر أجبرها على بيع الشقة والانتقال إلى الشيخ زايد، اشتريا شقتين متجاورتين أرضى، فأصبح لديهما شقة واسعة بحديقة معقولة، ما تبقى من سعر الشقة اشترت به سيارة صغيرة، رغم حزن رضوى على البعد عن أخواتها الذين كانوا يسكنون معها فى نفس العمارة، إلا أن أسوأ ما يقلقها أن معظم دخل زوجها يضيع على مدارس الأولاد، لأن المدارس الأجنبية فى أكتوبر غالية جدًا، الآن أصبح على رضوى الذهاب إلى عملها، وتربية أبنائها والذهاب أسبوعيا للحلمية حيث بيت أهلها لشراء حاجة البيت يوم السبت ورؤية أخواتها، أما يوم الجمعة فهو مخصص لاستقبال أهل زوجها، وعليها أن تعد كل شىء منزليا، وحين أقول كل شىء فأنا أقصد الكلمة حرفيا، وتحملت رضوى العبء كاملا. لم تعد تشترى مربى أو جبن أبيض أو صلصة أو خضراوات جاهزة، أو حلويات كل شىء بيتى للتوفير، فى رمضان يكون العبء غير إنسانى، وفى كل عزومة يجلس زوجها مستريحا ويؤكد للأهل والأصدقاء أنه اشترط على زوجته أنها تعمل كل حاجة فى البيت عشان صحة الأولاد، ومن أكبر تحديات الشهر الكريم انتقال حماتها للعيش معهما طوال الشهر، وبالتالى انتقال معظم السهرات الرمضانية فى منزلها، خاصة أن زوجها أعد غرفة لأمه وأسرته للمبيت. تبدأ رضوى الاستعداد للشهر بشراء فانوس كبير من الحلمية وقماش خيامية لتزين المنزل والحديقة، ورضوى تعلمت حيلة للعباءات، فهى تقوم بتعديلات على العباءات القديمة لتبدو جديدة، وتشترى المكسرات (الكسر)، ولم أكن قد سمعت هذا التعبير من قبل، ولكن رضوى عرفت من بقال فى الحلمية أن كل كيس مكسرات يكون به نسبة صغيرة تكسرت، وينخفض سعرها، فتقوم بشرائها لاستخدمها فى صنع الكنافة والقطايف. كما أنها تعودت خلط اللحم المفروم بفول الصويا حتى تزيد كميته، بالنسبة لرضوى ورغم كل هذا المجهود الخرافى فشهر رمضان هو الخير والبركة تنتظره بشوق كل عام وتبكى بحرقة على فراقه. ما أبكانى حقا أن رضوى تضطر إلى إخفاء كل هذا الجهد إرضاءً لزوجها، فمعظم الرجال فى مصر ينكرون جهد الزوجة أو مشاركتها فى مصروف البيت، أما رضوى فلديها أزمة إضافية، فعندما باعت شقتها فى المهندسين أراد زوجها أن يشتريا الشقة الجديدة باسمه، فرفضت، وحتى لا تخرب البيت أقسمت له ألا تعارضه فى أى حاجة تانية فى حياتهما، وهى تدفع ثمنا غاليا لهذا الوعد من صحتها وحياتها.


3- دنيا
دنيا مدرسة موسيقى، تصوروا مدرسة موسيقى..هكذا يقدمها زوجها ساخرا من عملها لكل المعارف والأصدقاء. لم يقل زوجها إنها تعمل فى مدرسة لغات وتحصل على مرتب جيد، وتخفيض على مصروفات أولادهما فى نفس المدرسة.لم يقل إن مكتبه للمحاماة ينمو بسرعة السلحفاة، وأنه يرفض قضايا كثيرة لأنها صغيرة وأتعابها منخفضة حتى يحافظ على اسمه، صديقتى شقيقة دينا تضحك وهى تقول: اسمه إيه دى أخره أن بواب العمارة عارف إنه محامى استئناف. زوج دينا يعتبر شهر رمضان فرصة سنوية لعزومة كل من يعرفهم، وكل من يرغب فى توطيد معرفته بهم لصالح عمله، فالمحامى علاقات.. هكذا يردد قبل شهر رمضان، وعلى دينا مدرسة الموسيقى إقامة عشرين عزومة لزوم العلاقات بالإضافة إلى عزومة أسرته وأسرتها، باختصار يتحول بيت دينا فى رمضان إلى مطعم.يدفع زوج دينا مصروفا إضافيا للشهر الكريم (٢٠٠٠) جنيه، وتخشى دينا على مشاعر زوجها لأن المبلغ لم يعد يكفى ٣ أو أربع عزومات، وعليها أن تتصرف فى باقى العزومات. اعتادت دينا مواجهة الأمر بقرض سنوى من المدرسة وتقوم بسداده طوال العام، وهكذا ينخفض راتب دينا، ويكون عليها أن تعوضه بأى شكل.

توقفت دينا عن شراء الملابس الجاهزة وتشترى الأقمشة من الوكالة وبحثت عن خياطة رخيصة، وتقوم بتعديل فساتين السهرة واكتفت بالحقائب التى لديها، ولم يكن كل هذا التوفير كافيا بسبب ارتفاع الأسعار وقلة ما يساهم به الزوج فى مصروف البيت، استطاعت دينا بمساعدة شقيقتها أن تجد مركزًا خاصًا لتعليم العزف لزيادة دخلها، وأجمل ما فى المركز أنه يغلق أبوابه فى شهر رمضان، حيث تبدأ دينا جهادها لعزومات العلاقات العامة لزوجها، ولذلك فالاستعداد لشهر رمضان يبدأ مبكرا فى بيت دينا، ورغم وجود سيدة تساعدها إلا أن الأمر يتطلب أن تقدم شقيقتها وزوجة شقيقها الدعم لدينا، ترسلان لها صوانى الحلويات والمحاشى، وعلى الرغم من تقدم زوجها فى عمله، وعلى الرغم من ارتفاعات الأسعار.. رغم هذا وذاك لم يقم زوجها بزيادة مصروف رمضان. ناقشته دينا فى الأمر الشهر الماضى فرد عليها: إن عليهم أن يدخروا عشان الأولاد ووبخها لأنها لا تعرف الادخار، وأنها ممكن أن تتخلى عن الشغالة. كاد الأمر يتحول لخناقة وشهر رمضان على الأبواب، لم ترغب دينا فى دخول الشهر الكريم وبيتهم حزين، تذكرت الأولاد وعشقها الشخصى للشهر الكريم، ورضيت بالحال، ولكنها ستضطر إلى اللجوء إلى إعطاء دروس خصوصية لتعليم العزف فى المنازل، وهى خطوة تكرهها كثيرا لأنها مرهقة وفيها امتهان للمدرس، ولكن ما باليد حيلة. خشيت أن اسألها ألم تفكرين فى التمرد على هذا الوضع الظالم..خشيت أن أفسد عليها فرحة الشهر الكريم.

 

4- فريدة
فريدة أم تعيل أسرتها بالكامل رغم وجود زوجها على وش الدنيا، بل وجوده معها فى نفس المنزل، ولكن الاتفاق الذى اتفق عليه الزوجان أصبح يلزم فريدة بكل مصروفات الأسرة عدا مصروفات المدارس والجامعة لأولادها الثلاثة، فى البداية كان دخل فريدة من عملها فى شركة علاقات عامة يكفيها لمصروف البيت والملابس والمصيف والعلاج، ولكن مع مرور الزمن وارتفاع الأسعار أصبح الوضع صعبا على فريدة، وفى شهر رمضان كانت فريدة تطلب من زوجها المشاركة معها فى نفقات رمضان فيرفض رغم أنه طبيب ولديه عيادة خاصة ويعمل فى أكثر من مستشفى، قررت فريدة منذ ٤ سنوات التمرد وأن تلغى كل عزومات رمضان وتكتفى بمصروفات البيت لرمضان، ولكنها ضعفت قبل أن يضعف زوجها، فعندما علم أولادها بقرارها حزنوا ولم يصدقوا أنهم لن يعيشوا أجواء رمضان. تضحك فريدة وهى تحكى أن أولادها كانوا يغضبون بسبب كثرة الضيوف فى رمضان وكانوا يجلسون مضطرين، وكل واحد ماسك الموبايل فى يديه. كانت فريدة تدرك أن فاتورة شهر رمضان تحتاج إلى حل غير تقليدى، من جارة سورية بدأ الطريق يظهر أمام فريدة، باعت جزءًا كبيرًا من ذهبها، ثم دخلت مع جارتها السورية فى مشروع لصنع الصابون السورى الشهير وكريمات البشرة والشعر التى تعتمد على وصفات طبيعية سورية.تقضى فريدة ٤ ساعات كل مساء هى وجارتها لصنع الصابون فى غرفة فوق سطح العمارة، بينما تتولى جارتها تسويق وتوزيع المنتجات، تعلق: المصريون بقوا بيثقوا فى شغل السوريين جدا، وهم ناس شاطرة. زاد الطلب على منتجاتهما الطبيعية المنزلية، ولم تعد فريدة تعانى من أزمة الصرف على المنزل لا فى رمضان ولا طول السنة، ولكن ثمن ذلك كان غاليا، فزوجها يرفض أن تترك عملها الأصلى خوفا من أن يفشل المشروع، وعليها أن تقوم بثلاث وظائف بالإضافة إلى وظيفة السواق لأبنائها فى النادى، فى رمضان الماضى حاولت فريدة أن تستعين بأكل بيتى من إحدى الصديقات التى تعمل فى هذا المجال، ولكن زوجها رفض رفضا باتا لأنه لا يريد أن يأكل إلا من يد زوجته، ورغم وجود سيدة تساعد فريدة فى أعمال المنزل إلا أن العبء فى رمضان يكون رهيبًا، لأنها لا تستطيع أن توقف العمل فى مشروع الصابون، ولذلك فهى تضطر إلى العمل هى وجارتها فى الفترة ما بعد السحور حتى السابعة صباحا، ثم تنام ثلاث ساعات حتى تبدأ عملها الأصلى، وحتى لا تقع فريدة من الإجهاد تقوم جارتها وشريكتها السورية بالعمل كله ثلاثة أيام فى الأسبوع لتتمكن فريدة من النوم ساعات كافية.

ما يغيظ فريدة حقا ليس قله النوم فى رمضان ولا كثرة دعوة زوجها لأسرته أكثر من مرة على الإفطار بحجة أنه الأخ الأكبر، ولكن ما يغيظها حقا أن زوجها الذى يصلى النوافل والتراويح ويختم القرآن أكثر من مرة فى رمضان، يكذب عليها يوميا فى دخله، فقد عثرت فريدة بالمصادفة على تقرير البنك الذى يتعامل معه زوجها، واكتشفت أن زوجها يملك عدة ملايين من الجنيهات ويدعى أنه ينفق كل دخله على المدارس الأجنبية والجامعة الخاصة للأولاد.

رمضان كريم وكل سنة وبطلات مصر من النساء ينتصرن على كل التحديات.