عادل حمودة يكتب: النفط والقمح وغاز النيون ثلاثى التضخم الشرس.. وتدرككم الحرب ولو كنتم فى بروج مشيدة

مقالات الرأي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة

الأزمة طالت الضارب والمضروب والغالب والمغلوب وامتدت إلى المحايد والمنحاز ووصلت إلى المساند والمتفرج

التضخم يتجاوز حدوده فى أمريكا والبنوك مهددة بالانهيار فى أوروبا وروسيا تفقد نصف احتياطيها من الدولار

الدول النامية تدفع ثمنًا أعلى حتى تحافظ على سلامها الاجتماعي

 

يصف الغرب روسيا بأنها «محطة بنزين».

ويصف أوكرانيا بأنها «سلة خبز».

وبالحرب المشتعلة بينهما توقفت «محطة البنزين» عن ضخ الوقود وتوقفت «سلة الخبز» عن إنتاج القمح ودخل العالم فى أزمة أفقدته زمام السيطرة على أعصابه التى أصبحت سلكا رفيعا يمكن أن ينكسر أمام أقل إهزازة.

لم تستثن الأزمة أحدًا.. طالت الضارب والمضروب.. الغالب والمغلوب.. وامتدت إلى المحايد والمنحاز.. المساند والمتفرج.

نال كل منهم نصيبه من انخفاض النمو وارتفاع التضخم قبل التعافى من كورونا التى يبدو أنها أدت ما عليها وتراجعت تاركة الفرصة للحرب الساخنة التى قتلت البعض بطلقات النار مباشرة وقتلت البعض الآخر بالجوع أو البرد عن بعد.

بالقطع روسيا دولة مؤثرة سياسيا وتكنولوجيا وتسليحيا بما يتجاوز وصف «محطة بنزين» ولكن الوصف مهما لو عرفنا أن إنتاجها من النفط والغاز يصل إلى ٤٦ مليون طن شهريا ويمثل ٥٧٪ من صادراتها ويضيف إلى رصيدها ٤١٨ مليار دولار ويؤثر فى أوروبا التى تستورد ٤٠ ٪ من حاجاتها منه للتدفئة ولغيرها.

وقبل أن تطلق الرصاصة الأولى فى الحرب بدأت أسعار النفط فى الارتفاع حتى تجاوزت المائة دولار وما أن هدد الغرب بمنع استيراده من روسيا حتى تحركت الأسعار وعينيها على المئاتى دولار.

وبالنسبة نفسها زادت أسعار الغاز الطبيعى.

وسعر الطاقة مثل أعلى لباقى أسعار السلع والخدمات.. تقلده وتسايره وأحيانا تتجاوزه.. لكنها فى كل الأحوال لا يمكن أن تتجاهله وإلا اعتبرت ناشزا وحبست فى «بيت الطاعة».

وبدا واضحا أن توقف «محطة البنزين» عن ضح الوقود لم يحرم أصحابها من عوائد بيعه فقط وإنما تسبب فى نقص العرض وتكالب على الطلب وجنون فى الأسعار كلف زبائنها مالا إضافيا لم يكن فى حسبانهم وهم يديرون سياراتهم أو يدفئون بيوتهم أو ينيرون مصابيحهم أو يشترون حاجاتهم.

وبدت الدول المستوردة للنفط أكثر تأثرا من الدول المنتجة.

حسب تقديرات كريستوفر بيساريدس (كلية لندن للدرسات الاقتصادية) فإن ارتفاع أسعار الطاقة سيزيد من تكلفة إنتاج السلع الأخرى ونقلها وشحنها إلى مستويات عالية خاصة فى الأسواق الناشئة.

هذه التقديرات كلفت الاقتصاد العالمى تريليون دولار (ألف مليار دولار) فى الأسبوع الأول للحرب وسرعان ما تضاعف الرقم عندما دخلت الحرب أسبوعها الثالث وتحولت من حرب خاطفة محدودة إلى حرب متأنية ممتدة.

ولكن كالعادة لم يتوزع الضرر متساويا وإنما عانت الدول الغنية أقل من الدول النامية.

أو أن الدولة الغنية (خاصة الرأسمالية) تحملت فواتيرها دون شكوى لرغبتها الملحة فى سلخ فراء الدب الروسى بينما شكت الدول النامية من ثقل فواتير الدقيق والزيت والسكر عليها وعلى شعوبها بسبب حرب ليست طرفا فيها من بعيد أو قريب.

فى تقدير المجلس العالمى للغذاء فإن أسعار المواد الأساسية ستزيد بنسبة ٢٠ ٪ على الأقل يصعب معها على كثير من الدول النامية تحملها وربما لا تجدها متوفرة فى سلاسل التوريد بسبب جنون الطلب وضعف العرض.

فقدت أوكرانيا «سلة الخبز» بعد أن ضربت القنابل صوامع تخزين الحبوب (القمح والذرة) التى كانت تمثل ٤٠ ٪ من صادراتها إلى الشرق الأوسط وإفريقيا حيث توجد مخاوف من أن يثير نقص الغذاء وارتفاع أسعاره القلق بين الطبقات الفقيرة التى تحتاج فى الظروف الصعبة إلى مزيد من الحماية الاجتماعية مهما كانت التكلفة المالية.

فى الوقت تعد أوكرانيا أيضا أكبر مصدر لزيوت البذور (مثل بذور عباد الشمس وبذور اللفت).

والحقيقة أن روسيا ليست «محطة بنزين» فقط وإنما تشارك بنصيب كبير فى «سلة الخبز» الأوكرانية وهما معا أكبر مورد للقمح فى العالم ويحتلان معا ربع صادراته وأهم زبائنهما مصر وتركيا والجزائر وإندونيسيا.

منذ سنوات تولى مصر اهتماما كبيرا بزراعة القمح حتى وصلت مساحته إلى ٣.٦ مليون فدان تنتج نحو ١٠ ملايين طن ولكنها لا تكفى إلا لنحو ٥٥.٥ ٪ من الاحتياجات المحلية التى تصل إلى ١٨ مليون طن سنويا.

ورغم زيادة الإنتاج المحلى من القمح فإن زيادة السكان (أكثر من مليونى نسمة سنويا) تلتهمها ما يعنى سد الفجوة بالاستيراد ومع ارتفاع الأسعار عالميا ارتفعت فاتورة الاستيراد وارتفعت معها أسعار الدقيق وسلع أخرى رفعت مخصصات الدعم فى الموازنة الأخيرة لتصل إلى ٣٢١ مليار جنيه.

وما أن بدأت روسيا الحرب حتى انهالت عليها قائمة من العقوبات بعضها تقليدى (مثل منع التعامل مع شركاتها مثلا) وبعضها مبتكر (مثل حرمانها من نظام سويفت كود وإلغاء ميزة الأفضلية فى تجارتها وحصارها اقتصاديا مثلا).

والمؤكد أن تلك العقوبات جمدت نصف الاحتياطى من العملات الأجنبية (٣٠٠ مليون دولار من ٦٣٠ مليون دولار) باعتراف وزير المالية أنطوان سيلوانوف.

والمثير للدهشة أن روسيا كونت ذلك الاحتياطى عندما فرضت عليها العقوبات السابقة بعد ضمها شبه جزيرة القرم (٢٠١٤) عندما فرضت على نفسها ما يعرف بـ «اقتصاد الحصن» الذى أدى أيضا إلى تخفيض العجز فى الموانة بنسبة ١٠ ٪ وتخفيض التضخم بنسبة ٣ ٪ حسب مجلة إيكونوميست.

لكن هذه المرة يتوقع أغلب الخبراء (منهم فرانكلين ألين من إمبريال كولج فى لندن ولارى ساميلسيون من جامعة ييل الأمريكية ودارون إسيموجلو من معهد ماساتشوستس) ركودا عميقا فى روسيا وفى الوقت نفسه ستجنى ثروة هائلة من ارتفاع أسعار الطاقة وستحول تجارتها من أوروبا إلى آسيا.

على أن الحرب كشفت عن مشكلة أصعب ستتسبب فى مزيد من المتاعب الاقتصادية التى لم توضع فى حساب أحد قبل الطلقة الأولى.

تعد أوكرانيا مصدر ٧٠٪ من إنتاج غاز «النيون» فى العالم الذى يستخدم فى صناعة الرقائق الإلكترونية (أو ما تسمى أشباه الموصلات الصغيرة).

تدخل هذه الرقائق فى غالبية الصناعات المتطورة تكنولوجيا مثل الهواتف الذكية وألعاب الفيديو وأجهزة الاستشعار عن بعد.

وفى صناعة السيارات لا بد من وجودها فى الفرامل والتسارع وضبط الهواء وحساسية التصادم وتحتاج السيارة الواحدة ما بين ٥٠ إلى ١٥٠ شريحة وتكلف شركات السيارات نحو ٤٠ مليار دولار سنويا وتسببت بخسارة تزيد على ١١٠ مليارات دولار لها عندما وقعت أزمة الرقائق السابقة بعد ارتفاع الطلب عليها عقب انفتاح العالم عقب انغلاق كورونا.

بسبب توقف أوكرانيا عن تصدير غاز النيون عادت أزمة الرقائق تطل بوجه أكثر شراسة مما كانت عليه من قبل.

ومهما كانت آثار العقوبات الغربية على روسيا فإنها سترتد بصورة أو بأخرى على من فرضها وهو يفرك يديه منتشيا.

فى الولايات المتحدة يواجه مجلس الاحتياطى الفيدرالى بالفعل أعلى معدل تضخم عرفه منذ ٤٠ سنة وصل إلى ٧.٥ فى المائة فى يناير قبل الحرب تجاوز ١٠ فى المائة مع بدء العمليات العسكرية وبفرض العقوبات الاقتصادية سباق الأرنب والسلحفاة بين الأسعار والأجور وبات مؤكدا رفع سعر الفائدة على الدولار لامتصاص بعض من سونامى التضخم.

وبتكوين نظام «سيب شاينا» بديلا عن نظام «سويفت كود» بدا واضحا أن اليوان الصينى بدأ فى انتزاع بعض من نفوذ الدولار فى الاقتصاد العالمى.

صحيح أن النسبة لا تزال صغيرة (لا تتعدى ٣ ٪) إلا أن كثيرا من الدول الرافضة للسياسة الأمريكية فى محيطها الجغرافى يمكن أن تنضم إلى النظام البديل فى بكين.

حسب دارايل دوفى من جامعة ستانفورد فإن «العالم سيتحرك بشكل معتدل نحو العملات المشفرة وترتيبات دفع أخرى بعيدا عن الدولار».

فى الوقت نفسه سيكتسب الذهب قيمة إضافية.

على أن الدولار لن يفقد قيمته بسهولة وسيظل رغم محاولات الفرار منه سيد العملات لسنوات طوال أخرى.

ولن تنجو أوروبا من آثار الحرب القريبة منها.

لن تكتفى بتمويل أوكرانيا بأسلحة دفاعية متطورة ولن يتوقف دعمها المالى عند استضافة اللاجئين الفارين من الموت وإنما سيكون عليها دعم أوكرانيا بشحنات الغذاء والطاقة لتواصل الصمود فى الحرب.

وخوفا من أن يتكرر السيناريو الروسى فى أوكرانيا رفعت أوروبا ميزانية الدفاع لتقوية جيوشها وحلف الناتو معا بنحو ٢.٦ تريليون دولار حسب معهد ستكهولهم لأبحاث السلام.

والأثر المباشر لزيادة الإنفاق العسكرى رفع نسب التضخم فى أسواق السلع والخدمات.

وبانسحاب أكثر من ألف شركة متعددة الجنسيات من روسيا (مثل آبل وماكنتوش وشل وأديدس وفورد وجنرال موتورز وبوينج وإيرباص) بلغت خسارتها السنوية ٣٠٠ مليار دولار كما فرضت على روسيا تجميد الأموال التى تحت يدها تنفيذا بقانون عقوبات وضع على عجل.

وانكشفت البنوك الأوروبية والأمريكية والسويسرية واليابانية بمليارات الدولارات بعد تجميد التعامل بينها وبين البنوك الروسية ما هدد بعضها بالاقتراض حتى لا تنهار سمعته بعد أن انهارت أسهمه.

انخفض سهم بنك «رايفايزن» الدولى النمساوى بنسبة ١٨.٧ ٪ بينما خسر بنك سوستيه جنرال بنسبة ١٠.٨ ٪ ولحقت به أسهم يونى كريدت بنسبة ١٠.٧ ٪ رغم أن تلك البنوك صرحت بأن تعاملاتها مع روسيا مغطاة بدرجة عالية.

وتعرض دويتش بنك الصامد فى كل الأزمات المالية السابقة (منها أزمة ٢٠٠٨) إلى انخفاض فى سعر أسهمهم وصل إلى ٩.٩ ٪ ليسجل أعلى انخفاض فى الأسهم القيادية الألمانية.

إن من السهل معرفة متى تبدأ الحرب لكن من المستحيل معرفة متى تنتهى؟.

ومهما كانت آثار الدمار واضحة فى المدن فإن ما خفى من آثار الخراب فى الاقتصاد ومستويات المعيشة أكبر وأعظم.

وفى ظل تشابك المصاح السياسية والتجارية والمالية تجاوزت الحرب أطرافها إلى باقى دول العالم مهما بعدت بالجغرافيا فإنها قريبة بالتأثر.

وكل صاروخ يطلق فى ميادين القتال تناثرت شظاياه لتنال من الدنيا كلها ولو علقت على صدرها لافتات الحياد.

لا أحد ينجو من الحرب ولو كان فى بروج مشيدة.

من لم يصب بنار الرصاص أصيب بنار التضخم.