عادل حمودة يكتب: إجراءات ساخنة فى شتوية باردة

مقالات الرأي

عادل حمودة
عادل حمودة

رفع سعر الفائدة لإعادة المليارات الساخنة بعد أن اتجهت إلى أمريكا

تحرير سعر الصرف بين أزمة داخلية فى عام ٢٠١٦ وأزمة خارجية فى ٢٠٢٢

الدولة أنفقت مليارات على صوامع القمح ومخازن الزيت ومستودعات البوتاجاز فلم تحدث أزمة

تشجيع القطاع الخاص ليسترد نسبة تأثيره فى الاقتصاد بعد أن انخفضت ٢٠ فى المائة

زيادة برامج الحماية الاجتماعية فى الموازنة الجديدة للتخفيف من زيادة الأسعار  الاستثمار هو الحل لجذب ٧٥٠ مليار دولار مصرى فى الخارج

 

يوم تولى «جيروم باول» رئاسة مجلس «الاحتياط الفيدرالى» الأمريكى فى ٥ فبراير ٢٠١٨ بدا واثقا من نفسه عندما أعلن: «سأتجنب أكبر الكبائر».

وأكبر الكبائر رفع سعر الفائدة على الدولار.

لكنه بعد ٤ سنوات فقط تورط فى «الخطيئة التى لا تغتفر» وبدأ فى مسلسل رفع سعر الفائدة على الدولار تدريجيا بنسب صغيرة ولكنها مستمرة تدريجيا وكان تبريره: «لنطفئ نار التضخم يكفينا نار جهنم».

كانت نار التضخم قد وصلت إلى نسبة اشتعال غير مسبوقة فى جملة الأسعار وصلت إلى ٧.٩٪ ــ بعد أن أقر جو بايدن مساعدات اقتصادية للمتضررين من جائحة «كورونا» بقيمة ١.٩ تريليون دولار ــ وجاءت الحرب فى أوكرانيا باحتمالات ارتفاع النسبة إلى ١٠٪ تقريبا.

والمؤكد أن رفع سعر الفائدة على الدولار سيحاصر نار التضخم فى الولايات المتحدة بمضخات تحد من حرائقها.

سيزيد ادخار الأفراد فى البنوك مما يخفض من حجم النقود فى الأسواق وينخفض معه الطلب على السلع ومن ثم خفض أسعارها.

والمؤكد أن «سندات الخزانة الأمريكية» أفضل وسائل الاستثمار وأعلاها فائدة.

هنا ستخرج «الأموال الساخنة» من الأسواق «الناشئة» لتتجه بسرعة الليزر إلى الولايات المتحدة حيث تطمئن أكثر على نفسها فى رحاب الاقتصاد الأقوى فى العالم.

الأموال الساخنة تعبير بدأ استخدامه فى سبعينيات القرن الماضى يصف التدفقات المالية التى تأتى من الخارج إلى الدول للاستثمار فى السندات الحكومية أو أسهم الشركات المطروحة فى البورصة أو شهادات الادخار التى تصدرها البنوك.

أما الأسواق الناشئة فتعنى أسواقا قريبة من صفات الأسواق المتقدمة ولكنها لم تستوف المعايير التى تؤهلها لكى تكون ضمن تلك الأسواق.

تتجه الأموال الساخنة إلى الأسواق الناشئة بحثا عن فرص مربحة للاستثمار على طريقتها لكنه فى الحقيقة استثمار غير مستقر يصفى أصوله عند أضعف الهزات المالية أو السياسية ويهرب بأمواله والفوائد التى جناها.

حدث ذلك فى مصر بعد جائحة كورونا.

وتكرر حدوثه مرة أخرى بعد الحرب فى أوكرانيا ورفع سعر الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية.

كان على مصر جذب المليارات الساخنة إليها حفاظا على احتياطها من العملات الصعبة (ولو مؤقتا) فى وقت تراجعت فيه إيرادات السياحة وزادت فاتورة الطاقة والغذاء بسبب الحرب فى أوكرانيا.

فى ٩ فبراير الماضى بدا وزير المالية محمد معيط منتشيا وهو يعلن عودة مصر مرة أخرى إلى مؤشر جى بى مورجان للسندات الحكومية فى الأسواق الناشئة بعد ثلاث سنوات من المفاوضات التى كانت على ما يبدو شاقة.

المؤشر يرعاه واحد من أهم المصارف الاستثمارية متعددة الجنسيات فى العالم ويطمئن المستثمر على أمواله.

وبذلك المؤشر ــ الذى فقدته مصر فى ٩ نوفمبر ٢٠١١ بسبب الاضطرابات السياسية ــ ستطرح وزارة المالية ١٤ إصدارا للاقتراض بقيمة ٢٦ مليار دولار لتصل إلى احتياطى مناسب من العملات الصعبة تواجه به الأزمة الاقتصادية التى فرضت على الدنيا كلها.

لجأت مصر للحل الصعب ورفعت الفائدة (واحد فى المائة) وخفضت العملة ــ أو بدقة أكثر حررتها ــ كما أصدرت شهادات بنكية بفائدة ١٨٪ لتعيد المليارات الساخنة إليها.

بدا السيناريو الأخير (٢٠٢٢) مشابها للسيناريو السابق (٢٠١٦) فلم نكرره إذا لم يأت بثمار سعينا إليها ودفعنا ثمنها؟.

الحقيقة أن سيناريو (٢٠١٦) كان ضرورة فرضتها ظروف صعبة (مثل العمليات الإرهابية) فرضت على سلطات الدولة العليا إعطاء أولوية للاستقرار الأمنى بعد سنوات من الاضطراب تراجعت فيها غالبية المؤشرات الاقتصادية.

كان سيناريو ٢٠١٦ بسبب تأثيرات داخلية.

فى ذلك السيناريو أنفقت الدولة مليارات الجنيهات على تشييد البنية الأساسية لتسهيل الحياة (محطات المياه والكهرباء والمحاور والطرق البديلة مثلا).

والأهم ما أشار إليه الرئيس بنفسه.

فى كلمته أمام المرأة المصرية تساءل الرئيس عما نفذت الدولة من مشروعات؟ هل تسببت فى آثار سلبية؟ أم جاءت بنتائج إيجابية؟.

كان المثال الأول: بناء صوامع حديثة لتخزين القمح تستوعب ٥.٥ مليون طن بينما كانت الصوامع القديمة لا تستوعب سوى ما دون المليونى طن ليترك باقى مخزون القمح فى أماكن مفتوحة (شون) تهدر مليونى طن على الأقل (نحو ٢٠٪) من الكميات بسبب الطيور والقوارض.

ما أنفق على هذا المشروع من مليارات لم تضع هباء بل وجدنا مخزونا من القمح يكفى حاجتنا لمدة أربعة شهور جعلنا لا نشعر بنقص فى القمح رغم توقف سلاسل توريد الغذاء بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا وهما معا ربع قمح العالم.

وما حدث مع القمح حدث مع البوتاجاز.

كان مخزون البوتاجاز لا يزيد عادة عن استهلاك ثمانية أيام فإذا ما أغلقت الموانئ بسبب الطقس الردىء انفجرت الأزمة وطالت الطوابير أمام موزعى الأنابيب.

لم تعد هذه المشكلة قائمة بسبب زيادة مستودعات تخزين البوتاجار إلى ٦٠ يوما.

وما حدث مع القمح والبوتاجاز حدث مع زيوت الطعام.

بفضل هذه المشروعات الاستراتيجية أمنت مصر مخزونا آمنا من السلع الضرورية جعلتها متوفرة رغم صعوبة الحصول عليها الآن.

صحيح أن الأسعار زادت ولكن الأهم أنها متوفرة.

حسب مجلس الغذاء العالمى فإن ٤٣ دولة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية نجحت فى تدبير ثمن القمح ولكنها لم تستطع الوصول إليه لتوقف سلاسل التوريد وعزوف كثير من الدول المنتجة عن بيعه إما طمعا فى سعر أعلى أو زيادة طمأنة شعوبها.

مما يثبت أن السيناريو الأخير فرضته تأثيرات خارجية.

ودون تأخر غيرت الحكومة من هياكل الموازنة العامة (٢٠٢٢ ــ ٢٠٢٣) لتواجه ما يستجد من آثار ــ ربما أشد صعوبة ــ لتداعيات الحرب فى أوكرانيا.

حسب معيط فإن الموازنة الجديدة (المتوقعة) أقرت على ما يبدو مبدأ «الأولويات».

بدأت بمزيد من برامج الحماية الاجتماعية لتجنب الفقراء آثار الحرائق المشتعلة فى السلع الضرورية وهو الشق المستعجل فى مواجهة الأزمة التى فاجأت العالم وأوجعت سكانه بدرجة أو بأخرى حسب مستواه الاقتصادى.

وجاء الدور على أنشطة التنمية البشرية (الصحة والتعليم) التى تمنح المواطن قدرة على العمل بمواصفات عالية الجودة.

وفى مرتبة تالية جاءت مساندة قطاعات الصناعة والتصدير.

ولو اتفقنا مع الحكومة فى فقه «الأولويات» ونرى أن عليها الاستمرار فلا مبرر لتغييرها فإنها فى حاجة إلى فقه «المصارحة».

حان الوقت لتشجيع استثمار حقيقى مستقر يضيف مشروعات على الأرض تزيد من فرص التصدير وتدفق العملات الصعبة بطريقة مستقرة.

ولن يأتى استثمار أجنبى إلا بتشجيع الاستثمار المحلى.

وغالبا ما يجذب المستثمر المحلى مستثمرا أجنبيا للمشاركة.

والقاعدة المستقرة: لو زاد الاستثمار المحلى دولارا زاد الاستثمار الأجنبى مائة دولار.

علينا دفع القطاع الخاص من جديد ليتصدر عملية التنمية بعد تراجع نسبته فى الناتج القومى والتشغيل بدرجة ملحوظة يرى البعض أنها هبطت من ٧٠ إلى ٥٠ فى المائة.

وبات واضحا أن معدلات التوسع فى الاستثمارات الخاصة ضعفت جدا والأسوأ أنها تركت الصناعات واتجهت إلى العقارات وأحيانا للمضاربة على الذهب.

والمؤكد أن فرصة الصناعات فى جلب عملات صعبة بالتصدير أكبر من جلب العقارات لو بيعت بالعملات الصعبة كما أن المضاربة على الذهب تعرضت لخسارة بمجرد رفع الفائدة على الدولار.

وبيعت كثير من الشركات المصرية فى مجالات حيوية متعددة إلى شركات متعددة الجنسيات وخرجت قيمة الصفقات إلى الخارج ليعيد أصحابها استثمارها هناك.

تكونت الثروات فى مصر واستفادت منها دول أخرى.

كثير من رجال الأعمال الذين بدأوا من الصفر فى مصر لهم مشروعات مربحة فى أوروبا وأمريكا.

ويصل حجم الأموال المصرية السائلة والعقارية فى الخارج إلى ٧٥٠ مليار دولار حسب تقديرات بنوك استثمارية موثوق فى تقديراتها.

هل نشجع تلك الأموال على العودة إلى مصر؟.

يجب علينا تشجيعها بحوافز مغرية.

هناك بالقطع من ينتقد القطاع الخاص ويرى أنه لا يهتم سوى بالربح وهذا صحيح ولكنه إلى جانب الربح وفر فرص عمالة وفرص تصدير.

وهناك من يؤكد أنه لا يدخل فى مشروعات تحتاج سنوات طوال قبل أن تؤتى ثمارها وهذا صحيح أيضا ولكن فى هذه الحالة يمكن للدولة تنفيذها ثم بيعها كما حدث من قبل.

ويمكن المشاركة بين القطاعين العام والخاص بشرط ألا تسمح النسبة العامة بتدخل البيروقراطية وتترك الإدارة للنسبة الخاصة.

لنراجع تجارب الصين وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة.

بل علينا مراجعة تجربة كوبا التى سمحت لمستثمر مصرى ببناء مصنع لسيارات نقل الركاب وسمحت لآخر باستثمار زراعى على مساحة ١٠٠ ألف فدان.

رأس المال يذهب إلى آخر الدنيا بحثا عن الربح فلم ينظر بعيدا ونحن أقرب إليه؟.