مي سمير تكتب: كواليس رحلة نيكسون التاريخية لـ«الشرق الأوسط»

مقالات الرأي

مي سمير
مي سمير

احتياطات أمنية غير عادية وخلف الأبهة والمواكب كانت فضيحة «ووترجيت» تسيطر على الوفد المرافق له

انتهت زيارته لدمشق بإعلان الرئيس الأسد باستئناف العلاقات الدبلوماسية

فشلت كل الأجواء الاحتفالية فى إنقاذ مستقبله السياسى وغادر البيت الأبيض فى العام نفسه

«كيسينجر» كان كئيبًا وغير منسجم مع المحيطين على نحو غير معهود

 

فى ديسمبر عام ١٩٧٣، عقب الانتصار المصرى فى حرب أكتوبر، عُقد مؤتمر جنيف للسلام فى الشرق الأوسط ووضع إطار عمل للتفاوض، بعد فترة وجيزة فى يناير ١٩٧٤، تم التفاوض والتوقيع على فك الارتباط المصرى الإسرائيلى، وفى ٢٣ فبراير ١٩٧٤، تمت استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين مصر والولايات المتحدة، وأخيرًا فى ٣١ مايو ١٩٧٤، تم توقيع اتفاقية فك الارتباط الإسرائيلية السورية.

قال الرئيس نيكسون فى مذكراته بعد خروجه من البيت الأبيض إن مصر هى «مفتاح العالم العربى»، وقد وصل الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة إلى القاهرة فى ١٢ يونيو ١٩٧٤ بعد استعدادات مكثفة و«دبلوماسية مكوكية» من قبل وزير الخارجية هنرى كيسنجر مع القادة العرب، فى كتابه، كان «نيكسون» غارقًا فى وصف «الترحيب الأكثر صخبا الذى تلقاه أى رئيس أمريكى فى أى مكان فى العالم».

إلى جانب مصر، ذهب «نيكسون» لزيارة المملكة العربية السعودية وسوريا وإسرائيل والأردن، ومنح الولايات المتحدة مكانة وسلطة على عملية السلام فى الشرق الأوسط، وصف مقال نُشر فى مجلة تايم الرحلة بأنها كانت تشكل «انتصارًا من نوع ما».

 

فى عدد خاص عن هذه الزيارة كشفت مجلة التايم عن حدوث «مساومة جادة بين نيكسون ورؤساء الدول أو الحكومات الذين استقبلوه، خلف الأبهة المرموقة والمواكب، تمت مناقشة المساعدات الفنية والمالية، بما فى ذلك عرض بناء مفاعلات نووية أمريكية للأغراض السلمية لمصر، الأهم - والأصعب - كانت المحادثات الطويلة والصعبة التى أجراها الضيوف والمضيفون حول الخطوات التالية نحو تحقيق السلام والاستقرار فى المنطقة.

كما أضافت التايم: «تضمنت رحلة نيكسون بالطبع مخاطر، ليس أقلها خطرًا رصاصة تستهدف الرئيس الأمريكى»، حسب تقرير المجلة الأمريكية الشهيرة كان هناك مخاوف من احتمال وقوع أعمال عنف ونتيجة لذلك وفى كل مكان زاره «نيكسون» كانت الاحتياطات الأمنية غير عادية، قبل وقت طويل من بدء «نيكسون» رحلته، كانت فرق من خبراء الأمن الأمريكيين تقوم بجولة فى عواصم البلدان التى سيزورها، للعمل على التفاصيل المعقدة لحمايته من الهجوم، وحشدت البلدان المضيفة جحافل من الشرطة والجنود ورجال الأمن لحراسة الرئيس الأمريكى الذى يزور الشرق بعد حرب أكتوبر ٧٣، سافرت كتيبة من عملاء الخدمة السرية مع «نيكسون»، بعضهم كان يقف دائمًا إلى جانبه، وآخرون يركبون سيارات قريبة من الخلف، وأعينهم تتجول باستمرار فوق الحشود التى تصطف فى الطريق، لكن لم يكن هناك من ينكر حقيقة أن الرئيس كان هدفًا سهلًا خلال أجزاء كثيرة من جولته حيث وقف فى سيارات مكشوفة للتلويح وإلقاء التحية على الحشود.

 

سلطت مجلة التايم الضوء عن الكواليس المتوترة التى أحاطت بالرئيس الأمريكى خلال هذه الزيارة التاريخية للشرق الأوسط، فقد كانت أجواء فضيحة ووترجيت تسيطر على الوفد المصاحب لنيكسون، كانت فضيحة ووترجيت فضيحة سياسية كبرى فى الولايات المتحدة تتعلق بإدارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون من عام ١٩٧٢ إلى عام ١٩٧٤ والتى أدت إلى استقالة نيكسون فيما بعد، نشأت الفضيحة من محاولات إدارة نيكسون المستمرة للتستر على مشاركتها فى محاولة بتاريخ ١٧ يونيو ١٩٧٢ لاقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية فى مبنى ووترجيت، بعد إلقاء القبض على الجناة الخمسة، ربطت الصحافة ووزارة العدل الأمريكية الأموال التى تم العثور عليها مع المتهمين بحملة إعادة انتخاب «نيكسون» فى ذلك الوقت.

حسب «التايم»، خلال معظم الرحلة، كان وزير الخارجية الأمريكية كيسنجر غير قادر على تذوق مساهمته فى انتصار «نيكسون» المتمثل فى هذه الرحلة التاريخية، كان كئيبا وغير منسجم مع المحيطين به على نحو غير معهود، بعد أن هدد بالاستقالة عشية الرحلة إلى القاهرة بسبب استمرار الاتهامات بأنه لم يكن صادقًا بشأن دوره فى التنصت على المكالمات الهاتفية للأمن القومى.

كانت الرحلة إلى جانب أهميتها، محاولة للهروب من أجواء الفضيحة التى هزت الولايات المتحدة الأمريكية، لهذا كان من المهم أن تكتسب الرحلة البريق الكافى لمحاولة التغطية على الأزمة، وحسب «التايم»، على نحو ملائم بدأت رحلة «نيكسون» فى مصر، أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان (٣٦ مليونًا) والأكثر قوة، فقد تم تصويرها وتنظيمها بعناية لكى تخرج فى شكل احتفالى.

تم ضبط الأجواء فى حفل الافتتاح بالمطار، استقبل السادات نيكسون بحرارة وبدأ على الفور محادثة باللغة الإنجليزية مع ضيفه، ورد نيكسون قائلًا: «كنت أتطلع إلى هذا اليوم منذ أن توليت منصبى»، مضيفا إنه يريد «إقامة علاقات جديدة بين الولايات المتحدة ومصر».

 

حضر «نيكسون» عشاءً رسميًا على أرض قصر القبة، حيث تم تخصيص جناح مزخرف حديث للرئيس الأمريكى وزوجته، تم وضع الأضواء الملونة على الشجيرات وغطى السجاد الفارسى الرائع حديقة القصر، أعطى السادات لنيكسون أعلى وسام مصرى، وهو قلادة النيل، تقديرًا لجهوده من أجل السلام، وحصل كيسنجر على الجائزة الثانية، وسام الجمهورية، وأشار السادات وهو يعلم جيدا أين تكمن القوة الحقيقية، وحتى لا يثير حفيظة نيكسون، إلى أن الوزير كان أداؤه جيدًا «تحت القيادة الحكيمة للرئيس نيكسون».

كشفت «التايم» عن بعض تفاصيل هذا الحفل وكتبت: «أحضر السادات الفتيات الراقصات، بما فى ذلك فنانة رائعة تُعرف باسم «سفيرة الحب»، التى أقنعت كيسنجر الكئيب بالابتسام من خلال تحريك يدها فى شعره، فى وقت من الأوقات، أدت فقرتها الراقصة حرفيًا تحت أنف نيكسون، جلس الرئيس مبتسمًا من الحرج، عندما انتهى الحفل أخيرًا فى الساعة ٢ صباحًا، كان نيكسون لا يزال متحمسًا مما أسماه «أكثر أيامه التى لا تنسى»، وبينما كان السادات يصطحبه، قام بمصافحة الراقصين والتقاط الصور معهم.

فى صباح اليوم التالى، حمل السادات حاشية نيكسون، التى تضم ١٢٥ صحفيًا، على متن قطار خاص وانطلق إلى الإسكندرية، على بعد ١٤٠ ميلا، ليتباهى بضيوفه، حسب مراسل التايم ويلتون وين، عندما وصل القطار إلى الإسكندرية، تلقى نيكسون استقبالا أكثر صخبًا، فى تلك الليلة، فى مأدبة العشاء التى أقامها السادات بقصر رأس التين، قال نيكسون للسادات: «هناك قول مأثور قديم»، يمكنك أن تجعل الناس يكرهونك، ولكن من المستحيل أن تجعلهم يحبونك.. سيدى الرئيس، أنهم أثروا فى قلوبنا، وأنا واثق من قلوب الملايين من الأمريكيين الذين رأوا ذلك الترحيب على شاشات التليفزيون».

فى صباح اليوم التالى، حلقت عائلة نيكسون والسادات بطائرة هليكوبتر لإلقاء نظرة سريعة على الأهرامات، فى إشارة غير مباشرة لعلاقات نيكسون المتوترة بالصحافة، قال الرئيس الأمريكى للسادات مازحًا: «يمكن للهيئة الصحفية أن تتسلق إلى قمة».

 

كشف مراسل التايم أنه على الرغم من الأجواء المرحة كان الرئيسان نيكسون والسادات يباشران بعض المساومات الصعبة التى تجاوزت ما توقعه مستشاروهم، على سبيل المثال، اتفقا على محاولة تنظيم جولة محادثات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى ومختلف الدول العربية قبل المضى قدمًا فى مناقشات واسعة النطاق فى جنيف بهدف التوصل إلى سلام عام فى الشرق الأوسط، كما اتفقا ألا تشارك إسرائيل فى المحادثات التمهيدية.

كانت القضية الرئيسية التى خاضها نيكسون والسادات هى السؤال المتفجر حول فلسطين، حسب التايم، أصر السادات على أن أى تسوية سلمية دائمة يجب أن تتضمن حلولا للمشكلة الفلسطينية، وحذر السادات نيكسون من أن «جوهر المشكلة فى الشرق الأوسط هو الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى، وما لم يتم تنفيذ ذلك فإننا نشعر أن آفاق السلام سوف تتضاءل»، ردًا على ذلك، أقر نيكسون بالمشكلة الفلسطينية وقال «ليس فى نيتنا أن يكون ما فعلناه اليوم نهائيًا، إنها بداية وبداية جيدة للغاية، ولكن هناك المزيد الذى يتعين القيام به ونتطلع إلى القيام به معك».

بعد مصر، وصل نيكسون إلى المملكة العربية السعودية حيث التقى الملك فيصل المناهض للشيوعية بشدة، على غرار ظروف اليوم، لم يشارك السعوديون بشكل مباشر فى المفاوضات، ولكن وفقا لنيكسون، كانت مكانة السعودية والملك فيصل محوريين «فى الحفاظ على الزخم نحو السلام».

وخلال زيارته لدمشق، استقبل السوريون الرئيس بأذرع مفتوحة مع «الأعلام الأمريكية ترفرف لأول مرة منذ سبع سنوات»، وفقا لنيكسون، اتخذ الرئيس السورى حافظ الأسد الخط الأكثر تشددًا فى العلن، لكن المبادرات الدبلوماسية التى قام بها كيسنجر مع الأسد فى ضوء السخط السورى والمصرى من السوفييت حيدت النبرة المعادية لأمريكا فى جميع أنحاء البلاد، على الرغم من أن السلام كان بعيدًا عن الكمال، إلا أن فك الارتباط السورى الإسرائيلى فى أعقاب حرب عام ١٩٧٣ أدى إلى وقف إطلاق النار بناءً على قرار الأمم المتحدة رقم ٣٣٨، وفى ختام زيارة الرئيس، أعلن نيكسون والأسد عن «استئناف العلاقات الدبلوماسية».

انتهت رحلة نيكسون التاريخية فى الشرق الأوسط، ولكن كل الأجواء الاحتفالية لم تنجح فى إنقاذ مستقبل «نيكسون» السياسى الذى قدم استقالته فى صيف نفس العام وغادر البيت الأبيض بعد زيارة تاريخية ساهمت فى توطيد علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم العربى على نحو غير مسبوق، اليوم بعد مرور ما يقرب من نصف قرن يبدو أن الولايات المتحدة فى حاجة لكى يقوم رئيسها بخطوة لا تقل فى أهميتها عن زيارة نيكسون للشرق حتى تسترد واشنطن مكانتها فى العالم العربى وهى المكانة التى شهدت تراجعًا غير مشهود فى ظل إدارة جو بايدن.