عادل حمودة يكتب: ألف صفحة وصفحة أمريكية عن بوتين

مقالات الرأي

عادل حمودة
عادل حمودة

أمر أم مقامر أم ينتقم لنفسه ولبلاده من إهانة الغرب

أسقط هيلارى كلينتون فى الانتخابات الرئاسية وانتصر على أوباما فى سوريا وقلب النظام العالمى فى أوكرانيا

ينظر بعين غاضبة إلى أوكرانيا ورفض التهديدات وأجبر الغرب على الانتباه إليه وسماع صوته

تأثر بحرمانه من المشاركة فى قمة الثمانية الكبار وليس بالعقوبات الغربية

 

تحت مياه بحيرة سيبيريا المجمدة يستمتع بوتين بهواية اصطياد السمك بسن مدبب يشبه الحربة.

يجمد حركته ويكتم أنفاسه ويترقب فريسته وفى اللحظة المناسبة يخترق بطنها بقوة ويتركها تتلوى حتى ترهق تماما قبل جلبها إلى مائدة العشاء.

فى السياسة أيضا كثيرا ما يلعب بالطريقة نفسها ليأخذ بثأره بعد سنوات طوال من الصبر شديد المرارة فى أسود أيام مرت عليه.

يوم سقط حائط برلين فى ٩ نوفمبر ١٩٨٩ بات واضحا أن الشيوعية السوفيتية بدأت فى الغروب.

فى ذلك اليوم لم يسمع مقدم الاستخبارات السوفيتية فلاديمير بوتين صوتا فى موسكو.

خيم الصمت على عاصمة بلاده وسيظل الصمت يحكمها فى انتظار مخلص يعيد إليها حنجرتها المصابة دون أن يتصور أنه سيكون المخلص المنتظر.

كيف يصل بخياله إلى الكرملين وهو مطرود من مدينة درسدن فى ألمانيا الشرقية حيث كان يخدم ولم يكن يحمل فى سيارته المتهالكة سوى غسالة مستعملة أهداها إليه أصدقاؤه.

إهانة قومية فرضت عليه إهانة شخصية.

لم تعد بلاده تشبه بلاده.

عاد إلى مسقط رأسه فى ليننجراد ليجدها تعود إلى اسمها القيصرى القديم «سان بطرسبورج» وعلى أنقاض مقر الحزب الشيوعى شيدت كنيسة أرثوذكسية.

هناك ولد فى مجمع سكنى متواضع وشهد وفاة شقيقه الأكبر ومرض والده الجندى فى البحرية واستمتع بفطائر جده الذى اختير ليكون طباخ لينين وستالين.

هناك أيضا حصل بوتين على شهادة جامعية فى القانون قبل أن يلتحق بمعهد «الراية الحمراء» ليتدرب على أساليب الاستخبارات من مراقبة السفراء إلى اصطياد الجواسيس.

لكنه لم يكن قد بلغ سن الأربعين عندما وجد كل شىء من حوله ينهار ما جعله يشعر بأنه منبوذ فى أمة ذليلة تسيطر عليها مافيا شرسة وحكومة فاسدة.

فى الوقت نفسه خرجت روسيا من حسابات الغرب الذى واجهته بندية طوال سنوات الحرب الباردة إلا أنها بعد أن كانت قوة دولية لم تعد سوى قوة إقليمية.

وباستهانة واضحة تصل إلى حد الازدراء رفضت الولايات المتحدة أن تنضم روسيا إلى حلف شمال الأطلنطى (الناتو) أو الاتحاد الأوروبى ولم تحترم تعهدها بعدم ضم دول أوروبا الشرقية إلى الحلف بل أكثر من ذلك ضمت دول البلطيق الثلاث (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) إلى الحلف ووجهت أجيالا متطورة من الصواريخ فى اتجاه موسكو وادعت أنها تستهدف إيران ولم يكن ذلك صحيحا.

فى الوقت نفسه عانت روسيا من اضطرابات سياسية حادة دفعت ميخائيل جورباتشوف إلى الاستقالة بعد محاولة قتله والانقلاب عليه ولم يكن خليفته بوريس يلتسين ليفيق من الخمر وترك ابنته تاتيانا دياتشينكو وزوجها مدير الإدارة الرئاسية فالنتين يوماتشيف والمصرفى الشهير سيرجى إيمليان يستولون على ٦٥٥ مليون جنيه إسترلينى فى صفقات فاسدة مشبوهة.

لكنهم بعد مرض يلتسين وضعف سيطرته على البلاد بحثوا عن مساعد قوى يعيد إلى روسيا قوتها واختارت تاتيانا بوتين الذى كان يتولى منصب مدير أمن الكرملين بتوصية من أستاذه فى كلية الحقوق أناتولى سوبتشاك.

كانت الصفقة سهلة أن يمسك بالسلطة ويترك لهم الثروة دون محاكمة.

أصبح ضابط الاستخبارات صارم الوجه حاد النظرات الذى يمشى مثل دب نحيف فى حركة بطيئة (سلو موشن) الرجل القوى فى موسكو.

فى ليلة رأس السنة عام ١٩٩٩ أصبح رئيس روسيا بالنيابة وسط حالة شعبية وكادت توصله إلى حالة عبادة الفرد.

كان كل همه استعادة قوة روسيا المفقودة ليسمع العالم صوتها من جديد بعد أن استرد الاستقرار الضائع فى البلاد دون أن يمنعه تظاهرات الغضب التى طالبت برحيله بعد أن سيطر على الميديا والمعارضة وأبعد الليبراليين وجاء بالمتشددين الذين نظروا إلى الوراء فى نشوة.

فى ٧ مايو ٢٠١٢ انتخب رئيسا لمدة خمس سنوات ولكن وزير الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون شككت فى النتيجة وطالبت بتحقيق كامل حول تزويرها والتلاعب بها.

اعتبر بوتين تصريحات الوزيرة إشارة منها إلى معارضيه بالتحرك ضده وفسرها على أنها حرب باردة جديدة رحب بها مبتهجا.

أن تعاديه الولايات المتحدة معناه أنها تراه ندا لها مرة أخرى بعد عشرين سنة من تجاهل وإهمال بلاده.

فى يونيو ٢٠١٢ وقعت المواجهة الأولى بينه وبين الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال انعقاد قمة العشرين فى المكسيك.

لم يتراجع أوباما عن سحب الصواريخ الأمريكية من شرق أوروبا مما استفز بوتين لكن ما أثار أعصابه أكثر كان أسلوب أوباما فى التعامل معه الذى لم يخل من الازدراء.

علنا ثأر بوتين لنفسه بأن وبخ أوباما معددا الإخفاقات الأمريكية على مر العصور.

لكن أوباما تجاوز التوبيخ موحيا بضعف اقتصاديات روسيا التى لا يزيد ناتجها المحلى سوى عن نسبة ضئيلة مما تحصده الولايات المتحدة.

لم يضع أوباما فى اعتباره القوة النووية الروسية وحضارة القياصرة فى فنون الباليه والعمارة وثروات الطاقة التى تموت أوروبا من البرد إذا ما قطعت عنها.

وصلت الحرب الباردة الجديدة بين الرئيسين إلى مستوى غير مسبوق تعمد فيه أوباما إذلال بوتين عندما أوحى إليه بأن الغرب الذى دمر بلاده من قبل يسهل عليه تكرار ما فعل.

أجمع محللو وكالات الاستخبارات الأمريكية على أن بوتين لديه عقدة نقص كبيرة سببها أن الغرب لا يأخذه على محمل الجد.

أصبح على بوتين إجبار الغرب على الانتباه إليه وسماع صوته واحترام وجوده.

فى عام ٢٠١٢ تدخل فى سوريا متحالفا مع بشار الأسد الذى كاد أن يسقط عن حكمه بسبب معارضة قوية تتلقى دعما عسكريا من الولايات المتحدة.

كانت سوريا أول ميدان تتحول فيه الحرب بين موسكو وواشنطن من البرودة إلى السخونة.

لم يشأ فوز الغرب فى سوريا بعد فوزه فى العراق وليبيا.

اللافت للنظر أنه شاهد فيديو مقتل معمر القذافى والتمثيل بجثمانه ودفنه فى مكان مجهول أكثر من مرة وأطال النظر إلى فيديو القبض على صدام حسين فى حفرة ومحاكمته وإعدامه مؤكدا أنه يأخذ مثل هذه الأمور بجدية وكأنها أمور شخصية يمكن أن تحدث له فالغرب يتصرف بقسوة شديدة إذا ما سقط أنصاره فما بالنا بالقسوة التى سيتعامل بها إذا ما سقط خصومه.

اعتبر بوتين التظاهرات المعارضة فى ميادين مدن روسية مشابهة لثورات الربيع العربى وصورة أخرى من صورها.

تلك المقارنة جاءت فى صالح الأسد الذى أمده بوتين بالجنود والعتاد والسلاح ليحافظ على نظامه ومن جانبها تصورت الولايات المتحدة أن روسيا يمكن أن تستنزف فى سوريا كما استنزفت من قبل فى أفغانستان ولكن تصورها لم يكن صائبا.

بل إن نجاح بوتين فى سوريا شجعه على النظر بعين غاضبة إلى أوكرانيا.

كانت التظاهرات الشعبية فى كييف ترفض سيطرة روسيا على الحكم ممثلة فى الرئيس فيكتور ياكوفيتش الذى تولى السلطة فى فبراير ٢٠١٠ ولكن قبل أن يرحل عنها فى فبراير ٢٠١٤ واجه تظاهرات قوية منحازة للغرب استخدم ضدها كل ما لديه من وسائل البطش.

ما استفز بوتين أن مستشار أوباما انضم إلى المتظاهرين فى ميدان الاستقلال ووزع عليهم الماء والطعام بنفسه.

أطاحت الثورة بالرئيس ياكوفيتش واتهمته بالفساد ووصفته بالدمية الروسية وأجبرته على الفرار إلى موسكو بطائرة هليكوبتر حمل فيها كثيرا مما جمع من تحف وآثار وحلى.

فى يوم ٢٣ فبراير ٢٠١٤ انتهت دورة الألعاب الشتوية الروسية وسافر بوتين إلى البحر الأسود فى رحلة بدت إجازة وإن كشفت ما خفى منها بعد أيام قليلة.

ليلة ٢٧ فبراير تحركت قوات روسية إلى أوكرانيا وفى الصباح أكملت احتلالها لشبه جزيرة القرم وقاعدتها البحرية.

فوجئت الولايات المتحدة بما حدث واعتبرت ما فعل بوتين غير مقبول وفرضت عليه وعلى بلاده عقوبات طالت خمسين من أنصاره الأثرياء وصادرت ممتلكاتهم فى الغرب.

سرا بدأت وكالة المخابرات المركزية (الأمريكية) فى تكليف مجموعات من الباحثين سياسيا ونفسيا واستراتيجيا لوضع تقرير عن الرئيس الروسى وكان السؤال الذى وضع أمامهم: «هل هو مفكر أم لاعب شطرنج أم مقامر؟».

وفيما بعد انتهى التقرير الذى كتب فى ألف صفحة مستخدما كلمة «أفوس» الروسية التى تعنى أنها رؤية ما سيحدث.

لم تؤثر العقوبات فى بوتين بقدر ما أثر فيه حرمانه من المشاركة فى قمة الثمانية الكبار فى العالم.

فى عام ٢٠١٦ احتفل بالانتصار على داعش فى مدينة تدمر الأثرية (محافظة حمص) التى استردتها قواته من التنظيم الإرهابى.

وباختياره للچنرال فاليرى خيراسيموف رئيسا للأركان أصبحت الحرب التى تشنها روسيا هجينة تجمع بين التجسس والتنصت وجمع المعلومات والعمليات العسكرية والهجمات السبرانية.

ورغم أنه لا يشاهد التليفزيون إلا قليلا فإنه افتتح فضائية «روسيا اليوم» بخمس لغات مستهدفة ٧٠٠ مليون مشاهد من مختلف أنحاء العالم.

واستخدمت «روسيا اليوم» حرب الكاميرات فى تشويه سمعة النظام الرأسمالى الديمقراطى حيث تشكل حرية التأثير فى الرأى العام نقطة ضعفه.

ولكن الأخطر كانت الحرب الإلكترونية التى وجهتها ضد هيلارى كيلينتون فى الانتخابات الرئاسية حيث نشر الروس مليون تغريدة ضدها من مواقع صممت فى الولايات المتحدة نفسها واخترق الهكرز موقعها ونشروا إيميلاتها وفى النهاية نجحوا فى إسقاطها.

بدا منافسها دونالد ترامب أقرب إلى بوتين وكان تفسيره: إن الانتخابات كانت بين امرأة مجنونة ورجل مشاغب ولم يكن هناك مفر من التعامل مع المشاغب على الأقل يمكن الحديث معه.

لكن ترامب لم يستطع رفع العقوبات المفروضة على بوتين خاصة بعد التحقيق معه فى مدى التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية.

لجأ بوتين إلى قاعدة «لا تعترف بشىء وانكر كل شىء ووجه الاتهامات إلى عدوك» للهروب من كل الاتهامات التى وجهت إليه وخرج منها كما تخرج الشعرة من العجين فكل ما تحصل عليه روسيا من معلومات تحولها إلى طرف ثالث هو ويكيليكس ليستخدمها.

بما فعل فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية ثأر بوتين لنفسه محققا انتقاما موجعا ووجه ضربة قوية للديمقراطية الغربية.

وفى اليوم الذى التقى فيه دونالد ترامب شعر بالمساواة للمرة الأولى بينه وبين الرئيس الأمريكى.

وما أن جاء جو بايدن إلى البيت الأبيض حتى تدهورت العلاقات بين واشنطن وموسكو من جديد بل إنها تجاوزت الإيحاءات إلى التصريحات.

وصف بايدن غريمه الروسى بأنه «قاتل» وردت الميديا الروسية عليه متهكمة من خرف الشيخوخة الذى يعانى منه.

لم يعد كل منهما يطيق الآخر.

ودون تردد ذاب جليد الحرب الباردة بسخونة السلاح الروسى فى أوكرانيا

إنها كلمات أوجعت بوتين وأثرت فى نفسيته ولكنها غيرت النظام العالمى كاملا.