د. رشا سمير تكتب: مي زيادة..سيدة القلم التي مزقها الألم في جحيم العصفورية

مقالات الرأي


                                     

حين تعشق الأنثى يسكن كل شئ فيها ويبقى قلبها نابضا بالشوق..حين تعشق الأنثى تتوارى كل حروف الهجاء ويبقى فقط حرفي "الحاء" و"الباء" هما كل أبجديتها.
حين تعشق الأنثى تتحول القوة بداخلها إلى لين، والسطوة إلى ضعف، والتحدي إلى حالة سلم غير مشروطة.
فماذا لو كانت تلك الأنثى ليست مجرد إمرأة عادية بل هي كاتبة وشاعرة ومفكرة وصاحبة أشهر صالون ثقافي في العالم العربي وقتما لم يكن مسموحا للنساء لا بالبوح ولا بالعشق!.
تلك هي الحكاية..حكاية بدأت بطلقة حبر وانتهت بدمعة حزن.
إنها حكاية أديبة وكاتبة عربية وُلدت في الناصرة عام 1886، اسمها الأصلي هو ماري إلياس زيادة، واختارت لنفسها اسم شُهرة هو مي زيادة.

سيدة القلم:
لم تكن مي إمرأة عادية بل كانت سيدة ذواقة للموسيقى ولكل ما له صلة بالفن، تكتب الشعر والمقالة والخواطر والقصة، تتقن تسع لغات وتكتب بالعربية والفرنسية، أول ديوان نشرته كان بالفرنسية عام 1911 تحت اسم مستعار هو إيزيس كوبيا التي كانت توقع به كتاباتها في بداياتها، ثم تخلت عنه لاحقا.
قصة مي زيادة وعشاقها مثل طه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وأنطون الجميّل، وأمير الشعراء ثم أحمد شوقي، وصداقتها بجبران، قصة كُتب فيها عشرات الكتب والدراسات، إلا أن تلك الرواية التي بين أيدينا اليوم هي رواية مختلفة تتناول مرحلة في حياة مي زيادة لم تتناولها الأقلام من قبل، رواية في 350 صفحة صادرة عن دار الآداب كتبها الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج بلغة رومانسية حالمة، في رأيي إنها رواية مختلفة عن كل روايات واسيني الأعرج التي ما دام تناولت الأوضاع في الجزائر والثورة الجزائرية إلا أنه في هذه المرة ينطق بصوت مي ويصرخ بآلامها..إن الرواية تدور في السنوات التي تم الزج فيها بمي زيادة في العصفورية أو مستشفى الأمراض العقلية لتعيش كابوس قيل أنها كتبت عنه مذكراتها ولكن...
أين تلك المخطوطة؟! هذا هو الخيط الذي إلتقطه واسيني ببراعة وذكاء شديد ليخلق منه رواية بديعة.
من أين جائته الفكرة؟ وكيف توالت الأحداث؟ وكيف سار واسيني خلف الخيط الذي قاده إلى المزيد من الخيوط؟ وكيف نسج من كل تلك الخيوط رواية من الدانتيلا الناعمة؟

وتلك كانت البداية:
كنا على موعد غير مرتب له، أنا والروائي المتميز واسيني الأعرج، كان هذا اللقاء من خلال مشاركتنا معا في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب، قبل أن نصبح أصدقاء.
جلست بجانبه ودار بيننا حديث إستمتعت به حول آخر رواياته، أخذني الفضول لأعرف..
لماذا مي؟ وكيف وصل إلى كل تلك المعلومات عنها؟
بدأ يروي لي وسط إنتباهي وإنبهاري بحرصه على طرح موضوع حاول الكثيرون أن يثنوه عنه..روى كيف ذهب إلى بيتها في شحتول، وطار إلى موطن ميلادها في الناصرة بفلسطين ليلملم خيوط المؤامرة، ثم إنتقل في مرحلة أخيرة إلى بيروت بمنحة من الجامعة الأمريكية writer’s residence ليقتفي أثر الأديبة الرقيقة، ثم إنتهت الرحلة بمصر حيث زار المقابر التي دُفنت بها مي.
تواصل مع رئيس بلدية الناصرة السابق رامز جرايسي الذي أفاده حسب ما قال لي بمعلومات كثيرة عن مي..
إنه إذن "جوزيف" إبن عمها الرجل الذي أحبته وآمنت له فسلمته أموالها ونفسها، وحين لعب الشيطان برأسه، أقنعها بأنها مريضة بعد وفاة أهلها والأهم بعد فاة جبران الذي كان طوقا للنجاة لها كلما همت أن تغرق في مآسي الحياة، أقنعها أنها يجب أن تهرب من طمع أهلها وتتوارى حتى لا يسرقون أموالها، فصدقته.

صدمة الفقد وتخلي الأحبة:
أصيبت مي بعد وفاة والدها ووالدتها ومن بعدهما الصديق والحبيب جبران خليل جبران باكتئاب حاد، وفقدت الرغبة في الطعام، ليظهر إبن عمها من جديد مستغلا حالتها النفسية السيئة ليجعلها تتنازل له عن ممتلكاتها، ويقنعها بأن تدخل العصفورية أو مستشفى الأمراض العقلية متهمها ظلمًا بالجنون.
قال لي واسيني:
" شئ لا شعوري دفعني إلى الكتابة عنها، بعد أن مستني بشدة القصة التي روتها أعظم أديبات الشرق عن الفترة الأليمة التي قضتها في المستشفى..وقررت أن أبحث لأكتب وأنقذها من جديد"
يقول واسيني: "لم أحب أبدا موقف طه حسين والعقاد اللذان كانا من عشاقها ومع ذلك آثرا الصمت إزاء ما حدث لها وصمتا فلم يدافعا عنها، أما عن أمين الريحاني، فقد صمت في بداية الأمر ثم بعد فترة إستيقظ ضميره فأوكل المحامين للدفاع عنها".
الوثائق تم إستثمارها جيدا في هذه الرواية والجزء الخيالي في الموضوع غاص فيه الروائي تحت جلدها ليكتمل البناء عن حكايتها، أو دعوني أقول أنه أكمل باقي الحكاية التي لم تحكيها.
مخطوطة ليالي العصفورية:
إنها مخطوطة "ليالي العصفورية" تلك التي دفعت الراوي ومساعدته روز يطاردان تلك المخطوطة الضائعة التي توثّق ليالي العصفورية بكل ما فيها من فجيعة وأسرار وانكسارات، بين أماكن مختلفة عبرتها هذه المخطوطة، آخرها كان المكتبة الوطنية الفرنسية- فرانسوا ميتران في قسم المخطوطات العربية، وتنافس عدة جهات في الحصول عليها. 
تروي مي قصة الظلم والألم الذي تعرضت له في ثلثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية، باعها الأهل وتخلى عنها الأصدقاء وجلس الأحبة في مقاعد المتفرجين، حتى مصطفى صادق الرافعي الذي لقبها يوما بسيدة القلم إلتزم الصمت وتوارى..
هنا تعرج بنا الرواية إلى مسألة الإرث ومي كمثال للظلم الذي تجابهه المرأة العربية في مسألة الإرث.
تبدأ الرواية برحلة البحث عن المخطوطة، ما بين يقين أنها موجودة وكلام أنها إختفت بفعل فاعل..إلى أن يصل الراوي ومساعدته إلى المخطوطة، وما بين رعشة فض الصفحات تنساب الكلمات وتئن الحروف...
ليالي العصفورية...تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941.

رسالة مي إلى الله:
كتبت تقول:
" هم يرودنني أن آكل، فيؤكلونني بالقوة، وأنا أريد أن يعاملوني معاملة تليق بإمرأة طبيعية، بكاتبة منحت روحها وحياتها لكل ما هو جميل في هذه الدنيا، من دون أن تطلب مقابلا، أتسائل أحيانا لماذا كل هذا؟ لا أحد سمع نداءاتي الخفية والمعلنة، لا أحد كلف نفسه سماعي.
كل وسائلي ورسائلي إرتطمت بأسوار العصفورية الثقيلة، لا أملك وسيلة للإستمرار إلا أن أصرخ يأسا أو أغمض عيني وأرمي بنفسي في عمق الدوامة التي لا بداية لها ولا نهاية، دوار من الخوف الملون
كيف حدث كل هذا يا الله؟ وبشكل سريع وفجائي وقاتل؟ وبتواطؤ كل من عرفتهم، وبصمتهم.
منكسرة أنا، حتى القلب والروح، لا أصدق ما يحدث لي"
هل كتبت مي تشكو أمرها إلى الله؟ أم أنها كانت تكتب ليأتي من بعدها من يقرأ حزنها.
على مدار الصفحات تروي السطور فقط آلام مي وتصف هي بقلمها شعورها، وتنتهي الرواية بخروجها من العصفورية شاحبة، مهزومة ومنكسرة، لم تعد صاحبة الصالون الشهير سوى إمرأة مستكينة طريحة الفراش.
لم يتكلم أحد عنها بعد خروجها غير أمين الريحاني الذي اعطاها منزلا بعدما وجدت نفسها مفلسة تمامًا. لتعود بعد كل ما حدث إلى الجامعة الأمريكية في ويست هول من جديد وتُلقي محاضرة بعنوان " رسالة الأديب" وسط ترقب الجميع، لدرجة أن بعض ممن تسببوا في دخولها العصفورية كانوا ضمن الحضور..يالها من قسوة!.
كانت مهمة إنتحارية لتثبت للعالم أنها عاقلة وأن العالم هو من فقد عقله..
ما أغرب أن ترى جوزيف بين الحضور، يزداد ضمورا واضحملالا..تسائلت مرارا وهي على المنصة هل تعفو عن قبحه القاتل أم تعطف على حالة بؤسه؟

في النهاية:
إنها رواية تستحق القراءة، تفيض بالشجن وتلقي الضوء على إنسانة ملكت القلم لتسرد ولكنها لم تمتلك السيف لتدافع عن نفسها..
سرد مميز سلط فيه المبدع واسيني الأعرج الضوء على مرحلة هامة من تاريخ كاتبة لمع نجمها في السماء ثم هوت وذبلت أوراقها. 
هذه الرواية هي ببساطة وصية مي في آخر أيامها حين إختتمت مذكراتها بجملتها الشهيرة: "اتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني".
                                                [email protected]