د. رشا سمير تكتب: جري الوحوش ونفس الوشوش

مقالات الرأي

بوابة الفجر

 

منذ أيام وأثناء بحثي المعتاد عن أي شئ على شاشة التلفزيون يستحق المتابعة، في خضم السفه والتفاهة والتردي الذي يعرض علينا كل يوم تحت عنوان الأعمال الدرامية وبرامج التوك شو والأغاني الهابطة وغيرها..

لمحت على إحدى القنوات تترات فيلم (جري الوحوش) فتوقفت في الحال وداهمني شعور متناهي بالسعادة لأن هذا العمل الذي شاهدته بنفس الشغف مرات ومرات هو بلا منازع من أعظم وأقوى الأفلام التي قدمتها السينما المصرية على مدار تاريخها الزاخر بالإبداع.

الفيلم ملحمة درامية من إخراج علي عبد الخالق، وتأليف محمود أبو زيد، لا أتصور أن هناك سيناريو في تاريخ السينما المصرية إستطاع أن ينافس سيناريو هذا الفيلم والمعاني المستترة وراء الحوار، ولا الأداء التمثيلي المبهر للاساتذة نور الشريف ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي.

وكأن قصة هذا الفيلم تدعونا اليوم لنتأمل من جديد ما يحدث بنفس الشكل بل وبطريقة أسوأ ونصفق لقصة هي قصة كل زمان ومكان..

توقفت قليلا أمام السيناريو العبقري وقفشات الفيلم التي هي إنعكاس مُضحك ومُبكي في آن واحد لواقع عشناه ونعيش أسوأ عصوره اليوم.

مغزى الفيلم يكمن في رسالتين..

الرسالة الأولى هي الأقدار والنصيب وما قسمه الله ولا يرضي البشر، فقسمة الله عادلة ونصيب الفرد من السعادة هم الأربعة وعشرون قيراط من مال وبنون وسعادة وصحة ونجاح..وكلما إزداد طمعا إزدادت مصائبه، إنها رسالة كل العصور والتي أصبحت جلية اليوم فالكل يلهث وراء كل شئ، بل أصبحت طبيعة البشر اليوم هي الصراع الدائم، الصراع بين ما منحه الله للإنسان وبين ما يطمح إليه..ومن الطموح ما قتل!

هكذا جاءت جملة قالها حسين الشربيني الرجل المؤمن بالأقدار وبإرادة الله المتمثلة في الكون، في نهاية الفيلم هي حدوتة الحياة:

)) لو كنت راجعت حسبتك ماكنتش خسرت قيراط واحد من الأربعة وعشرين قيراط بتوعك ((

نعم..الأربعة وعشرون قيراط..فقط لمن يرضى!

كما قدم الفيلم رسالة أخرى أشد أهمية وحساسية وهي الصراع الأبدي بين ما يقوله العلم وما يقوله الدين! وهل تتعارض الآراء أم أن الرسالة فقط تكون مكتملة الأركان بإتحاد الشقين..

حسين فهمي في الفيلم مثل دور العالم الذي لا يؤمن بخلقة الله ولا بما جاء متنافيا مع العلم بالنسبة له، فكان طوال الوقت يسخر من حسين الشربيني الذي لقبه بأبو جهل لأنه تمسك بما جاء بالدين حتى لو بدا متنافيا مع العقل..

وجاءت في نهاية الفيلم الآية القرآنية العظيمة لتضع كلمة النهاية على كل القصص المتشابهة..

بسم الله الرحمن الرحيم:

)) وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) صدق الله العظيم

إن القصة تتكرر كل يوم وجري الوحوش لم يكن دراما لزمان مضى بل هو دراما كل زمان ومكان وتلك هي عظمة الدراما وقوتها..البقاء.

أكم من أعمال درامية ننساها عقب أن تنزل كلمة "النهاية" على الشاشة وكأنها ليست فقط نهاية العمل بل نهاية وجوده في عقول المشاهدين! وأكم من أعمال تضحكنا وتبكينا وننساها فور خروجنا من قاعات العرض..

"القيمة" يا سادة هي ما يبقى من أي شئ، من العمل الناجح، إلى الرواية الجيدة، من الفن الراسخ وحتى الموسيقى الحالمة وريشة المبدعين...القيمة!

أين ذهبت قيمة الأشياء؟ أين إنزوت المعاني الجميلة؟ لماذا عدنا وكأننا وقعنا في قبضة عصور الجاهلية الأولى من جديد؟!

إن البشر لازالوا في صراع بل إضطرم وأصبح أكثر حدة من أجل الفوز بالمناصب والمال، لم تفلح الرسالة في تغيير جري الوحوش الذي تحول إلى صراع الوحوش..

لا أجد ما أختم به مقالي خير من الكلمات التي جاءت في نهاية الفيلم على لسان "عبد القوي شديد" حين تكشفت له الحقيقة العارية..أن المال لا يشتري السعادة وإن كان مجرد وسيلة..

)) عرفت أن الفلوس تقدر تشتري الأكل لكن ماتقدرش تشتري النفس اللي تاكل،

تقدر تشتري الدواء لكن ماتقدرش تشتري الصحة،

تقدر تشتري السنين لكن ماتقدرش تشتري النوم((

واجري يا ابن آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش!

                    [email protected]