د.محمود جلال يكتب: الابتكار في الهند من منظور مؤشر الابتكار العالمي (ج2)

مقالات الرأي

الدكتور محمود جلال
الدكتور محمود جلال

في أعقاب جائحة فيروس كورونا (COVID-19) أصبح الاستثمار في البحوث والتطوير ليس فقط أمرًا بالغ الأهمية لنمو الاقتصاد الهندي، ولكن أيضًا لأمن وصحة ورفاهية شعبها، ويلعب البعد المالي دورًا حاسمًا في تحفيز جهود الابتكار هذه، وهو الدور الذي تلعبه المؤسسات الحكومية والصناعة وأصحاب رؤوس الأموال المخاطرة (VCs) وعوامل تمكين النظم البيئية الأخرى في تعزيز وتمويل الابتكار في الهند.

حيث ارتفع إجمالي الإنفاق المحلي على البحوث والتطوير ليصل إلى 68 مليار دولار أمريكي المعادل بالقوة الشرائية (PPP)، وهذا الحجم من الإنفاق لا يمثل إلا 0.6% من الناتج المحلي  الإجمالي، وكانت تطمح الهند قبل الجائحة إلى استثمار 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في البحوث والتطوير بحلول عام 2022، والذي يصعب تحقيقه حاليًا.

وليتحقق هذا المستهدف لن يتم من خلال فقط زيادة الإنفاق الحكومي والذي يمثل 63.2% من إجمالي الإنفاق على البحوث والتطوير بالهند، ولكن أيضًا من خلال زيادة مساهمة الصناعة بحيث ترتفع من نسبة 36.8% إلى 60% من إجمالي الإنفاق على البحوث والتطوير.

الأمر الذي يمكن من الاستثمار في المجالات التي توجد بها فجوات في السعة والقدرة البحثية، وزيادة الإنفاق بشكل كبير على البحوث والتطوير في كل من القطاعين العام والخاص في المجالات الأكثر أهمية لها مثل الأدوية الحيوية واللقاحات والأمن الحيوي ومجالات تحالف صحة واحدة والصحة الرقمية وعلوم البيانات، والتركيز على تطوير القدرات التصنيعية للأدوية ووسائل التشخيص ذات الأولوية، حتى يكون اقتصادها فعليًا قائمًا على الابتكار. 

هذا وتستحوذ 12 مؤسسة علمية على معظم الإنفاق الحكومي على البحوث والتطوير، حيث تم إنفاق 61.4٪ على البحوث والتطوير في الدفاع والطاقة الذرية والفضاء، بينما تم تخصيص الباقي على النحو التالي: 

11.1٪ للمجلس الهندي للبحوث الزراعية (ICAR)، و9.5٪ لمجلس العلوم والبحوث الصناعية (CSIR)، و7.3٪ إلى قسم العلوم والتكنولوجيا (DST)، و3.7٪ إلى قسم التكنولوجيا الحيوية (DBT)، و3.1٪ إلى المجلس الهندي للبحوث الطبية (ICMR)، و3.7٪ إلى وزارات علوم الأرض، والإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات، والبيئة والغابات وتغير المناخ، والطاقة الجديدة والمتجددة.

والعديد من هذه المؤسسات العلمية تقوم بتطوير التكنولوجيات القابلة للتسويق، حيث قام DST بإنشاء مجلس تطوير التكنولوجيا (TDB) في عام 1995 والمهتم بتسويق التكنولوجيات المحلية، ويتم تمويل هذا المجلس من ضريبة البحوث والتطوير التي تجمعها الحكومة من الصناعة على واردات التكنولوجيا، وذلك ليقدم الدعم المادي للشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة كقروض ميسرة أو مقابل حقوق ملكية، لمعاونة هذه الشركات في تطوير وتسويق التكنولوجيا المحلية وتكييف التكنولوجيا الأجنبية لخدمة التطبيقات المحلية وتعزيز حقوق الملكية الفكرية في الصناعة الهندية، كما دعم المجلس 11  صندوقًا لرأس المال الاستثماري ليصل إجمالي التمويل المقدم إلى أكثر من 350 مليون دولار أمريكي.

كما قام DST أيضا بإنشاء المجلس الوطني لتطوير العلوم والتكنولوجيا لريادة الأعمال (NSTEDB) في عام 1982 لتعزيز الشركات القائمة على المعرفة والتكنولوجيا، حيث قاد المجلس التجمعات العلمية والتكنولوجية، والحاضنات، وأنشأ حاضنات الأعمال التكنولوجية في المؤسسات الأكاديمية وكشركات خاصة غير ربحية، والتي تم بعد ذلك تبنيها في العديد من الوزارات والإدارات الأخرى التابعة للحكومة، بما في ذلك وزارة الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات ووزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

وكذلك قامت DBT بإنشاء مجلس المساعدة في بحوث صناعة التكنولوجيا الحيوية (BIRAC) في عام 2012 كوسيط بين الجهات الأكاديمية والصناعة لتعزيز وتمكين القطاع الناشيء الخاص بعلوم الحياة ودعم الابتكارات ذات الصلة، حيث يقوم بدعم المبتكرين من الأوساط الأكاديمية أو الشركات الناشئة أو الحاضنات الذين لديهم أفكار إبتكارية هامة في مراحلها الأولية عالية المخاطر.

ويوجد اليوم أكثر من 500 حاضنة بالهند أنشأتها هذه المؤسسات الحكومية لرعاية الشركات الناشئة وبناء النظام البيئي للابتكار بها، وتتشارك هذه المؤسسات مع الحاضنات في تقديم منح مخصصة وقروض ميسرة واستثمارات مقابل حصة في رأس المال لتمويل الابتكارات من مرحلة الفكرة إلى التسويق، حيث تلعب هذه المنح الحكومية دورًا مهمًا في الحفاظ على الشركات الناشئة خلال مرحلة تأسيسها واستيعاب مخاطر التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال،

يوفر برنامج منحة اشعال التكنولوجيا الحيوية (BIG) التابع لمجلس BIRAC ما يصل إلى 67 ألف دولار أمريكي للشركة الناشئة في مجالات علوم الحياة والرعاية الصحية لإثبات صحة المفهوم  لأفكارها،  حيث دعم البرنامج أكثر من 400 شركة ناشئة ومبتكر في السنوات الخمس الماضية وشجع الآلاف من الباحثين والأفراد على السعي وراء حلم ريادة الأعمال، وعادةً ما يستمر BIRAC ومؤسسات مانحة أخرى في تمويل الشركات التي استطاعت النجاح خلال برنامج المنح BIG وذلك في صورة منح مكملة أو في مقابل حصة في رأس المال، مما جعله أحد اكثر منح مرحلة الفكرة (idea stage) لقطاع علوم الحياة تأثيرًا. 

كما يقوم برنامج المبادرة الوطنية لتطوير وتسخير الابتكار، وتشجيع وتسريع الشباب المبتكرين والشركات الناشئة (NIDHI-PRAYAS) التابع لمجلس NSTEDB بمعالجة فجوة التمويل بين مرحلتي الفكرة والنموذج الأولي، والذي كان ناجحًا بشكل كبير في دعم عدد كبير من الأفكار في مراحلها المبكرة سواء قبل أو في المراحل الأولى من الحاضنات من خلال توفير معامل وورش لتصنيع النماذج الأولية. 

ومن المنح الأخرى التي تقدمها هذه المؤسسات، منح التحدي، والتي تمول الحلول المبتكرة التي تستهدف مشاكل أو تحديات محددة، مثل منحة التحديات الكبرى بالهند، الذي تنفذه BIRAC بتمويل مشترك بين DBT ومؤسسة بيل وميليندا جيتس، ونتج عن هذه المنحة عددٌ كبيرٌ من رواد الأعمال الذين يعملون على حلول الرعاية الصحية للفقراء. 

كما شارك NSTEDB في إنشاء العديد من برامج التحدي المبتكرة واسعة النطاق والتي شارك في تمويلها العديد من الهيئات والشركات الصناعية. 

ومن البرامج الرئيسية التي ولدت عشرات الآلاف من الأفكار، برنامج التحالف العالمي لتكنولوجيا الابتكار (GITA) بالشراكة مع اتحاد الصناعات الهندية (CII)، وبرنامج قوة الأفكار من The Economic Times، وبرنامج نمو الابتكار في الهند بالشراكة مع لوكهيد مارتن وتاتا تراست. 

كما قامت مبادرة AIM بتمويل برامج مواجهة التحديات الكبرى لتوسيع نطاق الحلول ونشرها بالشراكة مع العديد من الوزارات، وقامت حكومات الولايات بتقديم منح التحدي للبحث عن حلول للمشكلات المحلية من خلال الشركات الناشئة والمبتكرين والأفراد.

وعلى الرغم من أن الأفكار الأكثر ابتكارًا وتأثيرًا فقط هي التي تتلقى التمويل من خلال عملية الاختيار المتدرجة لهذه المسابقات، ولكن ساعدت هذه المبادرات غير التقليدية للتمويل في بناء ثقافة التفكير وطموح ريادة الأعمال، وكانت حافزًا في تطوير مجموعة قوية من رواد الأعمال والمبتكرين المدفوعين بالتكنولوجيا عبر مختلف المجالات. 

 

فنجد أن التنوع في حوافز الابتكار المقدمة للقطاع الخاص، والنظام القوي للملكية الفكرية لحماية الابتكارات من السرقة والنسخ وبالتالي حماية الاستثمارات التي تم إنفاقها على ابتكار المنتجات وعمليات التطوير، يؤدي إلى زيادة مستويات الابتكار، لذلك كانت الجهود المتضافرة للإدارات الحكومية المختلفة، ولا سيما إدارة تعزيز الصناعة والتجارة الداخلية (DPIIT) التابعة لوزارة التجارة والصناعة، وNITI، وDST، وDBT، مفيدة في صياغة الساسيات واللوائح اللازمة لاستثمارات الشركات الناشئة، والتي تتعلق إلى حد كبير بتمويل الابتكار، والخصم الضريبي على البحوث والتطوير، والبنية التحتية للابتكار واحتضانه، والحوافز الضريبية لتشجيع رواد الأعمال، والإعفاءات من رسوم تسجيل براءات الاختراع، والمبادرات حول سهولة ممارسة الأعمال التجارية. 

كما قامت الحكومة أيضًا بتطبيق مجموعة واسعة من الإصلاحات السياسية حول قواعد المشتريات العامة والتي تشمل قيامها بالشراء المباشر للمنتجات الابتكارية من الشركات الناشئة والشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة الحجم (MSMEs).

وقامت أيضا في عام 2019 بتعديل القسم الخاص بالمسئولية المجتمعية للشركات في قانون الشركات الهندي لعام 2013، بحيث تساهم فئة معينة من الشركات المربحة بنسبة 2٪ من أرباحها السنوية لفتح صندوق المسئولية المجتمعية للشركات CSR)) لتمويل الابتكار في الهند، والذي يساهم في الحاضنات والمشاريع البحثية في الجامعات والمراكز البحثية الممولة من القطاع العام والمعاهد الهندية للتكنولوجيا (IITs).

كما أطلقت الحكومة صندوق الهند للابتكار بقيمة 1.5 مليار دولار أمريكي لتمويل الشركات الابتكارية الناشئة ومعاونتها في تسويق تكنولوجياتها المبتكرة، ويديره بنك تنمية الصناعات الصغيرة في الهند (SIDBI) من خلال قيامه بتخصيص مساهمات لمختلف صناديق رأس المال الاستثماري. 

ومن الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية للابتكار، إنشاء مكاتب نقل التكنولوجيا الإقليمية، ومجمعات التكنولوجيا الحيوية والطبية، ومجمعات الأبحاث في كليات الهندسة، ومراكز التميز لتطوير التكنولوجيا المحلية وتسويقها.

كما قامت مبادرة AIM في عام 2018 بإطلاق مشروع رسم خريطة الابتكار في الهند، وأنشأت مؤشر الهند للابتكار كأداة لتحليل وتعزيز حالة الابتكار على المستوى المحلي، وتصنيف الولايات على مختلف معايير مدخلات ومخرجات الابتكار، بحيث يوفر هذا المؤشر فرصة للولايات الهندية لتحليل أدائها المطلق وكذلك الأداء النسبي بين أقرانها، وهذا من شأنه أن يمكّن الحكومات المحلية من صياغة سياسات من شأنها تعزيز الجهود الإقليمية، وبالتالي المساهمة في بناء نظام بيئي للابتكار بها.

وأتت ثمار النظام البيئي للابتكار الذي اقامته الهند من خلال التنامي الهائل لاستثمارات رأس المال الاستثماري بها، حيث تلقت الشركات الهندية الناشئة تمويلًا مجموعه 58 مليار دولار أمريكي على مدى السنوات من 2014 – 2019 عبر 5،011 صفقة، منها 766 صفقة في عام 2019 فقط بإجمالي تمويل 12.7 مليار دولار أمريكي، والحصة الأكبر من هذه الاستثمارات كانت في المراحل اللاحقة للشركات الناشئة ومعظمها أتت من شركات رأس المال الاستثماري العالمية، الأمر الذي أدى للتوسع السريع للشركات الناشئة بها ودخولها جولات الاستثمار الكبيرة (بقيمة تمويل تتجاوز 100 مليون دولار للشركة الواحدة) وظهور الشركات أحادية القرن (الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها السوقية مليار دولار).

ووصل عدد المستثمرين الأجانب إلى أكثر من 220 مستثمرًا أجنبيًا في عام 2017، وفي المقابل وصل عدد المستثمرين المحليين إلى أكثر من 280 مستثمرًا في عام 2017، منهم نحو 150 من المستثمرين الممولين (Angel investors)، و95 من مستثمري رأس المال الاستثماري (VCs)، و15 – 20 شركة، و5 – 10 من مسرعات أعمال (Accelerators). 

وكانت بنغالورو ودلهي ومومباي الوجهة الأفضل للشركات الناشئة، بينما برزت 21 مدينة أخرى كمراكز للشركات الناشئة، وبينما يؤدي قيام رواد الأعمال الهنود الناجحين بالاستثمار في الشركات الناشئة إلى نضوج النظام البيئي للابتكار بها. ومع ذلك، هناك اتجاه يتمثل في انتقال الشركات الناشئة إلى مراكز عالمية أكثر نضجًا، بحثًا عن استثمارات وأسواق وتوجيه أكبر، الأمر الذي يحتاج إلى جعل سياسات الابتكار أكثر شفافية وقابلية للتنبؤ والتنفيذ مما يساعد في جذب المزيد من رأس المال بما في ذلك المزيد من رأس المال المحلي إلى أنشطة الابتكار في الدولة وجعلها مناسبة لاحتضان ونمو الشركات الناشئة لتصبح شركات عالمية عملاقة أسوة بما يتم في وادي السيليكون بالولايات المتحدة.