د. رشا سمير تكتب: الإسكندرية..قصة حزينة لمدينة غابت معالمها

مقالات الرأي

بوابة الفجر

                   

إنحنى أمام جمالها يغازلها وينسج لها من الكلمات تاريخ من العشق.. قال:

(( بين مد وجزر..بين النوارس والأصداف.. إسكندرية يا مدينة تبدأ فينا وتنتهي))

إنها كلمات جاءت على لسان يوليوس قيصر القائد الروماني الذي أُطلق عليه ديكتاتور الإمبراطورية الرومانية بعد أن تسلل سحر المدينة إلى جوارحه، فحولته من رجل يرتدي السيف قناعا إلى رجل يضع الزهور إكليلا فوق منارتها.

إنها مدينة الحلم..مدينة لم تُبنى بالحجارة بل بُنيت بالأفكار والسحر..مدينة إرتبط بنائها بالأساطير،

بناها "دينوقراطس" الإغريقي القادم من جزيرة رودس تلميذ هيبوداموس المعماري المسئول عن بناء ميناء أثينا العظيم..لتصبح المدينة التي حملت عنوان وملامح الإسكندر الأكبر فيما بعد هي عروس البحر المتوسط.

دُعيت لحضور معرض كتاب الإسكندرية المقام في الفترة من ١٨ وحتى ٢٨ يوليو في ساحة مكتبة الإسكندرية العظيمة وبحضور جمهورها المثقف من القراء.

لم أتردد وأنا اتخذ قرار الموافقة بالحضور، فالإسكندرية التي لم أزورها منذ سنوات طويلة لازالت قابعة في ذهني مثل العاشق الذي يبات في مخيلة محبوبته حتى الخيوط الأولى من كل صباح.

ذهبت فاتحة ذراعي وقلبي وكل ما أتمناه أن أكون جزء من هذا الحدث الثقافي الذي لا يقل في ثقله عن معرض كتاب القاهرة والذي يليق بدولة بها مدن كبيرة تمثل حضارة لا يستهان بها..مصر..

وصلت الإسكندرية وفي ذهني صورة خاصة أحاول إستنساخها من ماض بعيد عشته وأنا طفلة، وماض قريب عشته وأنا شابة.

هل لازالت تلك المدينة الساحرة كما كانت عروس تتزين يوم عرسها أم إنهزمت كما إنهزمت الأماكن وكما انكسرت الشوارع حين طُمست ملامحها واعتلت الفوضى كل شئ حتى أصبح القُبح عنوانا للبشر والأماكن؟!.

وهالني ما رأيت!..إنها حقا مدينة لا أعرفها ووجوه لم ألفها وزمان تبدلت فيه كل الأشياء الجميلة..

إنها حقا قصة تستحق أن تُروى، حتى ولو كانت قصة نهايتها حزينة!..

محطة الرمل..ميدان في أزمة:

بُني هذا الفندق الذي يعتبر تحفة معمارية فنية عام ١٩٢٩ وترجع تسميته إلى السير هيرست سيسل عضو لجنة ملنر التي جاءت إلى مصر عام ١٩١٩، أنشئ الفندق على طراز الباروك المستحدث، أما الواجهة فقد أنشئت على الطراز الإسلامي المستحدث بمعرفة المهندس الإيطالي  «جوسيبي أليساندرو لوريا» المولود في المنصورة بمصر في العام ١٨٨٨، حيث قام بتصميم المبنى على الطراز الفلورنسي الذي يميز المدينة بأسرها في ذاك.

هذا الفندق ليس الوحيد الذي يحمل بصمة الإسكندرية التاريخية بل هناك العديد من الفنادق التي حملت بين أروقتها حكايات من الماضي مثل..فندق متروبول الذي بُني في الربع الأول من القرن العشرين وفندق أبات الذي يطل على ميدان إبراهيم.

على الرغم من كل شيء فلازال سيسل مقصدا لكل عُشاق الإسكندرية وكل من بحث في لياليها عن الماضي بعراقته وجماله وكأنه حالة من النوستالجيا تدفعك كنزيل إلى رحلة في قلب المدينة.

هذه المرة تغيرت معالم المكان وشعرت بالغربة الموحشة في محطة الرمل التي تحولت إلى مقلب زبالة! 

قمامة تعلو الأرصفة، موقف سيارات في الساحة المجاورة للفندق باتت مرتع للميكروباصات والمناديين والفتوات ممن يسيطرون على الموقف..أما الحديقة الجميلة التي كان الفندق يطل عليها الفندق يوما قد تحولت وكأن شم النسيم قد عاد من جديد، زحام من البشر الذين يأكلون ويلقون بكل الفوارغ في الحديقة، طبل وزمر ورقص وغناء إلى الساعات الأولى من الصباح!.. 

وويل لكل من تراوده نفسه للنوم في هدوء، إنها المهمة المستحيلة!.

أين الهدوء؟ أين صوت موج البحر وهو يلاطم الشاطئ في سكون الليل الطويل؟ أين الإسكندرية؟!

الكورنيش:

في عام ١٩٠١ إعتمد مجلس بلدي الإسكندرية مشروع إنشاء طريق الكورنيش على البحر بتكلفة بلغت ٥٠٠٠ جنيه إرتفعت إلى ١٧،٠٠٠ جنيه في عام ١٩٠٦

تم التخطيط للإنتهاء من عمل طريق الكورنيش على ست مراحل، وانتهت المرحلة السادسة إلى حيث تم تكليف دنتا مارو وكرتاريجيا وشركائهما للعمل ليل نهار وانتهوا إلى عمل طريق الكورنيش من قصر المنتزه إلى قصر رأس التين بطول ٢٠ كم عام ١٩٣٤، ولازالت تحمل أجزاء من شارع الكورنيش أسماء أوروبية مثل كامب شيزار وستانلي وجليم وزيزينيا.

تساءلت كثيرا وأنا في محاولة السير على كورنيش الإسكندرية الذي عرفناه يوما ونحن صغار حيث غروب الشمس والهدوء والبحر الأزرق الهادر والناس الذين يرتادون الكورنيش بحثا عن السعادة والجمال..بشر لم نعد نراهم ولم يعد هناك أثرا لهم إلا في الأفلام الأبيض والأسود القديمة.

همجية وباعة جائلين وتكدس بشري مخيف وكأن التتار إحتلوا الكورنيش وأبوا أن يغادروه!.

قصر المنتزه: 

أنشئ هذا القصر في حدائق  المنتزه التي أمر بتخطيطها الخديوي عباس حلمي الثاني لتكون متنزها له وأشرف بنفسه على تخطيطها.

وقد قام الخديوي عباس حلمي الثاني بشراء أراضي السراي وأمر بإنشائها عام ١٨٩٢ فجاءت مزيجا من العمارة الكلاسيكية والعمارة القوطية وبين طراز عصر النهضة الإيطالية والطراز الإسلامي، وقد ظل القصر على حاله إلى أن عهد الملك فؤاد الأول إلى المهندس الإيطالي فيروتشي بك بتجديده.

تمتعت الإسكندرية بطابع مميز ميزها عن سائر المدن المصرية في فترة حكم محمد علي باشا وتميزت بالطابع الأوروبي في فترة الخديوي إسماعيل الذي تأثر بالحياة في أوروبا، حيث شهدت الإسكندية نهضة عمرانية كبري، خط الضواحي ونظم الميادين وبحلول عام ١٨٧٠ أصبحت الإسكندرية واحدة من أهم أربع مدن في البحر المتوسط بعد إسطنبول ومارسيليا وجنوة.

لازالت حدائق المنتزة هي وجهة كل زائر مثل حديقة الشهداء وأنطونيادس، إلا أن التطوير جعل الصورة تتغير وأحال الشكل الجمالي الذي سكن وجدان المصريين طويلا إلى حالة مربكة لتقبل تطوير زمني لم يعد يشعر معه الكثيرين بالألفة.

لسنا ضد التطوير على العكس لأن مواكبة الزمان والحداثة شئ هام، إلا أن التطوير يجب أن يصاحبه حفاظ على الهوية والطابع المعماري الأصيل لدولة عنوانها حضارتها.

مكتبة الإسكندرية واجهة حضارية:

مكتبة الإسكندرية كانت وستظل صرح ثقافي مشرف وعظيم، كانت أكبر المكتبات في عصرها، وبحسب الباحثة الأثرية فإن المكتبة تعرضت خلالها تاريخها الطويل للعديد من الحرائق، حتى أتت الحرائق على محتواها تماما في عام 48 ق.م. وفي عام 2002 تم إعادة بنائها تحت اسم مكتبة الإسكندرية الجديدة.

لازالت المكتبة تحتفظ بكيانها وتقف على طريق الكورنيش بشموخ لتروي قصة الزمان، أقسام فرعونية وإسلامية وكسوة الكعبة القديمة، أمهات الكتب وموسوعة وصف مصر، متحف السادات، لوحات فنية على الحائط تبوح بجمال المكان.

العاملين بالمكتبة شباب مشرف وواجهة ثمينة لصرح ثقافي..شكرا لهم على كل ما قدموه لنا من عون وعلى الترحاب والتفاني في تقديم الأفضل.

الحقيقة أن المكتبة في عهد الدكتور إسماعيل سراج الدين ومن بعده دكتور مصطفى الفقي حافظت على مكانتها وقيمتها وتزينت بأبهى ثوبن وهو الثوب الذي نتمنى أن يظل بل ويزدهر في عهد الدكتور أحمد زايد.

جولة في الإسكندرية القديمة:

على هامش المعرض كان لي جولة على الرغم من قسوتها إلا أنها كانت جولة مختلفة في شوارع الإسكندرية وأزقتها بعيون شاب سكندري جميل هو مهندس معماري والأهم من هذا وذاك هو عاشق لمدينته الساحرة التي ولد وترعرع بها ويعمل في جمعية لحفظ التراث القديم من مباني أثرية بل ويعرف حكايتها.

جولة من بحري والأنفوشي إلى الكورنيش حيث وصلنا إلى الحي التركي والذي ترجع تسميته إلى إستقرار الأتراك في المنطقة المحصورة بين الميناء الشرقي وجونة الأنفوشي، عند إلتقاء مدينة الإسكندرية القديمة بجزيرة فاروس ومن هنا جاءت التسمية، تحول الحي بواقع الإهمال إلى مجموعة من المباني المتهدمة.

الحي يضم أهم آثار دولتي المماليك بعد العصرين الفاطمي والأيوبي: مسجد تربانة، ومسجد الطرطوشي، وجامع الشيخ إبراهيم باشا، ومسجد سيدي عبد الرحمن بن هرمز، ومسجد الشيخ ياقوت بن عبد الله، ومسجد الشيخ البوصيري، الأربطة الديني.

حتى وكالة الغوري المشهورة في هذا الحي إنهار جزء كبير منها!..

إنبهرت وأنا ألمح البناء المعماري والنقوش التي تعتلي الجوامع، جمال وفن لا مثيل له، يتفوق على الجوامع في تركيا التي تكتسب السياحة وشهرتها من جامعين مصر تمتلك المئات منها..لماذا تركنا القمامة والفوضى تحتل تلك المناطق؟ متى نتحرك لجعلها وجهة سياحية لتصبح لبنة للدخل القومي المصري؟

مدينة هيرقليون المنسية:

أين هذا الكشف الأثري؟ أين هيرقليون؟

إنها مدينة تبوح بأسرار عظمة القدماء، والتي يبلُغ عمرها 1200 عامًا.

تلك المدينة المغمورة، على بُعد 6 ونصف كيلومترات، قبالة ساحل الإسكندرية.

 "ثونيس-هرقليون" أكبر ميناء لمصر على البحر الأبيض المتوسط ​​قبل تأسيس الإسكندرية على يد الاسكندر الأكبر في عام 331 قبل الميلاد.

"هيرقليون"، هو الاسم الذي أطلق على مدينة أبوقير القديمة، التي غاصت في مياه خليج أبو قير، والتي لاقت نفس مصير "الإسكندرية" بقصورها الملكية ومعابدها، التي غاصت هي الأخرى تحت أقدام الميناء الشرقي، بين قلعة "قايتباي" و"لسان السلسلة"، في أواخر القرن الثامن، ولم يكن للآثار الصامدة فرصة للنجاة من الغرق، بعد أن ضربتها زلازل متتابعة قضت على المدينتين.

سمعنا كثيرا عن جعل هذا المدينة الغارقة وجهة لسياحة الغطس وعرضهاعن طريق غواصة زجاجية للتجول بداخلها حيث أنها إكتشاف مذهل..لماذا لم يتم إستكمال هذا المشروع؟ هل بالفعل تم طرح هذا المشروع عن طريق اليونسكو؟ أم أنه لازال مجرد إقتراح؟

في كل الأحوال..هانحن نفتح هذا الملف حتى نعيد طرح الأفكار من جديد.


حكاية مسجد ومقهى:

في جعبة الإسكندرية ألف حكاية..فدعوني أروي إثنين..

تبدأ الحكاية بتاجر أخشاب كبير فى الإسكندرية القديمة إسمه "باسيلى" هو مسيحى أرثوذكسى متدين يقع مخزن الخشب الذي يملكه على البحر فى حى الورديان، الرجل كان لديه عمال مسلمين، 

عندما يحين وقت الصلاة كان العمال يضطرون إلى السير مسافات بعيدة لتجنب حر الصيف وبرد الشتاء القارص،  لما جعل صاحب العمل يبحث عن حل يريح به عماله، وبعيدا عن الدين والوطن تبنى قضية البشر، وقرر أن يبني جامع بجوار مخزن الخشب، واقترح على عماله أن يسميه مسجد الرحمة ولكن المفاجأة أنهم رفضوا وأصروا على أن يسموه جامع "باسيلي" نسبة إلى الرجل الذي أحبهم فبادلوه الحب بإحترام، ولازال حتى اليوم مسجد باسيلي.

أما الحكاية الأخرى فهي لمكان زرته أثناء رحلتي القصيرة للإسكندرية ومقهى شهير إسمه "قهوة فاروق" في منطقة بحري والتي يقدر عمره ب92 عام حيث أنشئ في عام 1928ولأن الإسكندرية كانت عشق العائلة المالكة فتسمية المقهى كان له قصة أخرى..

يرجع سبب التسمية إلى أنه في ليلة من ليالي صيف عام 1938 كان موكب الملك فاروق يتحرك بسرعة شديدة على طريق الكورنيش متجها نحو قصر رأس التين غرب الإسكندرية، ففوجئ الحراس وهم على دراجاتهم النارية التي كانت تتقدم الموكب، بحسناء ذات ملامح أجنبية تقطع الطريق ووقفت بثبات وسط الشارع وسط ذهول أهالي منطقة بحري، واتضح لهم أنها سيدة يونانية تُدعى "ماري بيانوتي"،

بكل جرأة طلبت السيدة من جلالة الملك فاروق أن يحل ضيفا على المقهى الذي تملكه، الذي كان يسمى حتى ذلك اليوم مقهى "كاليميرا" أو صباح الخير باليونانية.

في لحظات تجمع العشرات من أهل الإسكندرية البسطاء ليشاهدوا ملك مصر وهو يجلس في مقهى شعبي

يشرب الشيشة مع كوب من الشاي المصري. 

الطريف أنه جرى تغيير اسم المقهى منذ ذلك اليوم إلى قهوة فاروق، وأقدمت ماري منذ اليوم التالي للزيارة على تغيير الديكورات الخاصة بالمقهى، بالإضافة إلى الاسم بالطبع، وأوصت بتصنيع رسوم نحاسية خالصة يدوية للتاج الملكي عند صناع مهرة في حي خان الخليلي بالقاهرة ليصبح عنوان المقهى..ومن الطرائف أيضا أن الرئيس جمال عبد الناصر أمر برفع إسم الملك فاروق من على القهوة، إلا أن الرئيس أنور السادات أمر بإعادته عقب توليه الحكم!.

                                               

وختاما:

كل ما سبق لم يكن سوى بكاء على اللبن المسكوب، ويبقى سؤال واحد يعيدنا إلى أيام اللواء عبد السلام المحجوب..أين محافظ الإسكندرية الحالي من كل ما سبق ذكره..

عبد السلام المحجوب برغم ضعف الإمكانيات تحرك ليجعل من الإسكندرية منارة وليعيد بريقها ومكانتها، حتى أصبح بطلا في عيون أهل المدينة..رحمة الله عليه.

أنا هنا لست بصدد الهجوم بقدر ما أنا بصدد التنبيه وتسليط الضوء وطرح المشكلة وكلي ثقة من أن أهل الإسكندرية والمسئولين فيها تمزقهم الصورة بقدر ما مزقتني.

مصر دولة عظيمة لها تاريخ وكل شارع بها يروي حكاية ولكل زقاق ألف عنوان..

مصر دولة بها مدن ساحرة وخالدة تستحق أن نعتني بها لنعود للريادة..

إنها دعوة لإنقاذ مدينة السحر والجمال..إن بإستطاعتنا دائما تغيير نهاية القصة..فهل من مجيب؟!

                                                   [email protected]