د. محمود جلال يكتب: الابتكار في الفلبين من منظور مؤشر الابتكار العالمي (ج2)

مقالات الرأي

محمود جلال
محمود جلال

واجهت الفلبين الكثير من التحديات خلال السعي وراء نشر الابتكار في البلاد والوصول إلى نتائج متميزة في ظل ضعف المستوى الاقتصادي بها، وكان الحل في معالجه هذه المشكلات تعاونيًا، لإنه من القيم الاساسية للثقافة الفلبينية كلمة Bayanihan، وتعني روح المجتمع للتخفيف من وطأة أي عمل من خلال التعاون والمشاركة. 

وتمت الاستفادة من هذه الروح في مجال التكنولوجيا والابتكار من خلال تشارك المؤسسات الحكومية الرئيسية مثل وزارة العلوم والتكنولوجيا (DOST)، ووزارة التجارة والصناعة (DTI)، والهيئة الوطنية للتنمية الاقتصادية (NEDA)، جنبًا إلى جنب مع ممثلين من الصناعة والأوساط الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني، في صياغة استراتيجية الابتكار الوطنية الفلبينية وأطلقوا عليها اسم Filipinnovation كنهج للحكومة ككل للابتكار الشامل.

فبالنظر إلى مجموعة المؤسسات الحكومية التي لها دور في تنفيذ استراتيجية الابتكار الوطنية وتمويل الابتكارات، كان هناك حاجة إلى هذا النهج الشامل للحكومة في التكامل في السياسات والبرامج فيما بينها لدفع مبادرات الابتكار في الدولة وتوفير نظام بيئي شامل للابتكار يوفر تنسيق الإجراءات في مختلف المجالات.

حيث سيضمن هذا النهج اتساق السياسات، ومواءمة الأولويات، والتنسيق المعلوماتي بين المؤسسات المختلفة وعدم التداخل في مختلف المجالات، وجمع الخبرات والموارد معًا من أجل الابتكار الشامل، والتنسيق الفعال في تقديم الخدمات، 

وقد ثبتت فاعلية ذلك عندما دخلت الفلبين في دائرة الإنجازات الابتكارية التي انعكست في تصنيف مؤشر الابتكار العالمي ووصولها للمرتبة الخمسين في عام 2020. 

ففي السابق كانت المؤسسات الحكومية تعمل كمؤسسات منفردة دون تنسيق أو دراية ببرامج بعضها البعض، دون اعتبار أنه يمكن أن تكون هذه المؤسسات تسعى لنفس الهدف، مما يؤدي إلى تكرار الجهود واستنزاف الموارد. 

ومن خلال استراتيجية الابتكار الوطنية تجنبت الدولة وجود سياسات مختلفة تتقاطع مع بعضها البعض وتقوض بعضها البعض، ولم تعد المؤسسات الحكومية تعمل بمعزل عن غيرها. 

كما توفر هذه الاستراتيجية إطارًا للتعاون بين المؤسسات الحكومية والأكاديمية والصناعة ومنظمات المجتمع المدني، وأدى التفاعل فيما بينها إلى خلق ونقل المعرفة التي ودلت منتجات جديدة ونماذج أعمال مكنت من تحفيز التحول الاقتصادي والتنمية، ودمج المزيد من أصحاب المصلحة بالأقاليم في النظام البيئي للابتكار وريادة الأعمال في الفلبين، مثل الشركات الناشئة ومتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، ومراكز البحوث والتطوير، ومجمعات العلوم والتكنولوجيا، والحاضنات، ومعامل التصنيع،  والمستثمرين.

وذلك من خلال قيام وزارة التجارة والصناعة (DTI) وزارة العلوم والتكنولوجيا (DOST) بإنشاء المراكز المحلية للابتكار الشامل (RIICs) بمساعدة مشروع العلوم والتكنولوجيا والبحوث والابتكار من أجل التنمية (STRIDE) الممول من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وأيضا بدعم من المؤسسات المحلية وغرف التجارة ومؤسسات التعليم العالي وأصحاب المصلحة الآخرين. حيث تعمل هذه المراكز التي تم نشرها في العديد من المناطق كأماكن للتعاون الجماعي بين الجهات الحكومية والتعليمية والصناعية في الأبحاث التي يتطلبها السوق. 

فنجد أن برنامج البحوث والتطوير في المراكز المتخصصة (NICER) الذي تم استعراضه في المقال السابق والمراكز المحلية للابتكار الشامل (RIICs) تترادف الواحد تلو الآخر كآليات تمكين مبنية على المعرفة التي تم تطويرها من خلال البحوث والتطوير. فنجد أولًا، يدعم برنامج NICER الجامعات كمولدات للتكنولوجيا وبناء القدرات في المناطق المحيطة بها حيث تُطَوِّر السلع والمعرفة المتخصصة من خلال البحوث والتطوير. ويتم ضخ الاستثمارات لإنشاء البنية التحتية اللازمة لتحسين القدرة التنافسية في السوق، وتحسين عائدات الإنتاج وقيمة السلع وتعزيز القدرة الاستيعابية للمنتجين المحليين. وبعد ذلك، تساعد مراكز RIICs في التسويق وتقبل السوق للتقنيات المبتكرة من خلال مسرعاته وحاضناته ومراكز الابتكار، الاستفادة من التجمعات الصناعية في هذه المناطق وتوفير الدعم للابتكار وريادة الأعمال.

حيث توفر الجهود التآزرية لـ NICER وRIICs النمو والفرص للابتكار في جميع مناطق الدولة، من خلال البناء على الخصائص الفريدة للمنطقة وتعزيز دفع التكنولوجيا من الجامعة إلى السوق.

وقامت مراكز RIICs بإطلاق برنامج تحسين الفرص المحلية لتميز الأعمال من خلال العلوم والتكنولوجيا والابتكار والذي يسعى إلى تعزيز إنتاجية الصناعة المحلية والقدرة التنافسية من خلال تبني التكنولوجيات المتقدمة علميًا، وعند تنفيذ البرامج يتم إجراء تقييم لاحتياجات الصناعة، وتحديد مخرجات البحوث المحلية المطلوبة.

ويشبه هذا أيضًا مراكز أعمال برنامج Negosyo Center المقدم من وزارة التجارة والصناعة (DTI) المسئولة عن تعزيز سهولة ممارسة الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة للأعمال التجارية وسهولة وصولها للخدمات، لتحفيز تطوير ريادة الأعمال التي تساهم بشكل كبير في دفع الاقتصاد الفلبيني. وتتواجد هذه المراكز في مناطق استراتيجية ملائمة لرُوَّاد الأعمال الحاليين والمحتملين، مثل مكاتب وزارة التجارة والصناعة ووحدات الحكم المحلي والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية ومراكز التسوق.

كما يوفر برنامج تطوير تكنولوجيا المؤسسات الصغيرة (SETUP) تمويلًا لتطوير التكنولوجيا، والمقدم من وزارة العلوم والتكنولوجيا (DOST) لتشجيع الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة على تبني الابتكارات التكنولوجية لتحسين عملياتها، مما سيؤدي إلى زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية. وقدم البرنامج في عام 2019 الدعم التمويلي لعدد 784 شركة متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة، وقد وفرت هذه الشركات 13،358 وظيفة. كما تم توسيع نطاق تمويل برنامج SETUP بالتعاون بين وزارة العلوم والتكنولوجيا وبنك التنمية الفلبيني، لتقديم معدلات فائدة منخفضة للغاية لشراء التكنولوجيا في إطار البرنامج. وبطريقة مماثلة، اشتركت وزارة العلوم والتكنولوجيا والبنك الزراعي الفلبيني في تمويل المخترعين، ويتم تنفيذ جميع هذه البرامج بهدف تعزيز جهود الدولة لتسريع الابتكار المحلي في جميع أنحاء الفلبين.

وبالنظر إلى حجم التمويل الذي تم تقديمه من هذه البرامج خلال الفترة من 2017 إلى 2019 نجد أنه كالتالي:

- برنامج NICER: 6.2 مليون دولار.

- برنامج CRADLE: 1.2 مليون دولار.

- برنامج RDLead: 600 ألف دولار.

- برنامج BIST: 200 ألف دولار.

- برنامج SETUP: 54 مليون دولار.

كما بلغ حجم التمويل لباقي برامج منح الدعم المقدمة من وزارة العلوم والتكنولوجيا خلال نفس الفترة 151 مليون دولار.

 

ومن النماذج الناجحة للابتكار التعاوني لحل المشاكل الوطنية الملحة ما حدث مع نبات جوز الهند والذي يعتبر في الفلبين بمثابة شجرة الحياة، فجميع أجزائه لها قيمة اقتصادية، حيث يتم  منها إنتاج السكر والزيت والخل والنبيذ والكربون المنشط والبلورات النانوية، وخلال الفترة من عام 2009 إلى عام 2013، عانت صناعة جوز الهند من خسائر اقتصادية كبيرة بسبب تفشي حشرة جوز الهند CSI)) والتي أثرت على ما يقرب من 1.2 مليون شجرة، في حين أن هناك 3.5 مليون مزارع جوز هند، وهم من بين أفقر المزارعين في الفلبين. 

ولمعالجة هذه الأزمة الملحة مطلوب إنتاج أنسجة نباتية عالية الجودة لإسراع استبدال الأشجار المصابة، لذا تم بدء تطوير تقنية زراعة الانسجة لنبات جوز الهند (CSet) في عام 2014، وهي تقنية للتكاثر السريع والكمي للمخزون النباتي لجوز الهند عالي الانتاجية والمقاوم للآفات والأمراض. وبعد خمس سنوات من البحث والتطوير الشامل الذي شارك فيه سبعة معاهد مختلفة للبحوث والتطوير، تم النجاح في إنتاج أكثر من 200 نبتة جوز الهند لكل بذرة والذي يعتبر إنجازًا كبيرًا مقارنة بالإنتاج التقليدي لنبتة واحدة لكل بذرة، وهذا التقدم في إكثار جوز الهند سيضمن أن المواد كافية لكل من الزراعة وإعادة الزراعة على نطاق واسع في البلاد. وأثبت هذا التعاون أن البحوث والتطوير والابتكار يمكنها حل المشكلات الوطنية الملحة.

 

بالإضافة إلى ذلك، أدى التعاون بين هذه الجهات الفاعلة أيضًا إلى تطوير السياسات، ولا سيما من خلال إطلاق قانون الابتكار الفلبيني وقانون الشركات الناشئة المبتكرة، اللذين يحاولان خلق بيئة مواتية لتسريع العلوم والتكنولوجيا والابتكار في البلاد، كما سيتضح لنا  في التالي:

 

قانون الابتكار الفلبيني:

إدراكًا بأن البحوث والتطوير وتمويلهما أمران ضروريان للتنمية الوطنية، فقد تم إقرار قانون الابتكار الفلبيني في عام 2019، والذي يعطي الأولوية "لإنشاء وتوسيع نطاق الإجراءات في جميع مستويات ومجالات التعليم والتدريب والبحوث والتطوير من أجل تعزيز أنشطة الابتكار ودولية الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة كمحركات للنمو المستدام والشامل".

ويتمثل أحد أهداف القانون في تنفيذ خطة عمل لتنمية قدرة البلد على الابتكار والنجاح فيه، وفقًا لمؤشر الابتكار العالمي وغيره من المؤشرات المماثلة. ومن خلاله سيتم معالجة العقبات التالية في قطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار:

  • ضعف ثقافة العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
  • غياب ثقافة الملكية الفكرية النابضة بالحياة.
  • بطء تسويق مخرجات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
  • نقص الوعي بأنشطة البحوث والتطوير.
  • انخفاض الإنفاق الحكومي على البحوث والتطوير.
  • صعوبة زيادة فرص العمل.
  • صعوبة الاحتفاظ برأس المال البشري المتخصص في العلوم والتكنولوجيا.
  • عدم ملاءمة البنية التحتية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار.
  • نقص التعاون بين الجهات المختلفة في النظام البيئي للعلوم والتكنولوجيا والابتكار.

فعلى سبيل المثال، ستعمل وزارة الشئون الخارجية على تسهيل مشاركة المؤهلين من المغتربين الفلبينيين في حملة الابتكار في البلاد، حيث يبلغ عدد المغتربين نحو 10 ملايين عامل فلبيني في الخارج، وستقود وزارة العلوم والتكنولوجيا حشد المواهب الفلبينية للابتكار وجهود العلوم والتكنولوجيا، وسيعمل مكتب الملكية الفكرية في الفلبين (IPOPHL) على تعزيز تسجيل براءات الاختراع والعلامات التجارية وحقوق المؤلف والتصميمات الصناعية بين العلماء والمخترعين والمبتكرين لضمان حماية الابتكارات من السرقة.

 

قانون الشركات الناشئة المبتكرة:

سعيًا وراء النمو الاقتصادي المدفوع بالابتكار، تم إقرار قانون الشركات الناشئة المبتكرة (ISA) في عام 2019 كمبادرة مشتركة بين ثلاث وزارات، وهي وزارة العلوم والتكنولوجيا، ووزارة التجارة والصناعة، ووزارة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (DICT)، 

ومن خلال هذا القانون ستقوم الدولة بإزالة القيود وتوفير الحوافز للشركات الجديدة للانخراط في أنشطة ريادة الأعمال المبتكرة. حيث تهدف إلى تشجيع إنشاء وتشغيل أعمال تجارية جديدة مبتكرة والتي تعتبر ضرورية للنمو والتوسع، كما سيعمل القانون أيضًا على تعزيز وتطوير نظام بيئي للأعمال والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تعزز ثقافة ريادة الأعمال المبتكرة في الفلبين.

وتشمل بعض الحوافز التي يقدمها القانون ما يلي:

1) الدعم الكامل أو الجزئي لتسجيل الأعمال.

2) دعم تسجيل حقوق الملكية الفكرية بمكتب الملكية الفكرية الفلبيني.

3) الدعم الكامل أو الجزئي لاستخدام  المنشآت، والمكاتب، والمعدات والخدمات التي تقدمها الشركات أو المؤسسات الحكومية أو الخاصة.

4) المنح لمشاريع البحوث والتطوير والتدريب والتوسع.

 

وتتضافر كل هذه الجهود في تعزيز النظام البيئي للابتكار في الدولة، حيث لا غنى عن هذا النهج الشامل للحكومة، والذي من خلال تنفيذه، تمكنت استراتيجية الابتكار الوطنية الفلبينية (Filipinnovation) من استغلال إمكانات المزيد من المبتكرين ورجال الأعمال الفلبينيين، 

وتحسين تأثير التمويل الحكومي نحو الابتكار الشامل وضمان مضاعفة تأثيره وموارده. وبالتالي، حتى مع انخفاض التمويل للبحوث والتطوير، ازدهر الابتكار في البلاد كما يتضح من مؤشر الابتكار العالمي لعام 2020، حيث نجد مع إنها تقع ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل ومع ذلك تنتج من المخرجات الابتكارية أكثر بكثير مقارنة بمستوى استثماراتها في الابتكار، بمستويات أعلى من تلك الموجودة في الدول ذات الدخل المرتفع والغنية بالنفط مثل الكويت وقطر والبحرين والمملكة العربية السعودية وعمان. حيث أدى تمويل الابتكار باستخدام استراتيجية الابتكار الوطنية إلى توسيع النظام البيئي للابتكار في الفلبين، وجعل برنامج العلوم من أجل التغيير (S4CP) فعالًا، وزاد من كفاءة الابتكار الذي يمكنها من الوصول إلى مكانة أكثر تنافسية في الساحة الاقتصادية العالمية، على قدم المساواة مع الدول الرائدة في الابتكار.

ولكن التحدي التالي هو الحفاظ عمليًا على نشاط الابتكار الفلبيني وترجمته إلى حل ملموس للمشكلات وتغيير إيجابي دائم مبني على القوة الجماعية للعقول والأفكار الفلبينية التي تعمل معًا من كل أنحاء البلاد.