منال لاشين تكتب: من يشعل نار الغضب الطبقى؟

مقالات الرأي

منال لاشين
منال لاشين

إعلانات الفيللات تحرق دم الطبقة المتوسطة خلافا للعبة البيزنس العقارى

لا يمكن إنكار أن العقارات كانت ولا تزال ملجأ لغسيل الأموال فى مصر وعدد كبير من دول العالم

الثروة فى مصر مثل الحمل السفاح بلا أب شرعى

 

حين حاول وزير المالية الأسبق الدكتور يوسف بطرس غالى فرض الضريبة العقارية فى مصر قامت الدنيا بين النخبة والأثرياء، حتى عدد من زملاء يوسف فى الحكومة وقيادات الحزب الوطنى الحاكم وقفوا ضد مشروع القانون، وتبخر الود بين الوزير ورجال الأعمال والأثرياء.. فقد قام غالى بأكبر عملية مصالحة ضريبية عرفتها مصر، كما أنه وزير المالية الذى قام بتخفيض ضريبة الدخل، ورغم صدور القانون إلا أنه ظل يتعثر عاما بعد آخر.

 

وأذكر أن أحد مساعدى غالى روى لى واقعة ذات دلالة، فقد عرض غالى مشروع القانون على رئيس مجلس الشورى فى ذلك الوقت الراحل صفوت الشريف، وكان مع المشروع جدول يوضح قيمة الضريبة على كل فئة أو بالأحرى سعر العقارات، ظل الشريف ينظر بلا مبالاة إلى أسعار الضريبة حتى وصل إلى أعلى سعر للضريبة على القصور، وهز رأسه بالموافقة وردد: معقول معقول.

وكان غالى يريد أن يقدم قانونا مثل قوانين الضريبة العقارية فى كل أنحاء العالم، ولكنه فشل لأن مشروع القانون فقد مضمونه ومفعوله بسبب التعديلات والتدخلات حتى فقد القانون أنيابه وأصيب بالشلل الرباعى، وكان فى مقدمة الهجوم على القانون أهل مارينا حينما كانت لا تزال جوهرة الساحل.

الآن تغيرت خريطة الساحل إلى ساحل طيب وآخر شرير، وارتفعت درجة السخط الطبقى بسبب الزيادات الخرافية فى أسعار فيللات وشاليهات قرى الساحل الشرير وأسعار الخدمات الليمون والفول والتين الشوكى يزيد من سخونة حر يوليو على وسائل التواصل الاجتماعى.

ولا شك أن الكثير من قاطنى الساحل الشمالى مواطنون شرفاء اشتروا الشاليه أو الفيللا من عرق جبينهم سواء من الغربة أو العمل فى مصر، وهؤلاء يعانون من الطبقة الجديدة فى الساحل الشرير ارتفاع أسعار جنونى، ولولا أنهم يملكون شاليهات أو فيللات لكان أوفر لهم السفر إلى لبنان أو اليونان أو المغرب ولكن قضية الأموال السائلة على بعض الشواطئ يثير الدهشة والقلق، كما أن السؤال المنطقى لماذا يصر أصحاب شركات التطوير العقارى على الإعلان عن شقق وشاليهات لا تقل عن ٤ أو ٥ ملايين وفيللات لا تقل عن ٨ أو ١٠ ملايين فى محطات التليفزيون العادية الموجهة فى الأساس للطبقة المتوسطة التى لا يملك معظمها ربع ثمن شاليه فضلا عن الفيللات؟

أعتقد أن هذا السؤال منطقى وعلمى، فأول أساسيات علم التسويق هو تحديد الفئة أو الطبقة التى تستهدفها لشراء السلعة أو الخدمة التى تقدمها، وفى الغالب يجرى تقسيم الفئات المستهدفة إلى ثلاث فئات، ويرمز لها بحروف إيه بى سى باللغة الإنجليزية، ولذلك فإن سلوك الشركات العقارية يثير الدهشة والغضب فلم الحاجة إلى استفزاز مواطن قد يجد أزمة فى استبدال شقته بشقة أكبر بغرفة أو لا يجد بيتًا خاصًا به بعشرات الإعلانات عن فيللات بملايين الجنيهات، وإنفاق عشرات الملايين لمطربين وممثلين لترويج وحدات إسكان فاخرة جدًا وغالية جدًا للفئات الأقرب للستر من الطبقة المتوسطة، وقد بدأت شركة واحدة من كبرى شركات التطوير العقارى رفع إعلاناتها من الفضائيات المصرية إلى منصات العرض ومواقع الفضائيات على الإنترنت، لأن كل الدراسات التسويقية تؤكد أن الأكثر ثراء توقفوا عن مشاهدة المسلسلات أو الأفلام على شاشات الفضائيات.

وأذكر أنه عقب تخرجى فى كلية الإعلام جاءتنى فرصة لدورة فى التسويق بأنواعه. وكنا ندرس أن مجلات الجولف والخيول ورجال الأعمال هى المكان الطبيعى للترويج والتسويق عن السلع الفاخرة الغالية، وكان المثال الأبرز الذى ندرسه هو الإعلان عن ساعة روليكس الشهيرة وأنه من العبث أن ننشر إعلان الساعة أو نروج لها فى صحف شعبية أو مجلة حواء مثلًا.

ولذلك فإن استمرار هذه الإعلانات خاصة إعلانات فيللا وشاليهات الساحل الشرير لا تقدم سوى الاستفزاز والغضب والإحساس بأن مصر أصبحت لشعبين وبلدين أو بالتعبير المحزن المخزى المؤلم الخطر مصر بقت (ساحل ومسحول)، وتزيد من آثار أو بالأحرى التوابع الكارثية للأزمة الاقتصادية التى يعيشها المصريون من الطبقتين المتوسطة والفقراء، كما أنها تفتح الباب لسؤال خطير من هم الذين يشترون فيللا لإقامة شهرين بـ١٠ أو ٢٠ فضلا عن الـ٥٠ مليون جنيه، وما مصدر دخول أولئك الذين يدفعون ١٠٠ جنيه و٢٥٠ فى كام حبة تين شوقى أو عصير بـ١٠٠ أو ٢٠٠ جنيه، فضلًا عن أسعار الطعام، بالطبع تم إلغاء قانون من أين لك هذا؟ لأن الدستور يلزم الحكومة بإثبات أن ثروة أى مواطن غير شرعية وليس العكس، فالأصل أن الثروات شرعية قياسًا على أن الأصل فى الإنسان البراءة، ولكن إلغاء قانون من أين لك هذا؟ لا يلغى من المجتمع وعقول الناس ومنصات التواصل الاجتماعى وقعدات المقاهى والكافيهات هذا السؤال حول مصادر ثروات البعض؟.

 

مع التأكيد مرة ثانية وعاشرة أن هناك شرفاء كونوا ثرواتهم من خلال طرق مشروعة وتعب ونتيجة موهبة أو علم، إلا أن مصر عرفت طوال سنوات السبعينيات حتى ثورة ٢٥ يناير أشخاصًا وعائلات راكمت ثروات هائلة دون تعب أو ذكاء أو تفرد أو غربة، وأن هناك مئات الألوف استفادوا من القرب من السلطة، وراكموا ثرواتهم عبر الاستفادة من موجات نهب أراضى مصر مرة، ونهب القروض مرة ثانية، وموجة نهب ثروات الشعب من خلال فضائح الخصخصة مرة ثالثة، هذه الموجات الثلاث الرئيسية مكنت المقربين والمتحالفين مع السلطة من تراكم ثروات بملايين الملايين من الجنيهات، وأحيانا أخرى ملايين الدولارت، والكثير من هؤلاء يفضلون عدم الظهور فى الإعلام أو العمل بالسياسة اكتفاءً بأنهم دوما على خط التماس مع أهل السلطة، ولا يتأثرون بمخاطر الغلاء أو التضخم لأن ثرواتهم أكبر من قفزات معدلات التضخم أو الغلاء الجنونى، ويجدون متعة فى إنفاق باذخ بأموال لم يتعبوا فيها، بل لم يحلموا يوما بامتلاكها، وهذه الفئة لم يردعها إلا ضريبة ثروة ذات معدل مرتفع على غرار ضريبة الثروة فى فرنسا وبعض الدول الأوروبية، هذه الفئة التى تروى بتبجح شديد مغامراتها فى إنقاق الأموال على سلع أو خدمات بصرف النظر عن أسعارها أو مدى الحاجة إليها، لأنها تجد متعة فى شراء الأغلى أو بالأحرى فى إخبار الجميع بأنها تشترى الأغلى وتبعثر أموالها يمينا وشمالا.

 

فى مصر وبالنسبة لملايين الشرفاء فإن العقارات هى وعاء للادخار والاستثمار الآمن معا، وخاصة بعد ضربات النصابين المتكررة وخسائر البورصة الموجعة وغياب المشاركة فى الاستثمار الحكومى على غرار شهادات قناة السويس الجديدة، كل ذلك أدى إلى لجوء الملايين من المصريين لشراء العقارات أو الأراضى طمعا فى زيادة قيمتها، ولكن هذه الحقيقة لا تنفى أن هناك أيضا ملايين تأخذ من شراء العقارات خاصة الفاخرة طريقا آمنا لإخفاء الرشاوى أو التجارة الحرام، وكثيرا ما استخدمت الأموال القذرة فى العقارات لغسلها ومنحها شرعية، وهذه الفئة تحديدا أحد أسباب رفع أسعار العقارات لأنها على استعداد أن تدفع أعلى من السعر العادل للعقار حتى تخفى أموالها غير المشروعة فيه، كما أن هذه الفئة تمثل نسبة لا يستهان بها من رفع الطلب على شراء العقارات الفاخرة سواء فى الساحل أو المنتجعات فى مصر، وأذكر أن الاقتصادى الكبير الراحل الدكتور مصطفى السعيد قد لفت نظرى لأحد أسباب الهستيريا التى أصابت المجتمع بسبب الضريبة العقارية، وقال لى: إن الكثير من الرشاوى فى مصر تتم من خلال العقارات سواء كان فسادًا صغيرًا لموظف حصل على رشوة واشترى فيللا أو شاليه، أو فسادًا كبيرًا لمن يغسلون أموالهم فى العقارات الفاخرة، وكان يرى أن أحد أهم أسباب مقاومة قانون الضريبة العقارية ترجع إلى لوبى الفاسدين كبارًا وصغارًا لأنهم لا يريدون أن يتم حصر وتسجيل كل العقارات فى مصر، وقد قال الدكتور مصطفى السعيد هذه الملاحظة القيمة حينما أخبرته أننى على موعد مع الدكتور يوسف بطرس غالى فى عز أزمة القانون: أن غالى لا يدرك حجم قاعدة غسيل الأموال فى العقارات، ولذلك فإن معظم المعارضة ترجع للرفض أو بالأحرى الخوف من الكشف العقارات التى يملكونها، والتى قد تؤدى إلى كشف فسادهم بطريقة أو بأخرى، ويومها راهنى الدكتور مصطفى أنه حتى لو تم إعفاء المسكن من الضريبة العقارية فلم تهدأ المعارضة، وذلك لأن السبب الأكبر لمعارضة قانون الضريبة العقارية هو حصر العقارات والأراضى فى مصر، وقد كان فقد تراجعت الحكومة خطوة بعد الأخرى حتى فقد قانون الضريبة العقارية قوته.

 

وقبل أن يطربنا أحد الأغبياء بحكاية كل واحد حر فى ماله ما دام يدفع ضرائبه، فإننى أريد أن أذكر بأنه حتى فى عالم أصحاب المليارات الذين وصلوا للثروة بالعمل والكفاءة والذكاء فإن الإنفاق الباذخ يجلب العار والسخرية لأى ملياردير ينفق بسفه سواء هو أو أولاده، بل إن بيل جيتس وغيره من أصحاب المليارات وأغنى أغنياء العالم يفاخر بأنه يربى أبناءه تربية عادية ويعلمهم الادخار والعمل والاعتماد على الذات، لأن القاعدة التى يمكن تطبيقها فى العالم كله أن من يحصل على أمواله من الهواء ينفقها فى الـ(هلس)، أما من يعمل ويعلم قدر المال فلا يتباهى بأنه يشترى بأسعار مغالى فيها، ولذلك فإننا أمام رأسمالية عشوائية أو كما قال أحد الوزراء السابقين «مصر فيها رأسمال بس مفيش فيها رأسماليين».

ولذلك فجانب كبير من حل أزمة ساحل ومسحول أو الدولتين اللتين تتجاوران رغم الأسوار هو تفعيل ضريبة الثروة والضريبة العقارية حتى تقل مساحة الاستفزاز الاجتماعى الذى يؤدى إلى الصراع الطبقى فى المجتمع لأن الشعور بالعدالة أحد أهم أسباب أو قوى تماسك المجتمع من ناحية والرضا بالفارق الاجتماعى من ناحية أخرى، حيث يكون الثراء مبررًا وليس مثل الحمل السفاح بلا أب شرعى، وحين تعكس الثروات موهبة وكفاءة وذكاء أصحابها لم يشعر المصريون بالغضب من دولة الساحل الشرير.