د. رشا سمير تكتب: تاريخ وصفحات منسية من مذكرات محفوظ بقلم النقاش

مقالات الرأي

بوابة الفجر

تظل العقول المفكرة لأي دولة هي عنوانها للأبد وسر قوتها الناعمة، ويظل الأديب في وطنه هو الأيقونة والرمز الذي يعبر عن عمق الدولة الفكري والثقافي مهما طال الأمد..

بمناسبة عيد ميلاد ويليام شكسبير ال٤٥٠ تم عمل إستطلاع رأي عن أهم أيقونة ثقافية لبريطانيا، وكان المطلوب من المشاركين وعددهم خمسة آلاف شاب من الهند، والبرازيل، وألمانيا، والصين، والولايات المتحدة، تحديد اسم شخص يرتبط لديهم بالثقافة البريطانية المعاصرة، ليجئ وليام شكسبير في المركز الأول، ومن بعده ملكة بريطانيا ثم ديفيد بيكهام!.

وهو ما يضعنا أمام المعادلة العادلة، الفكر أولا ثم السلطة وأخيرا الشهرة!.

إذن لازال شكسبير وسيظل ملك للشعب البريطاني، كما سيظل فان جوخ عنوان لهولندا، ويبقى موتزارت فخرا لألمانيا مهما جاء التاريخ بغيره من رموز.

هكذا هو الحال مع أديب مصر العظيم الحائز على نوبل الكاتب المصري صاحب المشروع الأدبي المتفرد نجيب محفوظ، كان نجيب محفوظ وسيظل مصدر فخر لكل بيت مصري ولكل أديب حمل القلم من بعده، فكل مصري يعي قيمة هذا الرجل ومشروعه الأدبي وكأنه مشروع قومي الحفاظ عليه واجب وطني.

حقيقة أم محاولة لوأد الحقيقة؟

بعد وفاة الكاتب العظيم نجيب محفوظ تحدث عنه الكثيرون ممن صمتوا طويلا واحتدمت الصراعات بين من كان ومن أراد أن يكون.. 

بين من تمنى أن يصبح يوما أحد الحرافيش، وممن كان بالفعل أحد حرافيش محفوظ الذين يغارون على تاريخه..وكم من بشر يبحثون عن مكان تحت الشمس بعد أن عاشوا في الظل طويلا!.

كل من عرفه ومن لم يعرفه كتب عن لسانه، وروى عن قصص جمعتهما..فهل جمعتهما القصص بالفعل أم هي مجرد إرهاصات ومحاولات للظهور؟!.

بغض النظر عن كل ما قيل وسيقال، الشئ الإيجابي الأكيد الذي ظهر من خلال كل تلك التصريحات والمعارك العنترية هو أن مصر كلها صغيرها وكبيرها تغار على أديبها المبدع الذي فتح بابا للعالمية أمام المثقفين وباب للأمل أمام كل من لديه حلم.

لن أتطرق إلى نقل تركة أديب محفوظ الروائية من أحضان دار الشروق المصرية إلى أحضان ديوان للنشر المصرية، ولا الأغلفة التي قلبت مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض وصاحب رأي ومأجور..لأن في النهاية لازالت مصر تنشر لنجيب محفوظ ولازال تراثه حيا على أرفف المكتبات وهو المطلوب.

منذ أيام خرجت إبنته هدى وهي التي تتعامل على إرثه الثقافي حاليا لتعلن عن قرار إتخذته بنشر كتاب عن ذكرياتها مع والدها ودور أمها (الذي حاول الكثيرون تهميشه طويلا حسب ما قالت!)، ولأنها تؤمن بالأقدار فقد تزامن مع قرارها عثورها على مذكراته الوحيدة المكتوبة بخط يده والتي تكشف عن جوانب كثيرة مهمة وخفية في شخصيته!.

هنا عدت إلى أرفف مكتبتي أبحث عن أهم كتاب في رأيي كُتب عن نجيب محفوظ وتسائلت..

أي مذكرات تلك التي وجدوها؟ ألم يكتب نجيب محفوظ كل ما يمكن أن يقال في مشوار حياته؟ ولماذا قرر أن يروي يوما ويكتب غيره، لا بد أنه إختار بنفسه من يؤتمن؟ ولماذا عاد وكتب مذكراته بعد أن أملاها يوما على أستاذ من جهابذة الأدب العربي؟ وأين كانت تلك الأوراق كل تلك السنوات؟

صفحات من مذكرات محفوظ بقلم النقاش:

إنها أبرز محطات رجاء النقاش المهنية على االإطلاق، تكليفه من مركز الأهرام للترجمة في عام ١٩٩٠ بأن يجرى أحاديث مع الأديب الكبير نجيب محفوظ ويتم نشرها كصفحات من مذكراته، حسب مقدمة الكتاب الذي يقع في ٣٨٣ صفحة من القطع الكبير والصادر في عام ٢٠١١ كطبعة ثانية عن دار الشروق للنشر، تحمس النقاش للفكرة بشكل كبير ودون تردد، واستغرقت ما يقارب سنتين مع الحوارات المتصلة مع أديب نوبل، ونشرت تلك الحوارات بعنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"

كانت البداية في عام ١٩٩٠ في لقاءات صباحية تقرب من ثلاث ساعات لمدة أربع أيام أسبوعية في مقهى علي بابا بالتحرير.

يسأل النقاش ويجيب محفوظ، يروي محفوظ ويكتب النقاش..كان خوف النقاش من الوقوع في خطأ يدفعه كل يوم إلى التراجع خطوتان كلما تقدموا خطوة.

فصول من حياة إبن الجمالية:

الكتاب يستعرض في أربعة وعشرون فصلا كل ما يتعلق بحياة محفوظ، بكل دقة وبساطة، من خلال كلماته ورؤيته الفكرية والأدبية..

بدءا بطفولته وشبابه وأباه الموظف البسيط الذي إقتدى به، وأمه السيدة العظيمة التي لا تقرأ ولا تكتب ولكنها أدخلته عوالم البركة والتصوف والتواصل مع الخالق والأديان بكل هدوء ودون تمييز.

تحدث عن أدباء عرفهم وأساتذة تعلم منهم وعلموا فيه، تحدث عن أهل الفن وحرافيشه الذين صنعوا دنياه، والحقيقة البا~سة أنه لم يذكر أسماء الكثيرون ممن تعلقوا بسيرته وحياته بعد رحيله وكأنهم كانوا أصدقاء عُمر وفي الحقيقة لم يأتي ذكرهم لا من قريب ولا من بعيد!.

وتتوالى الفصول لينقلنا إلى أرائه السياسية ومتاعب قابلته بسببها وحتى محاولة إغتياله من قبل شاب لم يقرأ له ولكنه رأى أن تكفيره وإغتياله واجب ديني!.

من أزمة أولاد حارتنا إلى كتبه الممنوعة ونساء في حياته، وحكاياته مع زعماء مصر بأراء تبدو صادمة ولكنها قاطعة تؤكد مواقفه السياسية الواضحة.

من روايات أثارت أزمات إلى النكسة التي إنتكست بسببها نفوس المصريين وأصابتهم في مقتل بل وسرقت منهم الحلم إلى أزمة الخليج.

هكذا سرقتني الصفحات وأنا أنتقل بينها وأتعلم من كل كلمة قالها الأستاذ وصاغها الأستاذ..وأتسائل، هل كان محفوظ بعد كل هذه التفاصيل الدقيقة والأراء التي تعبر عنه بلسانه يبحث عن آخر ليروي عنه؟ ولماذا لا نترك الإختيارات لصاحبها، هل كان من الممكن أن يجد الأستاذ من هو أفضل أو أدق من رجاء النقاش ليأتمنه على حياته وأرائه وذكرياته؟ ولو كان هناك من يؤتمن بالفعل فلماذا لم يوكله ليكتب وهو على قيد الحياة؟

أدباء في حياته:

تحدث نجيب محفوظ عن توفيق الحكيم كأستاذ وصديق وشخص له مكانة خاصة في قلبه وتحدث عن العقاد الذين ما دام إتهمه النقاد بأنه كان يغار منه بأنه أحبه وربما لم يعجبه فقط هجومه الحاد على أحمد شوقي رائد المدرسة الكلاسيكية التي لم يكن العقاد معجبا بها، كما تأثر بطه حسين كقلم متفرد، إلا أن علاقته بالحكيم هي علاقة إرتباط روحاني ووجداني خالصة.

تحدث أيضا عن دور سلامة موسى في حياته وهو الذي كان ينشر له كتاباته الأولى في (المجلة الجديدة).

وتحدث عن علاقته بيحيى حقي الكاتب الذي أعجب بقلمه وعمله هو وأحمد باكثير كمساعدين له في إدارته لمصلحة الفنون.

يبدو أن محفوظ رأى على عكس الكثيرين أن إلتحاقه بوظيفة حكومية لمدة ٣٧ عام لم تكن ضربا من الخيال برغم إستغراب الكثيرين، ووصف الوظيفة بأنها كانت مادة إنسانية عظيمة وعرفته بنماذج بشرية كان لها أثر في كتاباته، وهو ما رأيته أنا جليا على سبيل المثال في شخصية محجوب عبد الدايم في القاهرة ٣٠.

يقول محفوظ:

" من المستحيل أن يتفرغ الأديب في مصر للكتابة في ظل الأوضاع والمجتمع الذي نعيش فيه، ولو كنا مثل أوروبا وصدر لي كتاب متميز لتغيرت حياتي، وكنت قد إستقلت من الوظيفة وتفرغت للأدب، لأن الكتاب المتميز يحقق إيرادا يكفي لاتخاذ مثل هذه الخطوة".

روايات وأزمات:

روى في أحد الفصول الهامة من وجهة نظري عن أزمات حدثت له من خلال صدور بعض الروايات مثل رواية (أولاد حارتنا) ورواية الكرنك الذي كتبها بوحي من شخصية حمزة البسيوني مدير السجن الحربي في عهد عبد الناصر.

مثلها مثل الروايات التي إنتقد فيها النظام مثل (ثرثرة فوق النيل) و(الخوف).

يقول محفوظ أن الزوبعة التي أثارتها رواية أولاد حارتنا لا تتفق مع حسن النية التي كانت وراء كتابته لها، أثارت الرواية جدل عقيم عن الوصف الذي تصور البعض أنه طال الأنبياء، إلا أنه تصور أنها كانت ستقرأ من منظوره الشخصي المسالم الحالم، فالمغزى الرئيسي للرواية هو أنها حلم كبير بالعدالة وبحث دائم عنها وإجابة عن سؤال هو: هل القوة هي السلاح لتحقيق العدالة أم الحب والعلم؟

كما أدخلته رواية (الخوف) التي تدور أحداثها حول ظابط يدخل عالم الفتوات ويهزمهم ويتخلى عن البدلة الميري ليصبح واحدا منهم، كانت الرواية  تهدف إلى إعتراضه الواضح على أساليب الثورة الديكتاتورية وأن الفتوات هم رمز للقوى السياسية والأحزاب التي تتصارع على السلطة قبل الثورة.

كما سببت القصة بعد نشرها رعبا للمسئولين سببت رعبا لنجيب محفوظ نفسه بسبب الأسئلة التي كانت تُلقى عليه للإستفسار عن مغزى الرواية.

وذكر أيضا فكرة رواية الكرنك وكيف جاءته وهو يستمع إلى أصدقائه على مقهى ريش وهم يقصون عليه ألوان العذاب الذي لاقوه أثناء إعتقالهم، بدأ التخطيط للرواية وحين إنتهى منها قدمها للأستاذ هيكل لينشرها في الأهرام، وحين قرأها هيكل إعترض وثار وشكاه لتوفيق الحكيم معترضا على نشرها.

كان محفوظ قلم جرئ وقادر على نقل المشهد من الواقع إلى الورق، لكنه قلم تسبب له في مشاكل إنتهت بمحاولة لإغتياله في صبيحة الجمعة ١٤ أكتوبر ١٩٩٤.

وبعد..

لم ينتهي الكتاب، ولن تنتهي ذكريات محفوظ، فالرحلة طويلة وزاخرة بالأحداث والمشاهد الثقافية التي كُتبت بصوت أديب نوبل وقلم رجاء النقاش تحتاج إلى ألف مقال.

 إنها رحلة إبحار رائعة أدخلتني دنيا المبدع العظيم ببساطته وحنكته وشهاداته على العصر وحرافيشه..رحلة إبحار نقلتني من مقاعد القراء والمقتدين بالأستاذ إلى جواره وكأنني أرى هذا العصر بعينيه ومن خلال أفكاره..

تحية للعظيمين...محفوظ والنقاش

                                              [email protected]