د. محمود جلال يكتب: الابتكار في البرازيل من منظور مؤشر الابتكار العالمي (ج3)

مقالات الرأي

بوابة الفجر

 

الأزمات المالية وأثرها على الانفاق الحكومي في البحوث والتطوير

واجهت البرازيل في السنوات الأخيرة أزمة مالية خطيرة، حيث تعرضت لأزمة اقتصادية عام 2014 عرفت بإسم الركود البرازيلي الكبير، وبينما كانت لا تزال تتعافى من هذه الأزمة أصابتها أزمة جائحة فيروس كورونا في عام 2020، والتي أثرت سلبًا على الإنفاق العام وما تبعه من تأثيرات على قدرة الإنتاج العلمي والتكنولوجي وبالتالي أثره على النمو الاقتصادي بالبلاد. 

حيث تم تخفيض مخصصات الميزانية بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة لكل من الصندوق الوطني للتنمية العلمية والتكنولوجية (FNDCT) والمجلس الوطني للتطوير العلمي والتكنولوجي CNPq)) التابعين لوزارة العلوم والتكنولوجيا والابتكار اللذان يعتبران مصادر التمويل الأساسية التي تدعم البحوث من الميزانية العامة للدولة. 

فبعدما كانت ميزانية الصندوق الوطني للتنمية العلمية والتكنولوجية (FNDCT) ما يقرب من 1.3 مليار دولار أمريكي في عام 2010، أصبحت تقل عن 400 مليون دولار أمريكي في عام 2018 بما يمثل انخفاضًا بأكثر من 70٪ في موارد المشاريع البحثية في الشركات والجامعات والمؤسسات البحثية البرازيلية والذي يعتبر المصدر الرئيسي لتمويلها. 

وحدث الشيء نفسه مع المجلس الوطني للتطوير العلمي والتكنولوجي CNPq)) في عام 2019 كانت الميزانية التقريبية 300 مليون دولار أمريكي بما يمثل نصف ميزانية عام 2013، وأدى هذا الانكماش إلى إعلان المجلس تعليق برنامج منح الخرجيين، وعدم استطاعته دفع رواتب آلاف الباحثين. ويختص المجلس بتعزيز البحث العلمي والتكنولوجي من خلال توفير منحًا للمشاريع البحثية في الجامعات والمؤسسات البحثية البرازيلية، وبناء الكوادر البحثية من خلال توفير منحٍ دراسية للطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا والباحثين. 

وهذا الانخفاض الحاد في المخصصات الحكومية للبحوث والتطوير يؤدي لعدم وجود موارد عامة متاحة لدعم تطوير التكنولوجيات الجديدة في الشركات أو المؤسسات البحثية، وهجرة العقول من باحثين وعلماء إلى الخارج بحثًا عن فرص مهنية خارج البلاد بسبب نقص الفرص في البرازيل، والتي بالتالي تؤثر على قدرة البلاد على الابتكار والمنافسة على المدى الطويل في ظل خسارة هذه المواهب المؤهلة في بلد عدد العلماء والباحثين به منخفضٌ مقارنة بالدول الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تدهور مرتبة البرازيل في مؤشر تنافسية المواهب العالمي (GTCI)، فبعد أن كانت تحتل المرتبة 33 في القدرة على جذب المواهب في عام 2014 أصبحت تحتل المرتبة 75 في عام 2021 (في حين تحتل مصر المرتبة 84 من بين 134 شملها المؤشر). 

التحديات التي تواجه الابتكار في البرازيل وكيف يمكن التغلب عليها 

تكلفة التمويل والمخاطر العالية المرتبطة بالابتكار تحد من رغبة الشركات في الاستثمار في البحوث والتطوير والابتكار. الأمر الذي يستلزم بناء سياسات مستقرة وفعالة لدعم أنشطة البحوث والتطوير، مع ضمان استمرار التمويل الحكومي للبحوث لضمان تحقيق نتائج ملموسة حيث تتطلب البحوث والتطوير جهودًا طويلة الأمد. وكذلك تقييم وتحسين أنظمة الحوافز الضريبية وضمان استمراريتها والتوسع فيها مما يساهم في تقليل تكلفة التمويل ومخاطر الاستثمار التجاري في الابتكار لضمان تأمين الاستثمار في البحوث والتطوير حتى في وقت الأزمات المالية. 

ففي ظل حالة عدم الاستقرار التي تعرض لها تمويل الابتكار خاصة القروض المدعومة بعد نموها المتسارع بين عامي 2010 و2014 تعرضت لانخفاض حاد في السنوات الأخيرة، وبالمثل حدث في التمويل الحكومي المباشر للبحوث والتطوير الأمر الذي يؤدي إلى تعريض الجهود المبذولة في الفترة السابقة للخطر، نظرًا لأن البنية التحتية البحثية التي تم إنشاؤها مسبقًا تتطلب صيانة واستثمارات مستمرة.

ويتطلب تعزيز أنشطة الابتكار في البرازيل ضمان استمرار توفير القروض المدعومة للابتكار، وتصميم آليات أخرى لتمويل الابتكار مثل التي تعمل على تحفيز ونمو أسواق رأس المال الاستثماري والتي تعتبر إحدى الطرق لتسهيل تمويل التكنولوجيات المزعزعة (disruptive technologies) الهامة لتحقيق قفزات تكنولوجية وتنافسية عالمية، 

حيث تواجه البرازيل تحديًا كبيرًا يتمثل في ندرة صناديق رأس المال الاستثماري بها والتي تمثل فقط 0.01٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بما يتراوح بين 0.3٪ و0.4٪ في دول مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل، مما جعل البرازيل تحتل المرتبة 61 في مؤشر صفقات رأس المال الاستثماري بتصنيف مؤشر الابتكار العالمي لعام 2018. حيث يمثل رأس المال الاستثماري أقل من 10% من إجمالي صناديق الاستثمار بالبرازيل.

لذلك بدأت الحكومة منذ بدايات الألفية الثالثة بالاستثمار في صناديق رأس المال الاستثماري من خلال هيئة تمويل الدراسات والمشروعات (Finep) وبلغ حجم استثماراتها بنهاية عام 2018 فقط نحو 230 مليون دولار أمريكي، ويسير على خطاها الآن البنك الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (BNDES).

كما تم إنشاء جمعية ممولي البرازيل (Angels of Brazil) في 2011 والتي تهدف إلى تعزيز نمو استثمارات المستثمرين الممولين (angel investments) لدعم الشركات الناشئة في مرحلة النمو، وتم إقرار قانون رقم 155 لعام 2016 والذي ينظم مسئوليات واستثمارات المستثمرين الممولين (angel investors) في الشركات الناشئة، وهو يعتبر خطوة جيدة أدت إلى أن هناك أكثر من 7000 مستثمر ممول (angel investors) قد استثمروا نحو 400 مليون دولار أمريكي في عام 2016، ولكنها مازالت تعتبر استثمارات صغيرة بالنسبة لحجم الاقتصاد البرازيلي.

أيضًا لمساعدة رواد الأعمال البرازيليين في العثور على أفضل الأدوات العامة أو الخاصة لدعم مشاريعهم الابتكارية، أنشأت حركة "حشد الأعمال من أجل الابتكار" (MEI) منشورًا دوريًّا وأسمته MEI Tools وهو يلخص جميع برامج دعم الابتكار المتاحة في الدولة سواء أكانت عامة أو خاصة.

وبغض النظر عمَّا تم إنجازه حتى الآن لدعم الابتكار ما زالت هناك قيود قانونية وتنظيمية تعوق تطور سوق رأس المال الاستثماري في البرازيل وهي:

- نظام ضريبي غير ملائم.

- غياب الحوافز الضريبية لأصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية (venture capitalists).

- عدم وجود قوانين منظمة لها.

-  الوقت الطويل اللازم لفتح وإغلاق شركة وتغيير نظامها.

-  تحميل المستثمر مسؤولية ديون (debts) الشركات الناشئة.

ولكن لتحفيز وتطوير سوق رأس المال الاستثماري في البرازيل مطلوب الآتي:

-  تحسين آليات التخارج من الاستثمار، مثل تطوير الأسواق الثانوية (secondary markets) التي يتم فيها إعادة بيع الأوراق المالية (مثل الأسهم والسندات والعقود الآجلة) إلى مشترين آخرين بعد أن قام المشتري الأصلي بشرائها مباشرة من المصدر خلال الطرح الأولي لهذه الأوراق المالية. 

- الإعفاء من الضرائب على عائدات رأس المال التي تحصل عليها صناديق رأس المال الاستثماري التي تستثمر في الشركات الناشئة. 

- التوسع في آليات الاستثمار العام المشترك في صناديق رأس المال الاستثماري الخاص، من أجل تقاسم المخاطر وتحفيز التكنولوجيات التي تلبي أولويات الدولة.

ورغم التطور الكبير في سياسات والآليات دعم وتمويل الابتكار بالبرازيل، مازالت تواجه الكثير من التحديات التي تستلزم تقييم الآثار السلبية والإيجابية الناتجة عنها، وإجراء تقييم دقيق لأداء الشركات والجهات البحثية، من أجل التحسين والتطوير الدائم لهذه السياسات والآليات بناء على الفاعلية والأدلة المرصودة عند التنفيذ حتى تكون أكثر فعالية وتحقق أعلى عائد للاقتصاد البرازيلي وزيادة القدرة التنافسية للبرازيل وسط الاقتصاد العالمي.

وللحديث بقية،