عادل حمودة يكتب: حرب بلا نهاية وتضخم بلا عودة

مقالات الرأي

عادل حمودة
عادل حمودة

زيادة الإنفاق العسكرى ودعم مستهلكى الطاقة واستثمارات المناخ وراء رفع الأسعار

الوضع الاقتصادى المحموم جعل جميع البنوك المركزية فى أزمة بلا مخرج

الحكومات الأوروبية أنفقت ٢٠٠ مليار يورو لمساعدة الأسر على دفع فواتير الطاقة.. وفرنسا تؤمم شركات الطاقة

ما أن استولى «بوتين» على شبه جزيرة «القرم» فى عام ٢٠١٤ حتى أمر ببناء جسر يربط بينها وبين روسيا فوق مضيق «كيرش».

الجسر مزدوج أحدهما للمركبات والثانى للسكك الحديدية ويصل طوله إلى ١٩ كيلومترا وتكلف ٥ مليارات دولار وبعد ثلاث سنوات من العمل الشاق قاد «بوتين» بنفسه شاحنة معلنا افتتاحه.

يوم السبت ٨ أكتوبر الجارى تعرض الجسر إلى انفجار بسيارة مفخخة أصابت هيبة «بوتين» قبل أن تصيب الجسر الذى يعتبره أيقونته الثمينة.

ما ضاعف من شعور «بوتين» بالإهانة أن الجسر تحميه صواريخ «إس ــ ٤٠٠» وحاملات طائرات وبوارج نووية وتراقبه وحدة استخبارات تتبع قيادة الأركان.

وسارع المهندسون بإصلاح جسم الجسر وسارع العسكريون بتضميد نفسية «بوتين» بإطلاق مئات من الصواريخ البالستية على العاصمة الأوكرانية «كييف».

لكن تلك الصواريخ مهما بلغت مساحة تدميرها لن تعالج عقدة «بوتين» التى تكونت بسبب استهانة الغرب به وببلاده.

خرجت روسيا من حسابات الغرب بعد أن واجهته بندية طوال سنوات الحرب الباردة إلا أنها بعد أن كانت قوة عظمى لم تعد ــ بعد انهيار وتفتت الاتحاد السوفيتى سوى قوة إقليمية.

وباستهانة واضحة تصل إلى حد الاذدراء رفضت الولايات المتحدة انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلنطى (الناتو) ولم يحترم تعهدها بعدم ضم دول أوروبا الشرقية إلى الحلف بل أكثر من ذلك ضمت دول البلطيق (إستوانيا ولاتفيا وليتوانيا) إلى الحلف ووجهت أجيالا متطورة من الصواريخ فى اتجاه موسكو.

أجمع محللو وكالة الاستخبارات المركزية على أن «بوتين» لديه «عقدة نقص كبيرة» سببها أن الغرب لا يأخذه على محمل الجد.

أصبح على «بوتين» إجبار الغرب على الانتباه إليه وسماع صوته واحترام وجوده.

تدخل فى سوريا واحتل شبه جزيرة القرم ثم كانت الحرب على أوكرانيا.

لم تكن الحرب خاطفة كما توقع ولم تستسلم أوكرانيا كما حلم ولم يجد مكانا تحت الشمس كما سعى.

طالت الحرب حتى بدت بلا نهاية.

وخرجت الأسلحة النووية التكتيكية من مخازنها.

وبدأت حرب العصابات قادرة على تنفيذ أهداف موجعة منها عملية جسر «كيرش» التى سبقتها تفجيرات فى قواعد عسكرية روسية.

وفى الوقت نفسه أدرك العالم أن نظامه السياسى ليس وحده الذى سيتغير وإنما نظامه الاقتصادى أيضا.

تحمل العالم ٤٠ تريليون دولار بسبب زيادة أسعار الطاقة والغذاء وانهيار الأسهم والسندات فى بورصات الدنيا كلها مما أشعل نار التضخم إلى حد غير مسبوق ووصل بعدد المرشحين للمجاعات إلى ٥٠٠ مليون شخص.

وبزيادة سعر الفائدة تراجعت الشركات عن الاقتراض لزيادة استثماراتها مما أدى إلى انكماش فى النمو سيتضاعف سنة بعد أخرى.

(رفع ٣٣ بنكا مركزيا من أصل ٣٨ بنكا مركزيا أسعار الفائدة فى عام ٢٠٢٢).

وأنفقت الحكومات ١٠٪ من الناتج المحلى الإجمالي لدعم اقتصاداتها وقدموا ٦٪ أخرى من القروض.

وخسرت صناديق الاستثمار (ومنها صناديق المعاشات) خسائر فى محافظ الأصول غير السائلة.

وأنفقت الحكومات الأوروبية نحو ٢٠٠ مليار يورو لمساعدة الأسر على دفع فواتير الطاقة المرتفعة.

وبسبب الحرب فى أوكرانيا وتهديدات روسيا والصين رفعت أوروبا ميزانية تسليحها ونسبة مشاركتها فى تمويل حلف الناتو إلى ٢٪ من الناتج المحلى الإجمالي وكان متوسط الإنفاق الدفاعى فى أوروبا ١.٦٪ فقط وتريد رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة «ليزا تروس» أن ترفع نسبة الإنفاق العسكرى من ٢.٢٪ إلى ٣٪ من إجمالي الناتج المحلى بحلول عام ٢٠٣٠.

وبسبب التوترات التى تحدث بسبب أزمة جزيرة «تايوان» رفعت الصين واليابان والهند وماليزيا ميزانيات التسليح تحسبا مما قد يأتى.

وسبقت منطقة الشرق الأوسط ــ بأزماتها السياسية فى إيران وسوريا وليبيا واليمن ــ باقى دول العالم فى تخصيص جانب مؤثر من دخلها القومى لشراء الأسلحة.

ولا شك أن الإنفاق العسكرى أحد أسباب زيادة التضخم.

لكن هناك أسبابا أخرى للتضخم تصب وقودا على ناره المشتعلة.

منها وجود ارتفاع هيكلى فى الإنفاق الحكومى على المسنين الذين يتزايد عددهم بسبب تطور الرعاية الصحية.

(نمت نسبة سكان العالم الذين تزيد أعمارهم عن ٥٠ عاما من ١٥٪ فى خمسينات القرن الماضى إلى ٢٥٪ فى عشرينات القرن الحالى ومن المتوقع أن ترتفع إلى ٤٠٪ مع نهايته مما رفع الإنفاق على المعاشات والرعاية الصحية فى الاقتصاديات المتقدمة بمعدل ٢.٨٪ من الناتج المحلى الإجمالي وبمعدل ٢.٦٪ فى الأسواق الناشئة بل إن دولة مثل اليابان تنفق حوالى ١٠٪ من الناتج المحلى الإجمالي على كبار السن مما رفع الديون العامة فيها إلى ٢٦٦٪ من الناتج المحلى الإجمالي).

ومنها أن تغير المناخ والسعى إلى تحقيق استثمارات الدولة فى الطاقة النظيفة ومحطات الوقود الأخضر سيكلف الكثير من الإنفاق العام.

(يقدر معهد ماكينزى العالمى أنه يجب إنفاق ٩.٢٪ من الناتج المحلى الإجمالي السنوى لخفض الانبعاث الكربونى بين عامى ٢٠٠٥ و٢٠٣٠ إلى جانب ما تنفقه الشركات الخاصة المسئولة عن ٩٠٪ من إجمالي استثمارات الطاقة)

كل هذه العناصر ستزيد من إشعال التضخم دون وجود ما يطفئه أو ما يحد منه.

سيكون تضخما مزمنا يصعب التفاهم معه ويصعب التعايش معه ويصعب التقليل من آثاره السياسية (سخط المستهلك على حكوماته والسعى إلى تغييرها) وآثاره المعيشية (انخفاض مستوى الرفاهية فى الطبقات الوسطى) وآثاره المالية (انخفاض قيمة العملات) وآثاره الاقتصادية (زيادة الانكماش وتواضع معدلات النمو).

لكن أهم الانقلابات فى النظام الاقتصادى الجديد هو عودة الحكومات للتدخل فى رسم السياسات المالية وتحديد أسعار الوقود عند حد أقصى، بل وتأميم شركات الطاقة إذا ما لزم الأمر كما حدث فى فرنسا حين أممت شركة (إى دى إف).

تجاوزت الحكومات نصائح البنوك المركزية للحد من التضخم واتخذت قرارات وسياسات تزيد من التضخم مثل زيادة الإنفاق (عسكريا وصحيا) ومثل دعم الطاقة ليتحمل المواطن تكاليفها المرتفعة ومثل الاستثمارات التى تنفقها على الصناعات غير الملوثة للبيئة حماية للمناخ.

فى عام ١٩٧٨ ــ حسب مجلة «ايكونوميست» ــ نظر «ميلتون فريدمان» الخبير فى معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد ــ إلى الوراء فى ثلاث فترات ركود ضربت الاقتصاد الأمريكى (وأثرت على الاقتصاد العالمى) وكتب: «السيناريو هو نفس السيناريو». أموال سائلة تخلق طفرة استثمارية تزيد من الطلب. طلب تجاوز حدود العرض يؤدى إلى تضخم. تضخم يدفع إلى احتجاجات تجبر البنوك المركزية على تخفيض سعر الفائدة. سعر مرتفع للفائدة يقلل من الاستثمار ويزيد من الركود. الركود يضاعف من نسب البطالة مما يجبر الحكومات على رفع الإنفاق العام لخلق مشروعات التحفيز.

الاقتصاد العالمى الآن فى المرحلة الأولى من حلقة فريدمان. تضخم أدى إلى تدمير اقتصاديات البنوك المركزية وسحق ثقة المستهلك خاصة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة مما يجعل الشتاء القادم شتاء ساخنا بالغضب.

حسب المصدر نفسه فإن المرة الأخيرة التى تغلبت فيها الاقتصاديات الغنية على التضخم كانت من عام ١٩٨٥ إلى عام ٢٠٠٧. كان النمو ثابتا (فى حدود ٤٪) والتضخم منخفضا (لا يزيد عن ٢٪) واحتفل الاقتصاديون بـسيطرتهم على السياسيين.

ولكن ذلك الاستقرار مزقته الأزمة المالية فى ٢٠٠٨.

وهنا انتقل القرار من الاقتصاديين إلى السياسيين.

لم يتقيد السياسيون بحدود الإنفاق العام الأمن وأفرطوا فى القروض مما سمح للتضخم بمزيد من الدفء سرعان ما انقلب إلى سخونة لم تهبط درجة حرارتها، بل قفزت إلى مستوى الحمى.

هنا وضعت البنوك المركزية فى أزمة لم تستطع أن تخرج منها حتى الآن.