ياسر شوقى يكتب: سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة

مقالات الرأي

ياسر شوقى
ياسر شوقى

عندما فتح عادل حمودة ملف الجماعات الإرهابية فى زمن الدم والرعب

فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى، قدم الكاتب الكبير الأستاذ عادل حمودة، ٤ كتب من أهم ما كتب عن عالم الإرهاب الأسود، وقتها كانت جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية التى خرجت من رحمها فى أوج قوتها وعنفوانها، وكان السير فى دروب نقد أفكارهم وتفسيرها وتحليلها ليس له جزاء سوى القتل.

صدر كتاب «سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة» فى طبعته الأولى فى ربيع سنة ١٩٨٧، وفى تلك الفترة الملتهبة كتب الأستاذ «اغتيال رئيس» ثم «قنابل ومصاحف» و«الهجرة إلى العنف» وأخيرًا «سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة».

ومؤخرًا وافق الأستاذ على مشروع دار ريشة للنشر والتوزيع، لإعادة تقديم تلك الكتب فى إصدارات جديدة.

طبعة «سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة» الجديدة تقع فى ٢٢٦ صفحة من القطع الكبير، ولأنها صدرت فى ٢٠٢٢ بعد أن جرت فى النهر مياه كثيرة كان لا بد من مقدمتين، الأولى مقدمة طبعة ١٩٨٧ والثانية للطبعة الجديدة.

مقدمة الطبعة الجديدة أشبه بوثيقة إدانة للمعالجات النقدية التى تناولت سيد قطب، دون النظر إليه على أنه ابن مجتمعه، وظروف نشأته التى صنعت منه شخصية صاحبة تحولات مذهلة.

يقول الأستاذ عادل حمودة: «من يعرف بداية سيد قطب، كان من عاشر المستحيلات أن يعرف أو يتوقع أو يتخيل، أو يتصور أو يتنبأ بما ستكون عليه خاتمته.. بدأ معلمًا وانتهى زعيمًا، بدأ ناقدًا للأدب، وانتهى ناقمًا على الثورة»... و«رغم شهرته وتكاثر أتباعه وذيوع أفكاره، فإن غالبية الناس لا تعرف عنه وعن تحولاته وتغيراته الكثير».

يرى الأستاذ أن عدم إصدار كتاب عن سيد قطب، كارثة، ولكن لها ما يبررها، فأنصاره يرون عن عمد أن فى حياته ما لايجوز نشره، ويقصدون أيام كان على خلاف مع الدين، مندفعًا كالفراشة ناحية الضوء المبهر للحضارة الغربية، أيام كان يكتب عن المرأة والعشق وموسيقى الجاز، ويدعو إلى أن تكون مصر مستعمرات عراة، لتبدأ حياته من لحظة الهداية والعقيدة وبداية الطريق إلى «الاستشهاد»، كأنه ليس إنسانًا يتبدل ويتغير، يخطىء ويصيب، يضل، ويهتدى، كأن رجولته بلا طفولة، وكأن أفكاره كانت نبتًا شيطانيًا، نام الناس واستيقظوا ليجدوها فى عقله وأمام أعينهم».

بعد نشر الطبعة الأولى أهدى الأستاذ عادل حمودة نسخة منها للأديب الكبير صاحب نوبل، نجيب محفوظ، وصلت إليه عن طريق الكاتب الساخر على سالم، وقبل انتهاء الأسبوع «تفضل نجيب محفوظ بدعوتى إلى صالونه الأدبى بفندق شبرد، وحرص على أن نتحاور معًا قبل أن يأتى مريدوه».. «اتفق معى على عدم استقرار سيد قطب عند حالة ثابتة، وأحزنه أن ينسى سيد قطب موهبته فى الكتابة ويتورط فى السياسة، وينشغل بالانتقام على حساب الإبداع، ولا يكمل مشاريعه الفكرية، بعد تورطه فى مؤامرة إجرامية».

ونجيب محفوظ كتب شخصية سيد قطب، فى رائعته «المرايا» التى نشرها عام ١٩٧٢، باسم «عبد الوهاب إسماعيل»، ونتعرف عليه من عينيه الجاحظتين ونحافة جسده، وضعف صحته، وحدة ذكائه، ومقدرته الفائقة على الجدل وإعجابه بذاته إلى حد تدميرها.

وكان سيد قطب – الناقد الأدبى- أول من انتبه إلى روايات نجيب محفوظ الأولى (كفاح طيبة، وخان الخليلى، والقاهرة الجديدة).

«ولم ينكر نجيب محفوظ أن غياب المرأة فى حياة سيد قطب ضاعف من أزماته، فهو لم يعرف الحب ناضجًا بعد أن عشق زميلته فى المدرسة الابتدائية، وهو لا يزال صبيًا فى قرية موشا الصعيدية التى ولد فيها».

و«موشا» هى إحدى قرى أسيوط التى للمفارقة شهدت بعد وضع الإطار الفكرى للسلفية الجهادية فى كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق»، أعنف حوادث العنف والإرهاب، والتفجير، واستحلال أموال الناس بدعوى أنهم كافرون، وأموالهم غنيمة.

الكتاب مقسم لـ ٨ فصول، تبدأ بـ «طفل القرية المدلل»، وتنتهى بـ«الطريق إلى المشنقة»، وبينهما ٦ فصول تتبع بدقة ودأب التغيرات المذهلة التى لحقت بحياة سيد قطب الذهنية والفكرية، وكيف تحول من ناقد أدبى وكاتب سعى جاهدًا إلى كتابة الشعر وفشل، كما سعى إلى كتابة السيرة الذاتية فى «طفل القرية»، على طريقة «الأيام» لطه حسين،لكنه لم يلق أى صدى، إلى مفكر، وذلك بعد تأليف «العدالة الاجتماعية فى الإسلام»، الذى صدر سنة ١٩٤٩.

ولد سيد قطب سنة ١٩٠٦ ومن منتصف العشرينيات إلى قرب نهاية الثلاثينيات كان مثل العقاد وطه حسين وغيرهما من المثقفين المصريين، معجبًا بالحضارة الغربية، و«تحول الإعجاب إلى عشق، وتحول العشق إلى إدمان»، وبعد سنوات استعادوا وعيهم الشرقى، وكفروا بتلك الحضارة، لكن سيد كان كعادته متطرفًا فى تقلباته الفكرية، ففى ذلك الوقت دعا للعرى الكامل، ثم كان متطرفًا فى عداوته للحضارة الغربية، فرفض العلوم الإنسانية والفلسفية التى أفرزتها وقاطع وخاصم تلك العلوم، وعدها حرامًا لا يجوز الاقتراب منه، مثل الميسر والربا والميتة ولحم الخنزير، لكنه أباح الأخذ بالنشاط العلمى للحضارة الغربية، مثل علوم الكيمياء والطبيعة والفلك والأحياء والطب، وفى تعليقه على ذلك يقول الأستاذ عادل حمودة «أن نستورد النظريات العلمية، المعملية المجردة، دون أن نستورد معها انعكاساتها على الفلسفات الاجتماعية والأخلاقية، إذا لم يكن مستحيلًا فهو صعب، فالعلوم المجردة تعبر عن حاجة المجتمع وفلسفته وأهدافه ومذهبه ونظامه الخاص، وتخلق تلك العلوم من جانبها واقعًا ماديًا يؤثر على الطبقات والأخلاق والانفعالات والفلسفات أيضًا.

وبتعبير أوضح، فإن السيارة هى نتاج علوم معملية مجردة، ليست مجرد موتور ومقاعد وكشافات وعجلة قيادة، إنها نتاج علوم إنسانية وفلسفات اجتماعية، تعبر عن الذوق و«الطبقة» ومفهوم الاستهلاك، السيارة لم تصنعها علوم الميكانيكا والكهرباء فقط، وإنما صنعتها علوم النفس والاجتماع أيضًا.

وبتحليل موقف سيد قطب من العلوم المعملية، والعلوم الإنسانية، نجد تفسيرًا لظهور الجماعات والتنظيمات الإسلامية بين طلبة العلوم والصيدلة، كان طلابها ينفذون ما قاله الأستاذ والمعلم».

فى كتاب «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» كان إهداء سيد قطب «إلى الفتية الذين ألمحهم فى خيالى قادمين يردون هذا الدين جديدًا كما بدأ، يجاهدون فى سبيل الله لا يخافون لومة لائم»

وفهم البعض أنه يقصد الإخوان المسلمين، وفهم شباب الإخوان المسلمين ذلك أيضًا، ولم يكن الأمر كذلك، كما اعترف سيد قطب بنفسه فى الإقرار الذى كتبه بخط يده بعد القبض عليه سنة ١٩٦٥ فى قضية التظيم الذى أسسه فى السجن وحوكم عليها بالإعدام ونفذ الحكم.

كتاب «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» يضم تعبيرات شائعة فى المجتمع المصرى بتياراته وأحزابه المختلفة، وفى تلك الفترة (١٩٤٨) أيضًا بدا أن الولايات المتحدة الأمريكية من المعجبين بنغمة العدالة الاجتماعية، وكانت تستعد لأن ترث الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة (النفط – حماية إسرائيل- مواجهة الشيوعية) وأسهم الأمريكان فى العزف على نغمة الإصلاح الزراعى والعدالة الاجتماعية والضرائب التصاعدية، وكذلك فعل عدد من باشوات ذلك العصر، فاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يميز بين صوت الباشوات، وصوت الأمريكان، وصوت سيد قطب.

لكن سيد قطب وضع على ظهر «العدالة الاجتماعية» العباءة وفى يدها المسبحة، وحتى الآن يعد الكتاب «دستور» السلفية الإسلامية الهادئة، كما يصفها الأستاذ عادل حمودة، لكن سيد قطب فى سياق تحولاته المذهلة التى تعبر عن شخصيته وتحوله من النقيض للنقيض بطريقة تشير إلى شخصيته المتقلبة، رفض هذا الدستور فيما بعد، وتجاوزه بكتاب «معالم فى الطريق»، الذى أصبح دستورًا للسلفية الرديكالية «الجهادية» التى أنتجت جماعات الكفر والإرهاب بجميع أشكالها.

والكتاب الأخير «معالم فى الطريق» الذى يعد المرجع الأول لكل جماعات العنف كتبه سيد قطب وهو فى السجن وقامت بتهريب صفحاته شقيقته حميدة التى كانت تزوره على فترات متقطعة، وكان قبل ذلك أحد كبار الموظفين بوزارة المعارف، منذ العهد الملكى، وبعد قيام ثورة يوليو، كانت كتاباته ومؤلفاته توزع على المدارس التابعة لوزارة المعارف، بأمر كمال الدين حسين، وزير التربية والتعليم فى ذلك الوقت، كما كانت أناشيده الوطنية تدرس للتلاميذ فى دروس المطالعة، وظلت مؤلفاته وأناشيده فى المدارس الحكومية حتى بعد القبض عليه سنة ١٩٥٤ ولم يبدأ التخلص منها إلا بعد مرور ١٠ سنوات.

وحسب سياق الكتاب «سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة» فإن قصة الصدام بين الإخوان والثورة، والتى بدأت بعد عام واحد من قيام الثورة تخرج بموضوع الكتاب إلى متاهات وأزقة، لا مجال لسردها، لكن الصدام بدأ بحرب المنشورات والشائعات ضد الثورة، ولم يتردد سيد قطب الذى تم ترشيحه عقب قيام الثورة لنيل حقيبة وزارة التربية والتعليم، فى مواصلة الثأر من الثورة التى حرمته من السلطة.

«فى السجن أمسك سيد قطب قلمه ودفاتره وخبرته الدينية، وراح يفسر ويقول رأيه فى المجتمع الذى اعتقله، أو الذى سمح باعتقاله، أو الذى لم يغضب ويتمرد لاعتقاله، فكان كتابه «معالم فى الطريق»، وأصبح مقتنعًا أن النظام الذى يحكم لا يمت للإسلام بصلة، ولأنه نظام غير إسلامى فلا بد أنه نظام جاهلى، ولأنه نظام جاهلى فلا بد من محاربته ومقاومته، وفرض الإسلام الصحيح، وأصبح يؤمن بالقطع أنه لا جدوى من النظرية السلمية التى تعتمد على الحجة والإقناع، أصبح الآن وبسبب محنته يؤمن بضرورة الجهاد بالسيف للتخلص من هذا المجتمع الكافر».

ورويدًا رويدًا اتسعت لعبة التكفير وبدأت أجيال جديدة تمارسها، وتقتل فى سبيلها أجيال شابة لم تكن فى ثقافة سيد قطب، ولا حتى قادرة على فهم ما تؤول إليه اللعبة.

فكر سيد قطب فى الانتقام من نظام عبد الناصر، برواية تحيط بها هالات مقدسة، تمنحها دعم السماء، وكانت الخلاصة «إن الحكم إلا لله، كانت شعاع النور الوحيد فى ظلمة السجن والحيرة.

وأصبحت «الحاكمية لله» القاعدة التى سارت عليها - كأنها حد السيف – جماعات العنف السلفية من التكفير والهجرة» إلى «الجهاد» وما بينهما وما بعدهما.

«آمن سيد قطب بأن الذين سجنوه نسوا الله، ولم يعودا يعبدونه، وأصبحوا يعبدون السلطة والنظام والبشر، وهذا فى رأيه كفر وشرك وجاهلية».

ولم يكن «معالم فى الطريق» كتابًا جديدًا، ٤ فصول منه على الأقل جاءت من كتاب سيد قطب «فى ظلال القرآن»، أما الفصول الثمانية الأخرى فقد كتبها – على حد قوله- فى فترات حسبما أوحت به اللفتات المتوالية من المنهج الربانى الممثل فى القرآن الكريم.

ويسجل الأستاذ عادل حمودة، أن الأفكار الأساسية فى الكتاب مقتبسة من كتابات مفكرين آخرين، على رأسهم المفكر الباكستانى أبو الأعلى المودودى، والتى تسربت إلى السجن، وقرأها سيد قطب، وانفعل بها وقت المحنة فتلقفها وكررها دون أن يربطها بظروف البيئة التى نشأت فيها، كان كمن يفصل الهيدروجين عن الأكسجين، ثم يتحدث عن السيول وشلالات المياه!

ففى حين كان أبو الأعلى المودودى يكافح لإقامة دولة إسلامية مستقلة عن المحيط والاستعمار فى الهند، والتى كانت باكستان فيما بعد، راح سيد قطب ينقل ويقتبس وينظر ويكتب برغبة عارمة فى الثأر، وتحت ضغط المرض والسجن، «دستورًا» لتيارات العنف الدينى، وفى السجن أيضًا أسس تنظيمًا مستقلًا عن الإخوان المسلمين، بضعة أفراد انتقاهم بعناية، وعمل معهم برفق ولين إلى أن تشربوا أفكاره تمامًا وضمن أنهم لن يخبروا تنظيم الإخوان بما يفعل، فقد كان سيد قطب في ذلك الوقت فاقدًا الثقة في الجميع وكان تنظيم الإخوان يبحث عن قيادة بعد اختفاء حسن الهضيبى، ومن هؤلاء الأفراد تمكن «قطب» من تأسيس تنظيم مسلح، كان شغله الشاغل البحث عن تمويل لشراء السلاح، وصناعة المتفجرات، وقلب نظام الحكم الجاهلى بالقوة، وإسقاط المجتمع الكافر.

وبدأت الأموال تتدفق عن طريق زينب الغزالى، التى التقت أحد أفراد التنظيم فى موسم الحج، وعلى مقربة من بئر زمزم تم الاتفاق على أول التمويلات.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد انقسم الإخوان وقتها إلى عدة تنظيمات، أخطرها التنظيم لذى أسسه سيد قطب فى مستشفى ليمان طرة، والذى ألقى القبض على أفراده، والكشف مخازن السلاح، والمخططات التى وضعت للاغتيالات والتفجيرات.

بدأ سيد قطب ملحدًا لا يثق بموهبة الدين على تغيير البشر، وانتهى متطرفًا بعد أن جزم بتكفير المجتمع وجاهليته.

بدأ متفتحًا على الدنيا، متحمسًا للمعارك الفكرية، وانتهى معلقًا فى إحدى مشانق «الستينيات» حاملًا – منذ ذلك الوقت وحتى الآن- لقب شهيد!

يعتبر الأستاذ عادل حمودة وكأنه يتبأ بما سيجرى، أن كتابه «سيد قطب.. من القرية إلى المشنقة» فصل أول من قصة مثيرة لم يكتب فصلها الثانى بعد، حيث يبدأ الفصل الثانى بعد رحيل سيد قطب، ويروى تأثير أفكاره على الذين حفظوها وآمنوا بها وحولوها من مطبوعات إلى متفجرات».. «ولا مفر من الانتظار فترة من الزمن حتى تتاح مادة كتاب جديد تناسب هذا الفصل ويمكن أن يختتم بها هذا الكتاب».

قضى سيد قطب ٤٣ عاما من حياته كاتبًا وناقدًا أدبيًا وخلال سنوات قليلة كان مفكرًا انتهى زعيما لتنظيم إجرامى مهمته القضاء على المجتمع الكافر.. فهل يا ترى كان سيبدأ لو قدر له أو يعرف ما سينتهى إليه؟.. يقول مشوار حياته وتحولاته المفاجئة، أنه كان سيتراجع عن أفكاره باحثا عن نظرية أخرى تروى إحساسه بذاته وتقلباته الحادة.