أحمد عبد الوهاب يكتب: "التعليم: القوة الناعمة لغرس الهوية العربية - احتفالات اليوم الوطني في مدارس الامارات نموذجًا "

الفجر الفني

بوابة الفجر

 

في عالمنا اليوم المنفتح على ثقافات متعددة مختلفة الطباع منها ما يتوافق مع قيم مجتمعنا وديننا ومنها ما يختلف أصبح من الضروري غرس وتعميق الهوية الوطنية لأبنائنا، ليعرفوا ويدركوا تاريخ أمتهم وتراثها الأصيل، فيكون لديهم أساس قوي يميز بين الغَثِّ والسمين، بين النافع والضار لا سيما مع تداخل وتشابك الثقافات التي فرضتها العولمة والانفتاح على العالم بأجمعه. وأول وأهم المحاور المنوطة بالدعم هو تعزيز وغرس الهوية الوطنية والعربية والإسلامية وتثقيف فكر طلابنا من خلال العملية التعليمية بداية من رياض الأطفال وحتى الجامعات. 

وبحكم خبرتي في العملية التعليمية أدرك أهمية وتأثير التعليم على تشكيل الفكر البشري بالإيجاب أو السلب. لذا اسمحوا لي أن أقدم نموذجًا إيجابيًا يحتذى به في مدارس دولة الإمارات جميعًا العربية منها والأجنبية؛ إنه الاحتفالات القومية الوطنية والإسلامية كذلك وأخص هنا بالذكر "احتفالات اليوم الوطني لاتحاد الإمارات" أو كما يسمى كذلك "يوم الاتحاد". 

يوم الاتحاد، الموافق الثاني من ديسمبر من كل عام، هو اليوم الأشهر في الاحتفالات داخل
دولة الإمارات بإماراتها السبع. وهو ذكرى اتحاد الإمارات لتصبح رسميًا دولة واحدة بعد أن كانت إمارات متفرقة. وهنا أقتبس مقولة سمو الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي حيث يشير إلى أثر اتحاد الإمارات بقوله: "إننا لسنا إمارات، ولكن نحن دولة الإمارات"، ولا يخفى على أي لغوي بل ربما أي إنسان كذلك الفارق في المعنى من تحول الكلمة النكرة "إمارات" إلى المعرفة "دولة الإمارات". 

 النشيد الوطني:

يردد كل الطلاب في المدارس كل يوم النشيد الوطني الإماراتي، وتبدأ به كل احتفالاتهم، يتدبرون في معانيه والتي يُقر فيها صراحة بأن دين الدولة الإسلام وهديها القرآن، ويحث الشعب على العمل والبناء ثم احترام العَلم ليرسخ في ذاكرة وفكر الجميع أن عَلم الدولة مصدر فخر لعروبتها ورمز احترام لها، ولذلك تتزين المدارس بألوان العلم الإماراتي (الأحمر والأخضر والأسود والأبيض). يلون بعض الأطفال وجوهم بألوانه، ويتعرفون على قصته، ودلالة كل لون بطرق تربوية. ليس هذا فحسب بل يتم الاحتفال سنويًا بيوم خاص يسمى يوم العَلم.

مظاهر الاحتفال باليوم الوطني (يوم الاتحاد)

أعود إلى اليوم الوطني الذي يرتبط بالبهجة والسرور فيتقاسم الطلاب والمعلمون والأهل أحيانا كذلك الفرحة فيرتدون الملابس الوطنية الإماراتية المبهجة أو حتى ملابسهم التقليدية ولكن بألوان العلم الإماراتي. 

يتعرف الطلاب على قصة الاتحاد تاريخيًا بطرق مختلفة تتناسب مع مراحلهم العمرية فتتنوع على سبيل المثال لا الحصر بين قصة مقروءة أو عروض تقديمية أو مشاريع ثقافية أو مسابقات للرسم والتصوير والأزياء العربية أو أعمال مسرحية تحكي تصريحًا أو تلميحًا قصة الاتحاد ودور الشيخ زايد-رحمه الله- مؤسس الدولة وصاحب فكرة الاتحاد. وقد تشرفت بكتابة قصة للأطفال تحكي قصة الاتحاد باللغة العربية والألمانية ثم تدريب طلابي على أدائها على المسرح بطريقة تناسب مرحلتهم العمرية لفهم معاني الاتحاد والهدف منه وحاجة مجتمعاتنا إليه، وتغرس المعنى الذي تربينا عليه بأن "الاتحاد قوة"، ليظهر روح التعاون والإخاء والمحبة في حياتهم، ثم ربط ذلك تاريخيًا بفكر الشيخ زايد، طيب الله ثراه، من إقامة الاتحاد.

الحياة بين الماضي والحاضر

هذا اليوم فرصة عظيمة ليتعرف الطلاب كلهم -العربي والأجنبي- على مظاهر مختلفة من التراث العربي مثل الحناء العربي، وأشهر الأكلات العربية، والملابس العربية، والرقصات العربية الشهيرة وكذلك أشهر الحيوانات والطيور العربية كالجمل والصقر. ولا يخلو الأمر كذلك من القاء نظرة على أهم العلماء العرب قديمًا وحديثًا، وإن كان هذا موضوعا يحتاج إلى مقال خاص للاستفاضة في شرحه.

يبحر الطلاب في ماضي الامارات فيتعرفوا المهن التراثية مثل الغوص لصيد اللؤلؤ وخض الحليب، وأدوات البيت والمطبخ التراثية قديمًا في الامارات وكل هذا من خلال جو تفاعلي جميل يرسل رسائل مباشرة وغير مباشرة في إطار تعليمي ترفيهي. 

اليوم الوطني الإماراتي يرسل رسالة تفيد أنه برغم واقعنا الحديث المتطور اليوم، لكننا لا نغفل ماضينا، فهو جذورنا والأساس الذي نرتكز عليه انطلاقًا من مبادئنا وقيمنا الحميدة التي نستمدها من ديننا ودستورنا ورغبتنا في غرس الانتماء والهوية الوطنية والعربية والإسلامية لدى أبنائنا وتعريف الجميع بمفردات التراث وتاريخه وبيئته الأم. 

 سيرو في الأرض ولكن

لست أبدًا من أنصار الانغلاق على ثقافتنا وتراثنا فقط،  فنحن مأمورون بالسير ومطالعة أحوال الأمم للتدبر والتعلم،  ولكني من أنصار دعم البناء القوي لتراثنا وتاريخنا ونشر ثقافته ولغته كذلك في هذا العالم المنفتح على ثقافات كثيرة منها المختلف المفيد ومنها الضار المخالف تمامًا لقيمنا وأخلاقنا وتعاليم ديننا، وهنا نحتاج لقوتنا الناعمة من خلال التعليم لغرس القيم التراثية النافعة والفكر النافع من خلال المدارس، المصدر الأكثر تأثيرًا  لتنوير وتثقيف العقول ودعم التراث وكذلك مطالعة الثقافات الأخرى النافعة والمعتدلة. 

الاحتفالات الوطنية والإسلامية ليست مجرد وسيلة للمرح فحسب، بل هو تاريخ وتراث يجب الحفاظ عليه؛ فأي أمة لا تهتم بتاريخها وماضيها ورموزها، فإنها بالتأكيد ستتخبط في مواجهة التحديات والمعوقات الحضارية الحديثة، التي تتطلب إمكانيات فكرية وعلمية مع الاعتزاز بتراثنا الديني والثقافي والوطني واللغوي جنبا بجنب مع التطلعات المستقبلية للأوطان، فكما يقال "أمة لا تعرف تاريخها، لا تحسن صياغة مستقبلها". 

الحلم الأكبر، الوطن الأكبر

ختاما برغم أني أتحدث هنا عن نموذجٍ متميز من الاحتفالات الإمارتية ودوره الفعّال في غرس الهوية الوطنية، إلا أنني أقصد وأرجو التعميم بالوطنية العربية بمفهومها الكبير، مفهوم الوطن العربي الأكبر، برقعته الواسعة وتراثه الكبير المشترك. الاحتفالات المدرسية للمناسبات الوطنية العربية التراثية تستحق التعميم في كل أنحاء وطننا العربي بمنهجية مدروسة، فقوة الأوطان لا تقاس عسكريًا فقط، ولكن كذلك فكريًا، وثـقافيًا ولغويًا، وهنا يأتي دور المدرسة بوصفها أولى القوة الناعمة لتعزيز الهوية العربية الوطنية.