د. رشا سمير تكتب: إستغاثة من صاحب "القنديل" إلى أصحاب القرار

مقالات الرأي

بوابة الفجر

 

لا ترتقي الأوطان إلا بإحترام المقدسات والرموز ولا تنهض الأمم إلا بمفكريها ومثقفيها ونخبتها..والنخبة ليست هي من تعتلي الشاشات ولا من يتم تكريمها في المؤتمرات، بل النخبة هي كل من ساهم في نهضة المجتمع، ولعل الأدباء والمفكريين والعلماء هم تلك النخبة الحقيقية بل والثروة التي أكسبت المجتمع المصري والعربي ثراءً فكري وثقافي.

شهر ديسمبر وبالتحديد التاسع منه هو ذكرى وفاة الكاتب المبدع يحيى حقي..صاحب أهم القصص والروايات التي حملت رسالة أدبية معجونة بعشق بالغ لأهل البيت، وعلى رأس تلك العناوين الرواية الأشهر له (قنديل أم هاشم).

ولد يحيى حقي في أحد بيوت "حارة الميضة"، خلف مقام السيدة زينب بقلب القاهرة، وبرغم مغادرة أسرة حقي هذا الحي العتيق في بواكير طفولته، فإن تأثيره على تكوينه النفسي والفني والأدبي لقلمه هو تأثير بالغ الأهمية.

حقي مثله مثل محفوظ والحكيم وغيرهم من الأقلام المصرية الهامة ولدت وترعرعت في أزقة مصر وحاراتها الشعبية وبالتالي كان لهم علاقة وطيدة بتلك الأماكن، علاقة نسب ومكان وأمان..من هنا نشأت علاقة يحيى حقي بآل البيت وتعلقه بهم، لذا أوصى بدفنه بجوارهم في مدافن العائلة.

حكاية تتكرر:

منذ أسابيع فوجئ غفير مقبرة الأديب الكبير بعلامة X مرسومة على المقبرة وإنذارا شفهيا بإزالة المقبرة لتوسيع الشارع ضمن خطة الدولة للتطوير، ووفقا لما قالته نجلة الكاتب الوحيدة نهى حقي في العديد من البرامج الفضائية الهامة، وهي بالمناسبة سيدة فاضلة وكاتبة راقية وصديقة عزيزة على قلبي، قالت إبنة الأديب:

" تلقيت إنذارا شفهيا من خلال «التُربى». يشير إلى احتمالية هدم المقبرة لكنني لم أعر الأمر اهتماما كبيرا نظرا لعدم وجود ما يثبت هذه الأقاويل، وتجدد الجدل مرة أخرى بوضع علامة حمراء على مقبرة العائلة ومن بينها مقبرة «يحيى حقى» ذاته، هذه المرة تم إبلاغ التُربي وأفراد العائلة بضرورة سرعة نقل رفات الموتى خلال أيام تمهيدا لهدمها لأنها تقع ضمن أماكن تخضع لخطة تطوير بالقاهرة، أنا أسابق الزمن من أجل أن أمنع هذه الكارثة، لا يوجد ورق رسمي حتى هذه اللحظة سوى العلامة التي علي المقبره، قالوا أنهم سيعطونا مقبره في العاشر من رمضان، ولكنني أرفض هذا الحل لأن أبي أوصي بدفنه في مقابر العائله بجوار السيدة نفيسه لإنه وبشدة من عشاق أهل البيت  وكتب عنهم كثيرا، من الصعب أن نقبل هذا الحل لأننا وكأننا نخلف وصيته، إقترحت في برامج عديدة أن يقوم الحي بزرع أشجار عالية أمام المقبرة حتى يختفي عن عيون الناظرين، وإذا كان من الضروره ولا مفر من الإزالة، فلماذا إحتراما لوصيته لا يتم نقل المقبره بجوار المقام في حيز مقبرة السيدة نفيسة، ولإنه كما يعلم الجميع هناك على يمين المقام الطاهر البقيع الصغير الذي بيعج بأهل البيت، أشعر بإهانة وحزينة لتجاهل الدولة الإستغاثة، ونحن نسابق الزمان ولا يأتينا أي رد من أي جهة مسئولة!".

رسالة من المثقفين:

إنها ليست فقط دعوى من إبنة الكاتب الكبير بل هي إستغاثة واجبة على كل مثقف وكاتب وصاحب رأي، إنها مطالبة عادلة بأن نحمي تراثنا ومقدساتنا، نفس الشئ وبكل أسف تم عمله مع أسرة الكاتب إحسان عبد القدوس الذي تمت إزالة جزء من مقبرته، وكانت لحظة موجعة لإبنه كما وصفها بجمع رفات والده ووالدته إلى حجرة مجاورة..

ومنذ شهور قامت إبنة الكاتب طه حسين حين علمت بنية الدولة بإزالة مقبرته، بالتلويح والتهديد أنها سوف تنقل رفات والدها إلى فرنسا إلى حيث ترقد والدتها، قامت الدنيا ولم تقعد فتراجع أصحاب القرار.

 واليوم تسعى نهى حقي في نفس الإتجاه وهو إتجاه إستعطاف الرأي العام ونحن على أعتاب ذكراه الثلاثين كما كنا نحتفي به في معرض كتاب القاهرة الماضي وهو شخصية العام.

أتسائل بعد كل ما كُتب وقيل من مناشدات ومحاولات شخصية، لسنا ضد التطوير بل بالعكس وجه القاهرة الحضاري أصبح أكثر جمالا ورقيا، لماذا نبني بيد ونهدم بالأخرى؟ لماذا نقتلع الأشجار والبشر؟ لماذا لا نُبقي على تراثنا مثلما فعلت لبنان بكل ما تعانيه في مقبرة جبران، ومثلما هو الحال ببيت شكسبير الذي أصبح مزارا هاما، لماذا لا نقوم بعمل متحف متحرك مثلما فعلت هولندا للفنان العظيم فنسنت فان جوخ حين جمعت قصة حياته ولوحاته في معرض ساحر يجوب البلدان الأوروبية.

تقديس مقابر المشاهير وزراعة الأشجار حولها وجعلها مزارا سياحيا هو هدف من أهداف الدول التي تبحث عن دخل قومي ومردود للسياحة، وأعتقد أن الدولة المصرية حققت جزء كبير من هذه الصورة، فلماذا لا نستمع لصوت العقل ونبحث عن المزيد؟

ما يحيرني حقا ويجعلني أتعجب..أين دور وزارة الثقافة ووزيرتها الجديدة، لماذا لم تصدر بيان أو تحرك ساكنا؟! أين دور المؤسسات المعنية، إتحاد الكتاب وغيرهم؟!.

حتى كتابة هذه السطور لازالت أسرة حقي تنتظر رد، وقرار بإلغاء القرار أو على الأقل حل يرضي جميع الأطراف..

وحتى كتابة هذه السطور لازال يحيى حقي يشعر بالدفئ بين أحضان آل البيت..كل ذكرى وأنت مبدع مصر القدير يا حقي يا صاحب الحق.

                                  [email protected]