حامد بدر يكتب: هكذا علمني جدي كيف أرسم الشيطان؟

مقالات الرأي

بوابة الفجر

 

كان جدي لأمي عاشقًا للرسم، كان بارعًا في تجسيد الصور بأقلام الفحم والرصاص، كانت تلك السليقة التي وُلِدً بها، وربما كانت ميراثه الأوحد والأعظم لديه في الحياة، والتي أنبتت عليها بقايا جنبات طريقه التي اختارها.
كان يعبّر عمَّا في قلبه، عن ماضيه، وعمَّا يعيشه يرسم بورتريه أوصورة كاريكاتورية، حتى ولو كانت لجليس جمعتهما الصدفة داخل القطار.
كثيرًا ما اكان يرسم.. وكثيرًا ما كنتُ أشاهد.

قبل العام 2000

وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة من شهر ديسمبر قبيل العام 2000، قال لي جدي وعيناه ذاتا بريقان يلمعان:
ما رأيك أن أرسم لك صورة جديدة – يقصد يعلمني إيّاها كما كان يفعل لنقضي الوقت دون رتابة - وتحاول إعادتها بيديك؟
كنت متشوقًا، وخلتُ أنها صورة  ليمامة أو لطائر الببغاء فقد كان يعشقهما كثيرًا وكم غذّاهما برتوش من الألوان البهيجة، ولكنه أتى بورقة بيضاء داخل "سكيتش رسم – حجم كبير"، وأمسك بقلم ذي خط داكن، وأخذ يخط خطوطًا عريضة لقسمات وجه بدت في الوهلة الأولى ضخمة، ثم لم تلبث أن تغيرت تلك القسمات إلى نظرات حادة، تكسوها لحية ما هي بلحية وما هي بوجه بشر، لتنذر بشكل أكثر شراسة، يعلوها قرنان عظيمان، لم أكن أحتاج وقتًا طويلًا كي أفهم أن هذا هو الشيطان.

نظرتُ نحوه وبسجية: هل هذا هو؟


كانت نظراته أبعد عن الخوف ولكنها ليست أقرب إلى الاطمئنان.

عند العودة

عند العودة للبيت ترسخت بذهني تلك الصورة، وانطبعت، وأصبحت جزءًا من حياتي اليومية، ثم تطور الوضع بان أصبحت رمزًا لكل ما أكره من سلوك ظالم أو مشاهد عنيفة أجدها في طريقي.
تطور الرمز كل يوم، ولم يقف عند حال كونه صورة تعاودني بين الفينة والأخرى، بل أصبح استدعاءًا لكل سلبيّ أصادفه أو قهر ألقاه بين أقراني أو من أحد مُعلميّ أو ادعاء لمثالية كاذبة عند بعض الأوصياء علينا.

الشيطان يمثلني  

كان هذا الشيطان – أقصد صورة الشيطان – ترافقني كلما أخطأت، كلما خلوت بفكري نحو شيء خارج عن الإرادة، كلما صادفتني أفكار الطفولة والمراهقة، كلما راودتني أسألتي عن الوجود وعن الحياة وعن الخلق وعن الخالق؛ لأكتشف أنني كنت هذا الشيطان كثيرًا، ولكن شيطان غير متمرس بعد.
حين كبرت، وخرجت للحياة قابلت الكثير من الشياطين في طريقي، كانت هذه الصورة تلاحقني، في كل مشهد ألقاه، عند أول مبلغ طُلبَ مني أن أدفعه بطريق غير مشروع تحت اسم "إكرامية"، عند أول كذبة اضطررت لها لأخالف طريقي نحو الجامعة، حتى حين أقرأ الصحيفة، أو أضطلع على أخبار عالمنا العربي، لأرى أن شياطينًا ربما حاولت أن تحف أنفسها بهالات القداسة، وأنه بحكم الدبلوماسية والتعاطي مع الأمور أصبح لا مانع من التعامل مع الشياطين الأكثر احترافية في ميدان الحياة. 
أصبحتُ ألقى هذه الشياطين، منذ سقطت بغداد، وانطوت القضية الفلسطينية، وازدادت توترات أحوال بلادنا العربية، واقتتل الإخوة، ورأينا شامنا تنهار، ويمننا يبكي، ويسخر الجبناء من الأحرار الأبطال، وتختلط مفاهيم الدين والسياسة والثمن دماء أغلى من الذهب.. حينها تيقنتُ بأن التعاطي مع الشياطين أمرٌ إلزامي.

خَلَوْتُ بنفسي.. فارتعدت

خلوت بنفسي وأمسكت بورقة وحاولت رسم الشيطان، فلما اكتملت ارتعدت لأنني وجدتني أرسم ذاتي، نعم ذاتي التي كثيرا ما نسيت روح القضية وكادت تكفر بها، لولا رحمة ربي وبُغضي للصورة المذكورة. 
انتهى الدرس، وربما تمزًّقت الصورة، ورحلت الأيام الجميلة، ورحلَ جدي.. ولم يرحل الشيطان.