هكذا ألغيت الدعارة من مصر

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر

نائب برلمانى يهدى «رئيس الحكومة» لفتيات الليل فقطعن ملابسه  

الشيخ الشعراوى يروى كيف ألغى «سيد جلال» قانون البغاء

«تقديم خدمات جنسية للحصول على منفعة»، هكذا تعرف الدعارة فى مختلف الدوائر والمعارف الدولية، التى لا تتطرق كثيرًا لحقيقتها بأنها مهنة «منحطة» لا يحتاج وصفها لدليل.. تقف هنا ما بين لعبة الغواية والرغبة.

يوم ٢٠ فبراير عام ١٩٤٩ أصدر الحاكم العسكرى العام فى مصر أمرًا بإغلاق جميع بيوت الدعارة فى مصر، بالأمر العسكرى رقم ٧٦، بعد أن استطاع جلال فهيم وزير الشئون الاجتماعية – آنذاك - إلغاء البغاء بقرار رسمى، ونص القرار على المعاقبة بالحبس ٦ أشهر كل من عاون أنثى على ممارسة البغاء، وفى عام ١٩٥١ صدر الأمر الملكى بالقانون ٦٨ لسنة ١٩٥١ بإلغاء الدعارة نهائيًا ومكافحتها فى مصر، وفرض عقوبات على ممارسيها وأصحاب بيوتها.

من الإباحة إلى المنع والتجريم، مرت الدعارة فى مصر بالعديد من الأحداث، حولتها من مصدر لجذب الأموال يحصل كل من يمتهنها على رخصة قانونية لممارستها، إلى فعل يعاقب عليه القانون بالحبس، قبل ٧٤ عامًا كانت الدعارة مقننة، ويرجع تاريخها إلى القرن السابع حيث شهد أول تسجيل للبغايا فى مقر الشرطة، وكانت مهمة الشرطة فى هذا الوقت حصر جميع النساء اللاتى لا ينمن فى منازلهن، ومن ثم يتم جمع الضريبة منهن.

طورت الحملة الفرنسية مع دخولها مصر (١٧٩٨ - ١٨٠١)، البغاء وجعلوها مكانا للسهر وشرب الخمر والرقص وبيع الهوى، وانقسمت العاهرات – آنذاك - إلى قسمين «عايقة» و«مقطورة» والأولى هى القوادة والثانية هى التى تمارس النشاط.

أبقى محمد على الدعارة لبعض الوقت ثم ألغاها عام ١٨٣٧، ثم بدأت الدعارة فى الخضوع للتسجيل والتنظيم منذ تطبيق اللائحة التى سميت بتعليمات بيوت الدعارة والتى استمر العمل بها حتى ألغيت عام ١٩٤٩، وفى عام ١٨٨٥ صدرت لائحة التفتيش على العاهرات والتزمت العاملات بالجنس بالتسجيل وإلا عوقبن، وأمام اسم كل من بنات الهوى كان يكتب سنها وسكنها ورقم رخصتها وتاريخ الكشف الطبى عليها.

بطل المعركة

لم يكن جلال فهيم وزير الشئون الاجتماعية هو البطل الرئيسى فى معركة إلغاء الدعارة بمصر، فالفضل يرجع فى الأساس إلى الراحل سيد جلال والذى ظل نائبًا عن منطقة باب الشعرية لنصف قرن، خاض «جلال» معركة طويلة من أجل إلغاء البغاء فى مصر استمرت سنوات، كان الرجل مستاءً من السماح ببيوت الدعارة فى مصر بلد الأزهر الشريف، وكان شارع كلوت بك الشهير ببيوت الدعارة تابعًا لدائرته، فكانت العاهرات بشارع «كلوت بك» يقفن على الناصية ويتبادلن الشتائم بينهن، إضافةً إلى تسابقهن على الزبائن وإغرائهن لدخول بيوتهن، لذلك قرر أن يتصدى لهذه القضية.

قدم سيد جلال اقتراحًا فى البرلمان لإلغاء البغاء رسميًا، إلا أن الاقتراح رُفض، فى هذا الوقت كان الوزير الوفدى جلال باشا فهيم وزير الشئون الاجتماعية فى ذلك الوقت (عام ١٩٤٩) هو المنوط له بالتوقيع على قرار إلغاء البغاء.

كان الشيخ محمد متولى الشعراوى هو أعز أصدقاء سيد جلال، وكان دائمًا يناديه: عمى سيد جلال، وكانا يلتقيان بشكل شبه يومى فى شقة الشيخ «الشعراوى» بجوار مسجد الحسين، أُطلق على سيد جلال لقب شيخ البرلمانيين لأنه ظل عضوًا فى البرلمان لمدة امتدت لنحو نصف قرن لأن أهالى دائرته الانتخابية بباب الشعرية يحبونه لدرجة العشق، وكان مستقلا لا ينتمى لأى حزب من الأحزاب.

يروى الشيخ الشعراوى عن صديقه سيد جلال كيف دبر المقلب لوزير الشئون الاجتماعية فى شارع البغاء، والذى انتهى بصدور القرار الشهير «قرار إلغاء بيوت الدعارة»، بدأ المقلب بزيارة سيد جلال للوزير جلال فهيم، وقال له: إنه يعتزم إقامة مشروع خيرى كبير، وأن هذا المشروع يضم مدرسة سوف يشرع فى بنائها فورا، وأن موقع المدرسة قد جرى تجهيزه وإعداده للبناء، وأنه يسعده أن يأتى «معالى الوزير» لرؤية الموقع الذى هو ضمن المشروع الخيرى الكبير، وأن أهالى الدائرة سوف يسعدهم تشريف معالى الوزير، ويشجعهم على المساهمة فى إقامة مثل هذه المشروعات الخيرية.

وافق الوزير، وفى اليوم المحدد جاء الوزير وهو يركب الحنطور الذى أعده له سيد جلال لكى يشاهده أهالى الدائرة ويخرجون لتحيته، وكان الاتفاق مع سائق الحنطور أن يدخل بالوزير لشارع البغاء الرسمى «شارع كلوت بك» وأن يسير به على مهل، وفى شارع البغاء بمجرد دخول الحنطور تصورت العاهرات أنه «زبون» كبير، فتدافعن عليه وتسابقن إليه، وأخذت كل واحدة تشده لتفوز به، دون أن تعرف شخصيته، وحينها تحول السباق على الوزير لخناقة كبيرة بين العاهرات، ولم يعرف الوزير كيف يخلص نفسه من هذه الورطة.

وفى تلك الأثناء، أدرك الوزير أن سيد جلال هو الذى دبر له هذا المقلب خاصة أن أحدًا لم يتقدم لإنقاذه وتخليصه من أيدى العاهرات، وجاهد الوزير وهو يصرخ ويسب، حتى استطاع أن يخلص نفسه بصعوبة بعد أن سقط طربوشه، وتمزقت ملابسه، وامتدت الأيدى إلى جيوبه.

وعاد الوزير لبيته وهو فى حالة سيئة، واستمر يسب ويلعن سيد جلال، لكنه قبل أن تمضى أيام كان قد أصدر القرار بإلغاء البغاء، وفوجئ بسيد جلال يدخل عليه وهو يضحك ويشكره على شجاعته بإصدار القرار الذى مسح عار البغاء العلنى والرسمى عن مصر، وقال له: لقد فعلت شيئا عظيما، وسوف يذكره الناس لك، وهدأ الوزير، وقال لسيد جلال: «سيقول الناس أيضا: إنك أنت الذى دبرت المقلب الذى جعل الوزير يصدر هذا القرار».

ويتواصل حديث الشيخ «الشعراوى» عن سيد جلال، وعن محاولة أحد النواب لإعادة البغاء مرة ثانية، وكيف تصدى له سيد جلال فى جلسة عاصفة بالبرلمان، جيث يقول الشيخ: «وحدث أن جاء أحد النواب من الإسكندرية، وتقدم باقتراح للمجلس لإعادة البغاء الرسمى، النائب صاحب الاقتراح قال: إن إعادة البغاء ستجعله محصورًا فى دائرة محددة، وأن البغايا سيتم الكشف عليهن صحيًا على فترات متقاربة، وهو ما يحمى من الأمراض السرية وانتشارها، وأن الشباب سيجد فى بيوت البغاء الرسمى ما يبعده عن التعرض للنساء بالشوارع، وصادف هذا الاقتراح هوى بعض النواب».

ووقف سيد جلال وقال: «إن الذين يعتقدون أن إلغاء البغاء يؤدى لانتشار الأمراض السرية أكثر، هم على خطأ، وعندى الإحصائيات التى أعلنتها المؤتمرات الطبية العالمية والتى تثبت أن الأمراض السرية تنتشر أكثر فى الدول التى تعرف نظام البغاء، وتقل فى التى حرمته».

وقال سيد جلال: «الذين يقولون إن الشباب بكل غرائزه الجنسية لا يعرف أين يذهب وماذا يفعل؟ هؤلاء يتصورون أن الشباب عجل يجرى تسمينه وتكبيره من أجل الدعارة، وأن علينا أن نهيئ له بيتا للدعارة، ونساعده على الفساد، وينسى هؤلاء أن مشكلة الشباب أكبر وأعمق، فالشباب يعانى من الفراغ ومهمتنا أن نهيئ له مجالات العمل، ليعمل ويتزوج ويقيم أسرة، فالعمل سيعود عليه بالنفع، وعلى الدولة بالفائدة».

وتابع سيد جلال: «مصر نسيت مسألة البغاء، ولم تعد هذه المسألة فى أفكار أحد، وإذا كان النائب صاحب الاقتراح بإعادة البغاء مُصرًا على اقتراحه، فعليه أن يتبرع لنا بخمس سيدات من أسرته ليكن نواة لإحياء المشروع من جديد»، وضجت القاعة، ولم يرد صاحب الاقتراح، وخرج من المجلس، ولم يعد إليه.