د. رشا سمير تكتب: ولأنك أبي...

مقالات الرأي

بوابة الفجر



بت أنظر إلى ذاك الركن الخالي كلما خطوت إلى عتبة البيت..
لا.. لم أعد أنظر إليك، بل أصبحت أبحث عنك..

أبحث عنك في الأماكن التي جمعتنا..في الكلمات التي تبادلناها..في المواقف التي كنت فيها ظهري وسندي..
أنظر إلى وسادة كنت تستند عليها..أتلمس عصاك التي كنت تتكأ إليها رافضا بكل كبرياء أن تتكئ على أيادينا التي إمتدت إليك.
أشم رائحتك التي علقت بكل شيء، تبغك..عطرك..نظارتك..فنجان قهوتك..حتى الجريدة التي كانت سلواك ونافذتك على العالم تبكيك..وصوت التلفاز العالي وأنت تصرخ في لاعبي كرة القدم..
إنه أنت..نعم أنت..
فأنت لازلت تجلس في هذا الركن تنظر إلينا وتبتسم..
أبي، أخبروني أنك رحلت..وأبيت أن أصدقهم..فأنت لم ترحل..ولن ترحل أبدا..
أتعلم لماذا؟..لأنك أبي.
عادت إلي الذكرى وأنا أتصفح صورنا معا ورسائلك إلي..
ولأنك أبي..عادت بي المواقف وعادت بي الصور إلى ذاك اليوم..
ذاك اليوم الذي..كنت تصطحبني فيه وأنا طفلة إلى الكتيبة المدرعة التي كنت أنت يوما قائدها، يوم جعلتني أرتدي الزي العسكري فرحة وفخورة وكأنني أجلس على عرش الدنيا، أردد خلفك، تحيا مصر..وألتقط الصور معك فوق الدبابة وأنا أستمع إلى حكايات حرب أكتوبر وأنت ترويها لنا بفخر.
ذاك اليوم الذي..سافرنا فيه معا لأتسلم تكليفي كطبيبة في أحد المستشفيات البعيدة وكانت تلك أول مرة أتوسل فيها بعيناي إليك ألا تتركني..وقبضت على يدك وكأنني طفلة على وشك أن يخطفوها من حضنك الدافئ إلى واقع مجهول..يومها ربت على كتفي قائلا:
"لا تقلقي سأظل معك"..وظللت معي.
ذاك اليوم الذي..جمعتنا فيه حولك أنا وبناتي لتروي لنا في ذكرى حرب أكتوبر كيف كنت ضابط شاب تتلقى التدريبات العسكرية مع زملائك ويقينكم أنكم ستحاربون قريبا لتردوا للعدو صفعة النكسة، وقتها حدث شرخ بقدمك وقام الأطباء بوضعها في الجبس، وعدت إلى البيت حزينا لأنك لن تستكمل التدريبات مع زملائك، بعدها أخبروك أن كتيبتك العسكرية غادرت في طريقها إلى سيناء، جن جنونك خاصة حين رفض الأطباء إزالة الجبس، فقمت بتكسيره بنفسك في المنزل ولملمت أشيائك بعد أن ودعت أمي، وهرعت تجري لتلحق بكتيبتك وزملائك لتشارك في حرب رد الكرامة وتعود حاملا النصر لمصر.
ذاك اليوم الذي..نشر فيه أحد زملائك صورة لضابط فوق دبابته التي تحمل علم مصر عائدا من سيناء بعد اقتحام خط بارليف فنشرت الصورة على صفحتك وقلت لأحفادك بكل فخر: "هذا أنا"
سألتك إبنتي: "كيف عرفت أنه أنت وصاحب الصورة لا يظهر منه سوى ظهره"
قلت مبتسما فخورا:
" لو تاهت مني صورتي، لن تسقط أبدا من ذاكرتي صورة الدبابة التي كنت أقودها" 

ذاك اليوم الذي..طلبوك لتحل ضيفا على أحد الفضائيات للتحدث عن مشاركتك في حرب ٧٣، فأبيت بكل شموخ وقلت لي يومها:

" لم أشارك في الحرب لكي أنال نصيبا من الأضواء، حاربنا أنا وزملائي لأننا أمنا بالأرض الطيبة التي رُويت بدماء الشهداء، كل من تحدث عن الحرب كان ضيفا عليها ولم يكن جزء أصيل منها..لم ننتظر يوما مقابل مادي أو معنوي..دافعنا عن مصر لأنها تستحق"

لم تكن أحد الوجوه التي تطل علينا كل عام في ذكرى حرب أكتوبر لتتحدث وتروي عبر الشاشات، فلم تكن يا أبي ممن يدعون البطولة الزائفة لأنك ببساطة كنت بطلا من ذهب..

هكذا علمتنا إحترام الوطن وعشق ترابه.   
أبي الغالي..ستظل فخرا لنا وستظل قدوتنا، بطلا وأبا وصديقا..ستظل قصة تروى لأحفادك وأحفادهم من بعدهم..
ستظل أنت من علمتنا الصدق والشجاعة والأمانة وعشق الوطن..
سنظل مرفوعين الرأس فقط لأننا نحمل إسمك.
((  أماتَ أَبوك؟ ضَلالٌ أنا لا يموتُ أبي ففي البيت منه روائحُ ربٍّ.. وذكرى نَبي هُنَا رُكنُهُ ))
رحلت ولم ترحل..غبت وأبت شمسك أن تغيب..
أكاد أراك وأنت تطل علينا الآن من علياء وتبتسم،
أبي الغالي سيادة اللواء أركان حرب سمير حسني سلام عليك أينما كنت..ستظل بقلبي إلى أن نلتقي..


[email protected]