حينما تجنحُ لعقلك

حامد بدر يكتب: كمال الهلباوي.. البعض يرحل مرتين وأكثر

مقالات الرأي

حامد بدر
حامد بدر

رحل عند دنيانا، أمس الثلاثاء، الدكتور كمال الهلباوي، المتحدث السابق باسم جماعة الإخوان والذي انشق عنها، عن عمر ناهز 84 عامًا.

لم يكُن ذلك الرحيل الأوَّل، فلقد رحل "رجلٌ" استقال من قيادة مكتب إرشاد الإخوان المسلمين ومجلس شورته، وذلك بعد منتصف التسعينات؛ ليترك وضعًا قِياديًا، رُبَّما يسعى له أي عضو في تنظيم دوْلي لما يتيح له من كسب مكانة أدناها مجتمعية وأعلاها ما قد يوشك يوصله إلى ثَراء فاحش أو نفوذ، فالناظر في شأن الجماعات والتنظيمات، وحتَّى الاحزاب، يرى أنَّ أحلام الترقي قد تسعى إلى نفوس الأعضاء سعيًا، إلًّا أنَّ كمال الهلباوي سعى خلاف ذلك.

لا أسيرُ مع القطيع

لا أسيرُ مع القطيع، جملة تتردد كثيرًا على لسان الذين يتبنون آراءً تسعى نحو التحرر من القولبة أو التعليب للفكر، وبخاصَّة السياسي، لكنَّ البعض يكون على مبدأٍ حُرَّ يرى فيه كمال مفهومه للقضية وللمسألة من كل جوانبها، فقد كان "الهلباوي" يتبنَّى هذا الفكر، بل وترجمه يوم 31 مارس 2012، على خلفية ترشيح الإخوان لخيرت الشاطر لسباق رئاسة الجمهورية، والذي رأي فيه أنَّها خُطوة جانبهم فيها الصواب بل وخالفوا فيه المبدأ، فاستقال بعد أن جَال في براح من أمره طيلة أكثر من نصف قرن في أحضانهم.

وكان قد صرَّح بانحراف الجماعة عن المشروع الإسلامي الذي يحمله التنظيم والذي وضع أسسه حسن البنا، وكان يرى، حدجَّ تعبيره أنَّ لمستقبل لا يُقام أسسه على الماضي فقط، بل ينبني أيضًا على دراسة الحاضر، ومتطلبات الواقع، الذي تعيشه الجماعة، ليس الجماعة وحدها بل وكل المجتمع، فقد كان يرى في قراءة الواقع فروضًا تحقق أهدافًا مستقبلية لا تخلو من والوسائل عقلانية؛ ليترجم ذلك بجملة يقولها المطوِّرون وخبراء التنمية الحياتية أنَّه لا عيب أن تخُطئ بقدر أنَّ تظل مُصِّرًا على ذات الطريق الخطأ.

الدِّقة والموضوعية

وعبر مشور له على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، إبريل 2022، حاول كمال الهلباوي أن يعطي درسًا في السياسة وفي العمل العام لكل متطلِّع نحو واقع أفضل، فأكَّد أن لاستطلاع المستقبل، تحتاج إلى دقة وموضوعية ووضوح ومعرفة، وخبرة عملية ونظرية.

كان قد أضاف، حسب منشوره: "لقد انضممت إلى تنظيم الإخوان المسلمين منذ وقت مبكر في مدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، وذلك في أوائل الخمسينيات". وفي تسعينيات القرن الماضي – بعد رحلة طويلة - كنت عضوا في قيادة التنظيم العالمي ( مكتب الارشاد+ مجلس الشورى). استقلت من القيادة سنة 1997، وعملت على مشروعات فكرية دعوية منها: ماذا يقدم الإسلام للغرب، ومشروع الإرهاب. (وجهة النظر الأخرى). وبقيت عضوًا في التنظيم. ولمَّا قامت ثورة يناير العظيمة في مصر. حملت حقائبي وعدت إلى مصر من بريطانيا رغبة في مشاركة الشعب فرحته ومستقبله المشرق".

كلا لا أبرَح

على مبدأ لا أبرح حَتَّى أبلُغ، أراد الدكتور الهلباوي أن يظل على مبدأ هو حقيقي في واقعه هو على الأقل، أنَّ المسعى الدعوي والفكرة الإسلامية، لن تكون على ذات القالب، وأنَّ في الرحيل عن الأفكار فُرصة لبروز أفكار أفضل، وربما وجدَ الاكتفاء بالابتعاد عن الأجواء متَفرِّغًا في آخر الأيام.

لم يرحل كمال الهلباوي مرَّة واحدة، بل رحل مرتين، ذات مرَّة لمَّا أعلن انشقاقه عن جماعة الإخوان أخر مارس عام 2012، على خلفية ترشيح الإخوان لخيرت الشاطر لسباق رئاسة الجمهورية، وكذلك مرَّة من قبل لمَّا رحل عن مكتب الإرشاد عام 97. 

أما الرحيل الأخير فكان أمس، تاركًا خلفه رأيًا حُرًّا، أراد به أن يبلُغَ به مسامع الذين لازالوا يصرُّون أنَّ السياسية تُدار بالأفكار الجامدة؛ ليترجم أن المرونة والتعاطي مع مُجريات الأمور ذكاءٌ لا مُداهنة فيه.

البعضُ يرحل مرتين.. البعض يجد المتعة في الرحيل عن الأجواء غير الواضِحَة أو إن شئت قل "الفاسدة".