د.نصار عبدالله يكتب: هل لنا أن نحلم ولو قليلا؟

مقالات الرأي

دكتور نصار عبد الله
دكتور نصار عبد الله

نتيجة لعدد من الأسباب الداخلية المزمنة، ونتيجة كذلك لبعض العوامل الخارجية الطارئة، تعيش مصر الآن واحدة من أحلك الحقب التى عاشتها على مدى تاريخها الإقتصادي الحديث، إنها تعيش أزمة حقيقية تتمثل أهم أعراضها فى ارتفاع مستوى التضخم خلال الشهور العشرة الماضية إلى ما يزيد عن ثلاثين فى المائة ( مع ملاحظة أن بعض السلع الأساسية كاللحوم قد تضاعفت أسعارها بنسبة 100% خلال ثلاثة أشهر فقط!)، وهو ما جعل نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر تقفز فى هذا العام لكى تتجاوزالستين فى المائة من إجمالي عددالسكان! )،...وفى الوقت الذى انخفض فيه رصيد مصر من العملات الأجنبية أصبحت تجد نفسها مطالبة بسداد قسط عاجل من الديون المستحقة مقداره سبعة مليارات دولارات قبل حلول 1/7/2023، ولم يعد أمامها سوى أن تعرض المزيد من أصولها للبيع  حتى تتمكن من سداد هذا القسط وغيره من الأقساط، غير أنها لم تتلق  حتى الآن سوى عروض يبالغ أصحابها فى بخس قيمة تلك الأصول من موقع إدراكهم لمدى حرص مصر على سداد أقساط ديونها فى مواعيدها وإلا لتعذر عليها الحصول على أية قروض جديدة لتمويل خططها للإصلاح الإقتصادي، وهكذا وجدت مصر نفسها أمام بديلين كلاهما مر: فإما أن تقبل بتلك العروض البخسة مضحية بالقيمة الحقيقية للأصول، وإما ألا تقوم بسداد أقساط ديونها فى مواعيدها بكل ما يترتب على هذا من المزيد من الآثار السلبية، فإذا عدنا إلى الأسباب التى أدت إلى هذا الوضع الكارثى والتى سبق أن ذكرنا أنها مزيج من الأسباب الداخلية المزمنة والعوامل الخارجية الطارئة، وجدنا أن الأسباب الداخلية المزمنة تتمثل فى الإدارة البيروقراطية المترهلة وغياب الضمانات الحقيقية لحرية المنافسة بين المستثمرين وكذلك الفساد وغياب الشفافية فى بعض القطاعات فضلا عن التقاعس عن تحصيل الضرائب من كبار الممولين، وهى الضرائب التى يقدر البعض قيمتها بما يقرب من ثلاثمائة مليار جنيه لو تم تحصيلها أو حتى لو تم تحصيل جانب كبير منها لأغناها هذا عن فرض ضرائب جديدة يتحمل عبئها فى الغالب صغار الممولين ومتوسطوهم، ولكان هذا فى حدذاته عاملا من عوامل كبح جماح التضخم!!، أما العوامل الخارجية الطارئة فتتمثل أولا فى توابع وباء كورونا ثم كذلك فيما  قامت به الإدارة الأمريكية من رفع سعر الفائدة مما أدى إلى خروج نسبة كبيرة من الأموال الساخنة من سوق المال المصرى واتجاهها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأخيرا الحرب الروسية الأوكرانية التى كشفت بوضوح عن مدى الإعتماد المصرى على استيراد السلع الغذائية من روسيا وأوكرانيا، وهو ما أطاح واقعيا بكل ما كانت مصر قد حققته فعلا من نتائج إيجابية من خلال برنامج الإصلاح الإقتصادي  الذى اتبعته فى أعقاب اتفاقها مع صندوق النقد الدولى عام 2016 والذى كان قد بدأ يؤتى ثماره فعلا، حيث بلغ متوسط صافى النمو فى الناتج القومى المصرى فى السنوات التى سبقت الحرب الروسية الأوكرانية 4،4% سنويا ( وإن كان صندوق النقد الدولى يعزو جانبا من هذا النمو ( وإن كان صندوق النقد الدولى يعزو جانبا من هذا النمو إلى الإكتشافات الجديدة للغاز الطبيعى التى أدت إلى تحول مصر من دولة مستوردة له إلى دولة مصدرة )، كذلك فإنه من بين العوامل الخارجية تحول الدول الخليجية الشقيقة  ( نتيجة لعددمن العوامل  التى  فرضتها عليها أوضاعها الداخلية والإقليمية التى ليس هنا مجال الحديث عنها تفصيلا )  تحولها من سياسة تقديم العون الإقتصادى لمصر إلى سياسة تقديم المساعدة عن طريق ضخ الإستثمارات ذات العائد لها ولمصر.والسؤال الآن هو: هل تدعونا كل هذه العوامل أن نتشاءم، أم أن من حقنا أن نحلم ـ لا بالأحلام التى ينسجها الخيال والأمنيات ـ بل تلك الأمنيات التى تستند إلى حقائق صلبة من أرض الواقع، وعلى سبيل المثال فقد رأينا منذ قليل كيف تحولت مصر من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة..لماذا إذن لا نحلم بالمزيد خاصة وأن هناك الكثير من الشواهد التى تبشر بذلك؟، ولماذا لا نحلم بالمزيد من الأمطار خاصة أن الأرقام تقول بأن كمية الأمطار التى تتدفق عبر مخرات السيول  إلى الخزان الجوفى فى تزايد مطرد. حيث بلغت كميتها خلال الخمسين عاما الماضية ضعف مثيلتها خلال الخمسين عاما السابقة. نعم إن من حقنا أن نحلم بمثل هذه الأحلام التى تقول بها الشواهد، غير أن ما هو أكثر أهمية من الأحلام المشروعة هو أن نعمل جاهدين على التخلص من العوامل الداخلية المزمنة التى أدت بنا إلى ما نحن فيه.
                                      [email protected]