د. نصار عبدالله يكتب: حياة ماكيافيللى

مقالات الرأي


"حياة نيكولو ماكيافيللى الفلورنسى"، كتاب جدير فى رأيى بالقراءة بالنسبة للذين ما زالوا يجدون فى  الكتاب الورقى المطبوع متعة لا يجدونها فى أى شكل آخر. ومن بينهم كاتب هذه السطور الذى أتيح له فى الأسبوع الماضى فقط أن يقرأ هذاالكتاب رغم صدوره فى القاهرة منذ أكثر من عامين!!،..ففى هذا العام فقط قدر لى بعد انقطاع أن أزور معرض القاهرة الدولى للكتاب وأن  أتجول بين  أجنحة الناشرين المتنوعة،  ومن بينها  "بيت الياسمين للطباعة والنشر"، وهى الدار التى قدمت للقارىء العربى الكثير من الأعمال التى أعدها شخصيا من الروائع! سواء فى ذلك  الأعمال المؤلفة أو المترجمة، وإلى النوع الأخير ينتمى هذا الكتاب الذى اشتريته منها والذى ترجمه إلى العربية الأستاذ: "طه فوزى"، وراجعه الأستاذ: "حسن محمود"،  ..حيث استمتعت بقراءة  هذا الكتاب متعة كبرى، ليس فقط لأنه ينتمى إلى السير الذاتية التى تستهوينى بوجه خاص، ولكن  أيضا لأن المؤلف: "جوزيبى بريتزولينى " يمتلك أسلوبا فى الكتابة مفعما بالسخرية العميقة  اللاذعة التى جعلت من كتابه هذا عملا ينتمى إلى  الأدب الساخر رفيع المستوى فضلا عن كونه كتابا توثيقيا للحياة السياسية للإمارات والجمهوريات الإيطالية فى النصف الثانى من القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر، (والتى تشبه ـ فى بعض جوانبها ـ  الدول العربية فى القرنين: العشرين والواحد والعشرين!!)....كانت إيطاليا فى ذلك الوقت ـ  فيما يصفها به المؤلف ـ أشبه ما تكون بمستنقع كبير مكشوف تتكون على سطحه بقع من مادة لزجة سرعان ما يصيبها التلف، وفى كل بقعة من هذه البقع دولة من الدول، ولكل دولة نواة، ولكل نواة زعيم، يعمل لحسابه، أما روما فلم تكن إلا واحدة من تلك الدول..لكنها كانت رأس العالم ومبولته وجرحه الرئيس!..كانت بلدة قد امتلأت بحروب نشبت بين أحيائها المختلفة، وأطلالا  هائلة، ومستنقعات انتشرت فيها الملاريا والأمراض الوبائية، وامتلأت بقاذورات عامة اقتربت فيها الأبهة والثراء من البؤس والتعاسة، واحتدم فيها السحر والشعوذة، وغص فيها الفاتيكان بالسحرةوالمنجمين، وحكم فيه بحرمان لوثر وطرده من الكنيسة، وبيعت فيه الجنة بالقيراط !!وأصبح مؤتمرا دائما للعاهرات، والشرهين، والقوادين، والقديسين، والأطهار، والأبرياء... كان للبابا ولدان وخليلات، وكان للكرادلة أبناء وأحفاد، كما كان هناك سعر للجميع، فرجال الدين والبابوات يباعون ويشترون كالشمام والحلوى فى الميادين، ويوهبون فى مقابل مناصب سياسية  أو فى سبيل مرضاة السيدات..كان بعض البابوات يحبون المائدة أكثر من حبهم للسيف، وكان هناك بابوات آخرون يحبون السيف أكثر من حبهم للنساء، وآخرون يحبون الذهب أكثر من الطريق، غير أنهم جميعا لم يكن فيهم من يحب المسيح أويذكره !!..ولذلك فإنه عندما حضر إلى روما رجل يهودى اعتنق المسيحية، وعندما سئل عن السبب فى ذلك أجاب قائلا:إذا استطاع هذا الدين أن يبقى وسط هذه الفضائح الكثيرة فلابدأن يكون دينا من عندالله. وفى ظل هذا المناخ ولد الطفل نيكولو ما كيافيللى فى إحدى الدول الإيطالية وهى فلورنسا التى تعاقبت عليها فى حياته عدد من الأنظمة السياسية المختلفة، شأنها فى ذلك شأن سائر  الدول الإيطالية التى  كان يسقط فيها نظام لكى يقوم على أنقاضه نظام آخر، حيث ينكل المنتصرون بالمهزومين ويمزقونهم إربا ثم يجلسون مكانهم على قمة النظام  إلى أن يجىء من ينكل بهم ويمزقهم إربا ثم يجلس مكانهم على قمة النظام!!    و مما يؤثر عن ماكيافيللى أنه عندما ولد كانت عيناه مفتوحتين، شأنه فى ذلك شأن سقراط وفولتير وجاليليو وكانط وفيجارو، ( يضيف المؤلف ساخرا إن هذا هو أيضا شأن كازورى بائع اللبن عند باب تومينتانا، وهذا هوأيضا شأن مؤلف هذا الكتاب "جوزيبى بريتزولينى "نفسه، غير أن العينين المفتوحتين لماكيافيللى، لم تكونا كذلك بالمعنى المادى وحده، فقد شغف بالقراءة منذ صباه حيث استطاع أن يهضم التراث الكلاسيكى هضما جيدا وأن يستوعب فى الوقت ذاته دلالة تلك الدروس المستفادة من الأحداث التى عاصرها، وأن يستخلص القوانين والمبادىء التى يخضع لها قيام الدول وسقوطها كما  فجرت تلك  القراءات الواسعة أيضا  مواهبه الأدبية وصقلتها وجعلت منه واحدا من أهم كتاب المسرح، وإذا كانت ثقافة وموهبة ما كيافيللى الأدبية قد جعلت منه من أفضل من كتبوا النثر فى إيطاليا  فإنه فيما يتعلق بالشعر كان من أردأ الشعراء على مستوى العالم.                                           [email protected]