أحمد عبد الوهاب يكتب: الابتكار لا التكرار.. تجربة الإمارات في التعليم نموذجًا

مقالات الرأي

أحمد عبد الوهاب
أحمد عبد الوهاب

انطلق العام الدراسي في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة هذا الأسبوع، ولمن عاش في الإمارات أو تابع العملية التعليمية فيها يدرك أن التعليم من أكثر القطاعات أهمية في الدولة، بل إنه الملف الأهم -من وجهة نظري- بين كل ملفات التطوير، وينبغي أن يكون كذلك في كل دول العالم.

ومن خلال تجربتي العملية في قطاع التعليم داخل الإمارات ومتابعتي كذلك لأكثر التجارب التعليمية الدولية تميزًا، أود أن أقدم سلسلة مقالات لعرض النماذج التعليمية المتميزة راجيًا من الله أن تعم الفائدة. ويسعدني -هنا- بداية تلك السلسلة بمقال عام عن التجربة الناجحة للإمارات في قطاع التعليم والتي تركزت فيه الرؤية على الإبتكار وأتى الأمر بثماره من خلال تصدر دولة الإمارات عربيًا مؤشر الابتكار العالمي لعام 2022.

التعليم أولوية وطنية:

قامت الإمارات بإعطاء التعليم الأولوية الوطنية في التطوير والاستثمار.  وذلك بدءًا من المقولة العظيمة عن التعليم للمغفور له الشيخ زايد -مؤسس الدولة- حين قال: "إن رصيد أي أمة متقدمة هو أبناؤها المتعلمون، وإن تقدم الشعوب والأمم إنما يقاس بمستوى التعليم وانتشاره".  وبناء عليه سار قادة البلاد والقائمون على التعليم بتنمية الفكرة منذ ذلك الوقت فوضعوا رؤى وخططًا قصيرة المدى وطويلة المدى لتنفيذ أهدافهم بغرض أن يحظى أجيال المستقبل في الإمارات بأفضل نظام تعليمي في العالم، تدعم فيه الدولة مواهب الطلاب وقدراتهم من خلال غرس مهارات القرن الثاني والعشرين وترسيخ الهوية الوطنية والقيم الأخلاقية فيهم واستخدام أفضل وسائل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجي لتوفير تعليم عالي الجودة يؤسس لعلماء وباحثين إماراتيين يخدمون مستقبل الدولة.  (قارن مئوية الإمارات 2071).

الرؤية والرسالة:

وضعت الإمارات رؤية واضحة لتطوير التعليم تنص -صراحة- على تقديم "تعليم ابتكاري لمجتمع معرفي ريادي عالمي".

كذلك كانت الرسالة شاملة تتمثل في "بناء وإدارة نظام تعليمي ابتكاري لمجتمع معرفي ذي تنافسية عالمية يشمل كافة المراحل العمرية ويلبي احتياجات سوق العمل المستقبلية وذلك من خلال ضمان جودة مخرجات وزارة التربية والتعليم وتقديم خدمات متميزة للمتعاملين الداخليين والخارجيين".

ومن خلال الرؤية والرسالة نرى أن الابتكار عنصر أساسي في العملية التعليمية وعليه أود أن أسلط الضوء على أهم المحاور الرئيسة لتطوير النظام التعليمي في الإمارات: 

  • تطوير الطالب. 
  • تطوير المعلم. 
  • تطوير المنهاج.
  • تطوير المجمعات التعليمية.

أولًا: تطوير الطالب:

تركزت الجهود على أن يكون الطالب هو المحور الرئيس للعملية التعليمية، حيث تضمنت رؤية الإمارات 21 عددًا من المؤشرات الوطنية لتحقيق ذلك، ومنها على سبيل المثال: التأكيد على أن يكون طلاب دولة الإمارات من بين الأفضل في العالم في القراءة، والرياضيات، والعلوم، بالإضافة إلى المعرفة القوية باللغة العربية.

الإبداع والابتكار  لا النقل والتكرار:

تم دمج الطلاب في المنظومة التعليمية لتوسيع آفاقهم المعرفية وتنمية قدراتهم المختلفة ليكونوا مبتكرين ومبدعين لا ناقلين ومكررين. لذا تم التركيز على تنمية قدرات الطالب من خلال التفكير الناقد والتحليل والمناقشة ومحاولة إيجاد طرق لحل المشكلات والخروج بحلول ابتكارية. كما اعتمدت ثقافة البحث العلمي في المدارس من خلال تبني المشروعات الطلابية كأحد مكونات التقييم.

دمج أصحاب الهمم:

أولت الدولة اهتمامًا كبيرًا بالطلاب ذوي الهمم. وقدمت المدارس خدمات وتسهيلات حقيقية لهم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • التهيئة النفسية للطلاب ذوي الهمم ليندمجوا في مجتمع المدرسة وأنشطته المختلفة.
  • تهيئة البيئة المدرسية المناسبة لهم مثل توفير المنحدرات والمصاعد ودورات المياه ومواقف السيارات الخاصة بهم.
  • تهيئة البيئة الصفية مع توفير الأدوات والتقنيات المناسبة.
  • تقديم خدمة تقييم وتشخيص للطلبة ذوي الهمم من قبل فريق متعدد التخصصات. 

الترغيب لا الترهيب:

حرصت الإمارات على خلق بيئة تعليمية تربوية تحفيزية لدعم الطالب، لتنشئ طالبًا مبدعًا ومتميزًا، ولنا أن نتخيل في كثير من البلدان كم من كلمة محبطة قد تؤدي إلى حرمان المجتمع من مبدع أو مخترع كان من الممكن أن يغير حياته وحياة مجتمعه للأفضل.

الاهتمام بصحة الطالب النفسية والبدنية:

من أهم الملفات كذلك هو توفير البيئة المدرسية الآمنة لحماية الطالب من كل ما يهدد صحته الجسدية، أو النفسية، أو الفكرية، أو التربوية، أو الأخلاقية، والحرص على تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطالب وبناء علاقات مدرسية اجتماعية إيجابية وتعزيز مبدأ التسامح بين أفراد المجتمع المدرسي، وعليه كان من الأهمية بمكان التركيز على رفع كفاءة العاملين في الميدان التربوي في مجال حماية الطفل وطرق الوقاية من التنمر والعنف بأنواعه المختلفة.

ثانيًا تطوير المعلم:

فطنت الإمارات بشكل عملي أن تطوير العملية التعليمية لا يستقيم دون تطوير المعلم ورفع مكانته في المجتمع، وهنا تحضرني كلمة سمو الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة عند ترحيبه بوفد من المعلمين العام الماضي ٢٠٢٢ في يوم المعلم قائلًا: "مرحبًا بمن يعلمون عيالنا، لكم في نفسي مكانةً كبيرةً من وقت كنت طالبًا".

لم تكن هذه الكلمات من رأس الدولة محض الصدفة أو المجاملة، بل هي امتداد للأساس الذي أقره والده المؤسس الشيخ زايد رحمه الله.

معلم متميز لتعليم متميز:

حرصت الدولة على تقديم مبادرات التدريب المهني المتطورة لدعم قدرات المعلم ومعارفه وتدريبه على "بحوث العمل" التي تساعد على حل المشكلات وأوجه القصور في تعليم وتعلم طلابه، وهنا أود الإشارة إلى كلمة الشيخ عبد الله بن زايد، وزير الخارجية ورئيس مجلس التعليم والموارد البشرية الإماراتي، بأن قطاع التعليم مرهون باستقطاب الكفاءات الوطنية إلى مجال التعليم".

قياس جودة المعلمين بالمدارس:

ضمت الأجندة الوطنية للتعليم كذلك مؤشرًا يقيس نسبة المدارس التي تلبي معايير محددة لجودة المعلمين استنادًا إلى نظام واضح لتقييم وقياس الأداء، حيث اعتبرت محور جودة المعلمين أحد أهم محاور جودة العملية التعليمية.

تشجيع المبدعين من المعلمين:

توسعت الدولة في تشجيع المبدعين والموهوبين والمتميزين والباحثين من المعلمين الذين يشكلون محرك التنمية والتطوير في مختلف الميادين الفكرية والثقافية فأطلقت جوائز نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (جائزة محمد بن زايد لأفضل معلم، جائزة خليفة التربوية، جائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للأداء التعليمي المتميز، جائزة المعلم العالمية وغيرها من الجوائز).

ثالثًا: تطوير المناهج:

ثم كان المحور الثالث محور تطوير المناهج،  لتغيير المحتوى النمطي الذي كان سائدًا، والذي اعتمد فيه الطلاب على الحفظ والتلقين، إلى محتوى قائم على فهم المادة التعليمية واكتساب المهارات التي تساعد الطلاب على تنمية قدراتهم لمواكبة التغيرات التي حدثت في القرن الحادي والعشرين  فاستبدل التكرار بالابتكار والحفظ بالفهم والتحليل وتم الاستفادة من تجارب مناهج الدول المتقدمة في التعليم، مع الحفاظ على الهوية العربية وقيم التراث الإسلامي.

رابعا: تطوير المجمعات التعليمية:

ويأتي ذلك في إطار خطة شاملة أعدتها وزارة التربية والتعليم لإنشاء مجمعات تعليمية جديدة وإحلال وتجديد المباني القديمة ضمن مشاريع ضخمة لرفع كفاءة المدارس وتزويدها بمرافق تعليمية متطوّرة توافق الرؤية المبتكرة لتطوير التعليم كذلك لا يخفى دور القطاع الخاص من خلال تشييد المدارس الخاصة بمواصفات متطورة والتي تحظى بنظام مراقبة ومتابعة لكل ما يخص قطاع التعليم الخاص من قبل مؤسسات الدولة مثل:

  • دائرة التعليم والمعرفة في أبو ظبي ADEK
  • وهيئة المعرفة والتنمية البشرية بدبي KHDA.

لا بديل عن الجودة:

تبنت الإمارات في كل مراحلها مبدأ لا ثاني له في التعليم وهو التعليم النوعي القائم على الكيف وليس الكم، وتدرك الدولة أن نجاح هذا يعتمد ويرتكز على إعداد معلم متميز وطالب ناقد ومنهاج متقدم وبنية تعليمية مناسبة.

ولكن لماذا التعليم هو الأولوية الأولى للاستثمار؟

قد يقول قائل إننا في زمن كثرت فيه للأسف الحروب أفلا يكون الأولى الاهتمام بالتسليح الحربي لمواجهة تهديدات المنطقة؟

أو يكون الأولى في ظل الأزمات الاقتصادية بناء مشاريع اقتصادية كأولوية للدول؟

أقول ويعرف الكثيرون أن التعليم هو الأساس لنهضة وتطوير كل تلك المجالات. فالتسليح الحقيقي هو سلاح التعليم. سلاح فتَّاك لمواجهة التطرف ونشر التسامح والسلام. ومن التعليم نستطيع أن نمتلك المعرفة لصنع أسلحتنا لحماية أوطاننا، لا للعدوان على الآخرين؛ فرسالتنا واضحة للعالم، رسالة سلام ومحبة.

والتعليم سلاح لتنمية الاقتصاديات العالمية بحلول ابتكارية ومشاريع اقتصادية تنموية متنوعة ومتدرجة صغيرة إلى عملاقة، فلن يكون هناك رجال متميزون في الاقتصاد دون تعليم متميز، ولن يكون هناك أطباء متميزون دون تعليم متميز وعليه فالمجالات كلها تبدأ بالتعليم وتتطور بالتعليم.

الاستفادة من تجارب الآخرين:

استفادت الإمارات كذلك من تجارب الدول ذات التجارب الناجحة في التعليم مثل فنلندا وسنغافورة وغيرها ولا أبالغ إذا قلت إن الإمارات قد فاقت كثير من تلك التجارب الناجحة في العملية التعليمية وعلى طريقها للصدارة عالميًا.

قد يقول قائل إن الاستفادة من تجارب الآخرين والنجاح مرهون بالقدرة المادية كون الإمارات دولة غنية وأن الدول الفقيرة لا يمكن أن  تحقق النتائج نفسها لغياب الدعم المادي، فتكرار تلك التجارب غير واقعي.

أقول إن العامل المادي يلعب -قطعًا- دورًا في تسريع المدة الزمنية اللازمة للتطوير ولكن الدول الغنية والفقيرة كافة تستطيع النجاح مع التخطيط والإرادة والرؤية والعمل وإعادة توجيه النفقات بشكل صحيح لينال التعليم ميزانية مختلفة ومتابعة حازمة، والأمر مجرد وقت وستكون نهضة التعليم سببًا في نهضة البلاد وخير مثال على ذلك نرى كيف ساعد التعليم والعمل ألمانيا للقيام مرة أخرى بعد دمار الحرب العالمية الثانية. وتأثير ذلك على تطور وتفوق الصناعة الألمانية في كثير من الميادين، وكذلك تجربة سنغافورة، تلك الدولة التي كانت تعاني من مشاكل الفقر والأمية فأصبحت الآن بفضل التعليم والتخطيط الجيد له أحد أقوى الاقتصادات العالمية، حيث تبنت الدولة في الخمسين عاما الماضية سياسات ومبادرات من شأنها رفع جودة التعليم، ومن ثم نهضة الاقتصاد والأوطان. 

إذن التعليم لا بد أن يكون له الأولوية للدول الغنية والفقيرة على حد سواء.

رسالة شكر وتقدير:

في ختام مقالي أتوجه برسالة شكر لكل القائمين على التعليم في دولة الإمارات لتجربتهم المتميزة في التعليم وسعيهم الدائم للتميز في القطاع التعليمي.

ورسالة شكر خاصة لكل معلم ومعلمة وكل من يشارك في تطوير العملية التعليمية ويسعى بالتدريب والتنمية المهنية لمواكبة التطور السريع للعلم والأجيال الحديثة- بلا كلل أو ملل. وهي نصيحتي المتواضعة للجميع كل في مجاله بمواصلة التطور والتعلم من المهد إلى اللحد وكما يقال:

"كل إناء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم، فإنّه يتسع، ولا يزال المرء عالمًا ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنّه قد علم، فقد بدأ جهله”.