ريهام الزيني تكتب: العمى المبين والبلاء العظيم ؟!

ركن القراء

ريهام الزيني
ريهام الزيني

 

 

لطالما سمعت من أبي وصفا لا أسلاه أبدا، إذ إعتاد أن يستشهد بالقرآن الكريم وقراءته والكلام العربي ولهجاته واهيقول عمن غاب عنه مفهوم البصيرة في قواعد الدين بين الحقيقة والتحريف ومفهوم التوازن بين الدين والدنيا والحياة الأخرة، "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق الهدي، ولا تزيده سرعة السير الا بعدا، "لا يكفي أن نكون في النور لنرى الحقيقة، بل يجب أن يكون النور فيما نراه حتى تتضح الرؤية وتكتمل الصورة وتصل الرسالة فيما تختلف الأحداث والأخبار قبل وقوعها"، "ليس الأعمي من لا يري، لكن الأعمي من لا يتدبر ولا يتفكر ولا يشعر بالحق الذي يراه، "فالبصر هو الرؤية الظاهرة للأشياء، أما البصيرة الرؤية الباطنية لحقيقة الأشياء"، "البصر أحد مصادر المعرفة الظاهرية والحسية أما البصيرة مصدر النور والهداية للحق من منظور معرفي رباني"، ويؤكد كلامه ويقول "كم من فاقد لعين البصر لكن الله من عليه بقلب يري بعين البصيرة"، فمن عميت بصيرته غابت عنه الحنكة وميراث الحكمة". 

 

 

وفي بدايات عمري عندما كنت طفلة كان والدي يردد لي دعاء "نور الله بصيرتك، وطهر قلبك، وهداكي إلي طريق الحق"، ولم أدرك حينها ما هي مفهوم البصيرة وما سر الكلمة العظيمة التي ما دام كنت أبحث عن معناها في داخلي، عاما بعد عام عانيت العديد من التحديات والصعوبات، وأنا أوجه أمواج حياتي المتلاطمة تلعب بي كيفما تشاء، وعند كل نكسة أتذكر تلك الكلمة، ومن فضائل فصاحة القرآن وبلاغته أن هذة الكلمة تكررت مرات عديدة، لكني لم أدرك معناها الحقيقي الإ بعد أن اجتزت إختبارات القدر كاملة جميع الفصول، فشلت كثيرا ونجحت قليلا بسبب أناس عديمي البصيرة، ورغم جولات الفشل الإ أنني ربحت أكثر مما كنت أتوقع، لأن حسابات مقدر الأقدار تختلف مقاييسه وموازينه عن حسابات البشر علي أساس المكاسب المادية والخسائر المتعارف عليها، ولكل إنسان أجره علي قدر إبتلاءه وسعيه وجهده وصبره وما وراءه من حكم بالغة جليلة، إنها أحد أنواع الحساب الدنيوي الذي يتم إحصائه مع النفس والنفس وحدها.

 

 

فحديثنا إذن يهم النفس البشرية، الهوية الحقيقية للإنسان التي تحدد مصيره ومستقبله في الدنيا والآخرة، فالنفس تري بعين البصر أما الروح تري بعين القلب، نعم إنها النفس التي تحتاج إلى إعمال عين البصيرة والإستبصار، إنها عملية البحث عن الحقائق المحجوبة فيما يبدو واضحا ظاهريا للجميع، والتحقق مما يتم طرحه، إنها رؤية المؤمن المحصن ضد أي خديعة أو مراوغة أو إحتيال، إنه نور البصيرة والحكمة التي تنير العقل وتضيء الروح، تصديقا لقول رسول الله صل الله عليه وسلم الذي يتكرر علي كل الألسنة دون فهم أو إدراك أسراره ومعانيه "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله".

 

 

وللتأكيد علي تلك الرؤية الساعية للتحرر من النفس، لا بد من الإشارة إلي أن رحلة البصيرة والإستبصار ليست نزهة، بل هي ضرورة للوصول إلي نتائج بعيدة المدى، وهنا لا بد من القيام بإطلالة سريعة لفهم طبيعة الصراع المشبوه بين أهل البصر والبصيرة من منظور قرآني، فكثيرا ما نمر علي بعض آيات القرآن الكريم دون تدبر أو إعتبار ما تعنيه مقاصدها ومعانيها..!!، حيث إستوقفتني الآية الكريمة "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" الأعراف:١٩٨، فالقضية تفرض نفسها من خلال سرد هذة الآية التي تشرح السيناريو بشكل رائع، وهو أنه بالبصر يستحيل أن ندرك الأشياء دون بصيرة، وهنا يكون الإختيار في الوصول إلي أعلي مراتب البصيرة والعرفان بسر الأسرار الذي يكمن في تدبر الشرائع السماوية وآياته الكونية قراءة كاملة متوازنة دون غض الطرف عن فقة الواقع المنكشف الذي يتجلي أمامنا من الأمور والأحداث الراهنة.

 

 

وسيكون من البلاء العظيم أن ننسي أو نهمل آية واحدة فيها منهج حياة متكامل في ذلك النص الإلهي البليغ، ومعجزة الله الكلامية إلي العالمين "من لم يجعل الله له نورا فما له من نور" النور:٤٠، وهنا يتجلي قول الله تعالي لكي نفهم أن أساس المشكلة تكمن في القلب العالق بين ظلماته المخيفة، القلب الذي حجب عنه نور الخطاب الإلهي، فيصاب بالعمي والحرمان من نعمة نور الوعي وفصاحة البيان وقوة الحجة بالدليل والبرهان، أمور ينعم الله بها علي من يشاء من عباده ليلهمهم طريق الحق واليقين في دينهم ودنياهم.

 

 

وهذا ما دعانا إلي القول بأن الإنسان كما هو معروف هو روح وجسد، وكونه كذلك وجب لزاما احترام هذة المعادلة الربانية، فالبعد الروحي يتمثل في تفعيل البصيرة داخل النفس البشرية، ولكي يتحقق الهدف ويتم التوصل إلي نتيجة هذة المعادلة، فإن كل ما تحتاجه كثيرا هو الإبتعاد قليلا عن ضجيج الحياة والتأمل في سيرة الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والعرفان لكي تتعرف علي أولي خطوات الطريق إلي الله حتي تحقق مبتغاك في الدنيا والآخرة، لتجده قد تحقق بعد ذلك في بداية رسالة عظيمة وحياة مليئة بنور الحكمة والمعرفة، وهنا يكون الإختيار فقط لقلبك وقدراتك العقلية، وملكاتك الغير مرئية.

 

 

وفي هذا الصدد، اسمحوا لي أن أصارحكم بقسوة ومن القلب، أن الكوارث المتتالية التي حلت علي الأمم والحضارات، والهموم التي أصابت الناس في دينهم ودنياهم، لم تأت الإ عندما ضعف الإيمان، وقلت البصيرة، وتعلقت القلوب بفتن الدنيا واللهث وراء سرابها وزخرفها وزاد الغلو في محبتها، فكثر البؤس وزاد الشقاء وحلت التعاسة، وجفت الأرواح وتبلدت الأفكار وقست القلوب، ولم ينتفع الخلق بنعم الخالق، حتي صارت بلاء عليهم.

 

 

ومع قليل من التأمل والتفكر، يتبين لنا أن عمي البصيرة لهو العمي المبين والبلاء العظيم، وما تلاه من هزائم متتالية من تسليط المنافقين والمتسلقين من أجل التمكين، حيث أصبحت زينة الحياة الدنيا هي الهدف الأوحد في الحياة، نعم هكذا صار حالنا، عالم يجهل حقيقية الوجود، عالم بلا عقيدة واضحة صحيحة، انسلخ عنه غطاء الدين والأخلاق والبصيرة، وزرع في أوساطه الكفر والفساد والإلحاد، وشعوب غافلة في تزاحم الأحداث وشدتها علي قلوبهم عن الألطاف الإلهية الخفية التي قد تعجز عقولهم وأبصارهم عن تصورها، تصديقا لقوله تعالي "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" الحج:٤٦.

 

 

فكم نحتاج لهذة البصيرة في عصرنا هذا، لقد تخبط العالم كثيرا في مشوار بحثه عن عن حقائق وأسرار الذات والكون، وبنظرة سريعة إلي التاريخ القديم نجد بوضوح تلك الاسئلة التي طرحها العلماء والأدباء والفلاسفة العظام، وكلها أسئلة تعود لتتوقف عند نفس النتيجة وهي ضرورة البحث في القلب والروح أولا، فهناك يكمن النور الساطع ليكشف لنا أسرار الحياة، والبحث عن الحقيقة التي لا ترتدي أقنعة ولا تداهن ولا تتواري.

 

 

وهنا يتضح جليا نحن أمام مرحلة فارقة تعتصر لها القلوب، يقف المرء منا في مفترق الطريق، الحيرة تقتلنا وتغزو قلوبنا وعقولنا لنميز بين النور والظلام، وما بداية الإصلاح الحق الإ بالعودة إلى الله بصدق لطلب الهيبة الضائعة في كثبان فتن كقطع الليل المظلم ورفع الحجب عن البصيرة المفقودة من أجل الغاية المنشودة في ديننا ودنيانا، لتكون موسوعة لإقناع العقل وإرضاء القلب والروح، تطلعنا علي الحق وتبصرنا إلي الرشد، وتمنحنا الدوافع لتعلم المنهج اللطيف الشريف الرباني بعيدا عن مستنقع التجهيل والتكفير والإجرام ورذائل الأخلاق.

 

 

والآن قد يتساءل البعض كيف يمكننا الوصول إلي هذا النور لمعرفة الحق من الباطل، أقول ذلك بإختصار، فكما لكل منا قلبا نابضا كذلك لكل منا بصيرة لكنها محجوبة، وما يحجبها الإ تراكم المعاصي والذنوب، نعم كل منا لديه نور كامن بداخله يكفي أن يقودنا إلى الله نور الحق والبصيرة، وما علينا الإ أن نبحث عنه في سراديب قلوبنا، وأول خطوة للوصول إلي الخالق هي التقرب إليه حبا لا خوفا، ومن ذلك ستؤقد نور البصيرة في داخلك، قد تكون البداية صعبة لكن تأكدوا أن البحث للوصول إلي هذا النور أفضل بكثير من التخبط في الظلام الروحي الدامس والضياع العالمي الجديد الذي ينتج عنه الخسارة الحقيقية في الدنيا والآخرة.

 

 

ولعله من المفيد أن أؤكد، إن معني الحياة كلها تقف عند كلمة البصيرة التي تكمن في الحكمة المستنيرة من عين البصيرة إمتداد نور الله علي قلب عبده الذي لا يدركه الإ من أعطاه الله، إنه نور أوله السماء وأخره القلب الذي أراد الله أن يشع منه نورا وضياءا ليري حقيقة الأشياء والأحداث بما فيها من معاني وشفافية، فلا يختلط عليه الأمور في دينه ودنياه، وإذا أهملها وأنكرها أو تجبر وإغتر بها أخذها الله منه ونقلها إلي غيره رغم أهميتها وعظمتها، وهذا إن كانت لديه بالفعل تلك الرغبة في إدراك الأمور بمنطق لا يخضع لللنفس والهوي ويمنحه الرؤية الأوضح والجواب الحاسم علي كل سؤال، إنها البصيرة النافذة الثاقبة التي لا تأتي الإ لمن عالج نفسه وإهتدي إلي الله نور السماوات والأرض.

 

 

قد يبدو مقالي غير منطقيا ولا مقبولا ولا حتي إعتياديا في مسار حياتنا وعالمنا المعاصر، في حين أن سر سعادة الدنيا والأخرة تكمن في تلك الحقيقية المجردة التي يتجاهلها الكثيرون، فلا يوجد أدنى تناقض بين ما جاء في القرآن الكريم وحقائق العلم وواقع الحياة، التي تؤكد أن أخطر الكوارث التي تجنيها البشرية وتتعرض لها الإنسانية سببها ظلم العبد لنفسه بالبعد عن ربه، وعمى البصيرة العمي المبين والبلاء العظيم القضية الأساسية الأشد والأخطر وطأة وفعلا، بل أعظم بلاء ومصيبة من عمي الأبصار، وهذا ما دعاني إلي كتابة هذا المقال لبيان الآثر الخطير لثنائية البعد عن الله وفقدان البصيرة، والآثر العظيم في إدراك الحق بمختلف معانيه ومناحيه، وما تعمير الأرض الإ ثمرة من ثمرات القرب من الله والإلتزام بشرع الله.

 

 

ومن الضروري أن أشير أنني لا أكتب هذا المقال لأقول أنني من أهل البصيرة، ولكن لأذكر نفسي وإياكم بضرورة إحياء أحد أهم الملفات المهجورة التي حسمها أهل العلم والبصيرة والعرفان منذ زمن بعيد، فالقضية ليست ترفا فلسفيا بعيدا عن الواقع، بل الواقع بذاته هو الذي يفرض ضرورة تسليط الضوء علي الموضوع الأكثر أهمية، في ظل عالم مضطرب مليء بفتن قائمة وأخري نائمة لا يعلم مداها الإ الله.

 

 

أعلم أن أول ما قد يتبادر إلى أذهاننا عندما نقرأ المقال هو هذا القول "يا لها من كلمات جمعت كل المعاني والقيم والفوائد والحكم ما تلين به القلوب وتنير بها العقول، وتقشعر منه الجلود"، ولكن مهلا لا تتعجلوا، فكلماتي ليست كالكلمات التي تتوافق مع الجميع في ظل مجتمعات معاقة تخوض معارك دامية بين قلوب ملوثة وعقول ضالة بإمتياز، بل كلماتي تلامس قلوب ويثمر صدور أهل البصيرة والنور فقط،  نعم أعي تماما ما قلته، وأعرف لماذا قلته، فكم منا مقتنع بضرورة العمل علي التمكين من التأمل والتفكير في هذا الموضوع الشائك ضمن إطار ديني وخطاب دنيوي لا يفصل بين الدنيوي والأخروي ولا بين الزماني والروحي حتى نعود أفضل مما كنا عليه؟، ولماذا يتم التعتيم عليه والتغاضي عنه في حياتنا العامة والخاصة؟، أترك الجواب لحضراتكم.

 

 

وفي نهاية أحد مشاهد الصراع الأبدي، أود أن أطرح السؤال الفيصل حول السياق الذي نحن فيه، لا يدع مجالا للشك أن ما يحدث في الكون العظيم نتيجة شبح الإنهيار العقائدي وفقدان الإتزان وضياع البصيرة الذي وصل إلي أقصي درجات الظلم والقهر والإستبداد، وفتح أبواب الفتن التي يلتبس فيها الحق بالباطل، وصلت حد الكفر بالأدلة الدامغة والحقائق الثابتة الراسخة علي وجود الخالق، والإستهزاء بالله وكتبه ورسله والمتمسكين به، في عالم شياطين الإنس أعظم خطرا من شياطين الجن، ولا أحد يحرك ساكنا، ويبقي الوضع كما هو، والسؤال: إلي متي يصل الإعراض عن الله إلي حد فقدان نور البصيرة؟، وإلي متي هذا العمي المبين والبلاء العظيم؟!.

 

 

وها أنا أدون إليكم الكلمات الختامية، لكل بداية نهاية وهذة النهاية هي البداية لسلسلة مقالات قادتني إليها الروح، وما فاضت به الأفكار، ولا يسعني الإ أن أصفها بأنها ستكون شجرة معطاءة مثمرة، تحمل أغصانها ثمار حياتنا، وتظلنا من لهيب شمس الدنيا والأخرة عند ضعفنا، وتقدم ثمارها الخضراء في صحراء حياتنا بطريقة شيقة ممتعة لا يتخللها كسل أو ملل.

 

 

 وللحديث بقية مادام في العمر بقية...