ريهام الزيني تكتب: فقة البصيرة ما يخلصك من الحيرة ؟!

ركن القراء

ريهام الزيني
ريهام الزيني

في عالم مليء بالفوضي والتحديات العارمة والتحولات والإستقطابات والتصدعات والتناقضات الراهنة، لا سيما أشكال الصراعات الجديدة المتوارثة، والمعتقدات الخاطئة المختفية خلف أفكار ومغالطات كاذبة، وسلوكيات وإدعاءات باطلة مضللة، لا تستند في معارضتها علي أسس دينية تاريخية ولا مناهج عقلية فكرية علمية متقدمة، وشعوب غارقة في وحل الفتن ورياح الشبهات وأمواج الشهوات البهيمية الطاحنة، وكيانات تدعو للشر والكراهية في قلوبها نار وعقولها ظلام، يرون أنفسهم في مرآة زائفة ليست كالتي تحملها النفس الملهمة والروح الطيبة الصالحة، يرفضون أن يستفيقوا من سباتهم العميق، ويواصلون عصيانهم لله وكبريائهم وغطرستهم مع أولئك السالكون الراشدون طريق الحق في حضرة النور الإلهي.

 

وفي خضم ثورة تكنولوچيا المعلومات الهائلة بأشكالها المختلفة وتنوعها الواسع وأجيالها المتعاقبة، قد يجد المرء نفسه وكأنه يلهث وراء فوضي المصطلحات المشوهه والأخبار المزيفة وسناريوهات الأحداث المتصنعة، باحثا عن إبرة البصيرة والإستبصار في كومة قش المعلومات الغامضة المشفرة،  مصداقا للحكمة القائلة "الإنسان يغرق في المعلومات بينما هو يتعطش للحكمة"، وما الحكمة هنا الإ كشف الحقيقة لعين البصيرة التي تنير العقل والروح.

 

وفي ظل تلك الظروف الحياتيه المعاصرة وتفاقم الحروب العالمية الطاحنة طوال السنوات الماضية والراهنة، لقد أصبحنا في أشد الحاجة إلي معرفة ما هو فقة البصيرة، وما ثمراه وفؤائده، وما هو السبيل للوصول إليه للسيطرة علي الحيرة في زمن تلاطمت فيه أمواج الغربة والفتن وسوق البدع، وتكاثرت أسباب التخبط والفرقة والفساد العفن، وقطع أواصر المحبة بين أصحاب العقيدة والنسيج الوطني، غذتها فتن شيطانية دجالة ممنهجة من وسائل إعلام مضللة بلا وازع ديني أو ضمير إنساني يردعه، فيصبح نارا تحرق الجميع حتي من أوقدها؟، وهذا ما سنوضحه تفصيلا في السطور التالية من خلال مقالتنا.

 

فقة البصيرة هو أعلي درجات العلم الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل، لا سيما أعلي درجات المعرفة التي تكون نسبة العلم إلي عين القلب كنسبة المرئي إلي البصر التي تعد أساس معرفة حقائق الكون وأنظمة الحياة والإنسان والوجود من حوله علي علم ويقين وبرهان عقلي وشرعي، لا ليكون الدليل العقلي قسيما الدليل الشرعي، بل مندرج تحت سرادقها ومظلتها ليؤيد بعضها بعضا، ومن كانت نيته الآخرة سيفتح له من العبرة والتذكرة بقدر نيته المخلصة الصادقة، وهذة هي الصفة التي اختص الله بها أصحاب القلوب النقية الواعية دون سائر البشر.

 

فقة البصيرة هو نور الوحي الإلهي الذي يفصل بين الحق والباطل ويساعد علي ربط المعطيات الظاهرية المحتملة للحقائق والأشياء برؤي وأفكار ذهنية تحكمها قوانين إلهية عقلية تقود إلي تشكيل أحكام صائبة واعية، في ظل فقة الموازنة في تقدير المصالح والمفاسد، والفصل بين النور والظلام عند كل حال، في ضوء الضوابط الإنسانية والوطنية والأخلاقية والشرعية علي حد سواء.

 

فقة البصيرة يعمل ككشاف ساطع وسط الظلام الدامس ليوضح حقيقة الأشياء كما هي، لا كما تزينها النزعات الإبليسية الشيطانية الدجالة العفنة للعبيد الغاوين، ولا كما تزينها الدنيا وفتنها ولا اتباع أهواء النفس البشرية الضعيفة، مصداقا لقوله تعالي "ادعو إلي الله علي بصيرة" (سورة يوسف: الآية ١٠٨) أي علي علم ومعرفة وبصيرة بالسنن الإلهية التي يقوم عليها قانون الكون ونظام القوانين السماوية، وعلي تحقق وتدبر وتفكر بربط الأسباب والمعطيات بالمقدمات والنتائج.

 

فقه البصيرة يهديك إلي أن تكون أداة بناء وتعمير، لا معاول هدم وتدمير وإفساد في الأراضين، فقة يرشدك إلى بناء الأسر والمجتمعات والأمم والحضارات، لا بالراحة والإستسلام للجهل والكفر بالمسؤوليات، بل بالعلم والإيمان وإرادة الإنسان، والعطاء والتضحيات وإدراك الواجبات إتجاه الله أولا ثم الوطن والمجتمع والنفس ثانيا.

 

فقة البصيرة يلهمك السعي لنشر ثقافة المحبة الممزوجة بجرعات مكثفة من  الإحترام والمودة المتبادلة، وتآليف القلوب بالعقل والمنطق، والإيمان بالحجة والبرهان، وتطهير الأرواح والأنفس بالإتحاد والقوة المقصدان الأساسيان للدخلاء وأهل الأهواء الحاقدين من أضاليل الإنس والجن، فقة من شأنه الإطاحة بالأزمات وتخطي الصعوبات بالحوار والحكمة ونور البصيرة والحنكة.

 

فقة البصيرة يعلمك الدعوة إلى الله بعلم وفهم، مما يجعلك تدرك حقيقة الدنيا والحكمة من وجود الخلق، ويفهمك العبرة من ترك المحرمات وهجر النواهي علي بينة وبصيرة للمسيرة الإيجابية لخدمة الإنسانية، وتنقلك من علم اليقين إلي عين اليقين أن تقوى الله مفتاح كل خير ومغلاق كل شر، والإيمان بأننا راحلون، ولن يبقي الإ الذكري والأثر الطيب لمن أراد أن يكون سببا في مفاتيح الخير لا مغاليق الشر.

 

فقة البصيرة منحة إلهية مرتبطة بقوة الصلة بين العبد وربه، وشرف التفكر وعبادة التدبر والتأمل في تكرار سنن الله في خلقه، بالتركيز علي عواقب سلوكياته المنطوية علي أفعاله وأعماله وأقواله، لفهم تاريخ الحضارات والأمم، والإستفادة من قصص الأنبياء والرسل، والتعرف علي وحدة الشرائع والرسالات السماوية في مصدرها وغايتها في عبادة الله الواحد الأحد وهداية الناس وإرشادهم إلي ما هو خير لدينهم ودنياهم وأخرتهم، لا سيما توقع وترقب بإستشراف وإستبصار أحداث أخر الزمان.

 

فقة البصيرة رتبة معرفية، وعزيمة فكرية، وإشراقة نفسية، وثقة بالنفس عالية تتجلي في قلب صاحب القوة وصدق العزيمة، وعقل صاحب المكانة الروحية والفكرية الرفيعة، للباحث عن ضالته في معرفة أصول الدين وعلوم القرآن والشرائع السماوية معرفة وافية شاملة، وفهم علوم الحياة معرفة نافعة، وقرأءة التاريخ في سياق متسق ودقة وموضوعية متناهية.

 

فقة البصيرة تجليات نورانية تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، لتعلن بوضوح الدوران في دائرة الحق والتحرك في فلك العدل، للتحصن بسياج قوي ومتين من العلم الكافي والفكر الصافي، حتي تهتدي وتأنس بتلك العطايا الربانية، بالتأصيل العلمي والديني الذي يجمع بين العمق والسعة والثقة بالمنهج الأصيل لإدارة الوقت وقرأءة الحاضر والمستقبل، بفكر لامع ومتألق وعين ذكية واعية مدركة مبصرة من التقليد والمحاكاة إلي البصيرة والإستبصار.

 

فقة البصيرة مفتاح الخروج من أي نفق مظلم، فلا نتفاجيء بسقوط أي أمة أو كيان أو شخصية، لأننا ببساطة نستطيع أن نعيد قراءة التاريخ بطريقة أكثر حيادية وموضوعية، ومعرفة أين كنا، وما تغير، وما يجب أن يتغير، حتي لا نتفاجيء بمثل هذه الأمور والغموض التي تكمن وراء القضايا العالمية الراهنة ومواجهة أصعب التحديات الشخصية المعاصرة، لا سيما التغيرات الروحية بكل جراءة وجسارة، للوصول إلى منطق الفهم الصحيح للعالم، وإيجاد الحلول لمختلف المشاكل الحياة.

 

فقة البصيرة يحتاج إليه الحاكم والعالم والصحفي والإعلامي والسياسي ورب الأسرة والعارف الرباني وكافة الأطياف والأعمار، حتي تتمكن الأمم الصالحة من تحمل الواجبات والمسئوليات، والتحديات والصعوبات، للسير نحو منظومة المقاصد والمعية الربانية، بما يليق باللطائف النورانية للخفايا المضيئة للرسائل الختامية للأسرار الإلهية، لتعزيز عالم أكثر استدامة وازدهارا يحاسب عليه في الدنيا أمام أمته وفي الأخرة أمام خالقه.

 

فلا ثمة مشكلة ولا حيرة في وجود البصيرة، إنها عقيدة قلب، وقناعة عقل، ويقين روح أصحاب البصيرة التي من خلالها نري كل شيء علي حقيقته دون خداع أو تزييف، لأولئك الذين امتلأت قلوبهم بالمحبة والطهارة والإخلاص، ومستودع الأنوار والعطاءات والتجليات الإلهية المقدسة التي تحيي قلوبهم وتصبح بصيرة في شؤونهم العامة ومصالحهم الخاصة، فتري ما لم تدركه الحواس من عمق الأشياء، لنزداد إيمانا مع إيماننا وتصديقا بما جاء به إمام المتقين سيدنا محمد صل الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله"،وذلك بتأهيل النفس للوصول إلي أعلي درجات المدد الإلهي.

 

ولهذة الأسباب دعوني أؤكد لكم بوضوح ما أحوجنا إلي من يذكرنا بأن فقة البصيرة نعمة تتطلب السعي إليها وتفعيلها إلي واقع ملموس يقينا من عقبات الطريق في عصر انعدام البصيرة والإنفلات نحو فتن الدنيا الزائلة، مما يستدعي سرعة بذل جهود مضاعفة لمحاسبة النفس وإدانتها وتصحيح مسارها، ولن يحدث ذلك الإ عندما نكون أقرب إلي ساحة البصيرة الثاقبة، حتي نستطيع رسم خريطة حياة جميلة مع الله، ومن طهارة القلب نستطيع لمس السماء، ولن يكون ذلك الإ بتدعيم العقل وحضور القلب وإبعادهما عن كل ما يسيء حركتهما، والفيصل هو الإمتثال لأحكام الله بالعلم والفهم والتأمل والتدبر في أصول الفقة والدين والتفكر في أيات الله ومظاهر قدرته الكونية.

 

وهنا يتضح جليا أن فقة البصيرة وكافة لوازمها وضروراتها ليست مجرد شيئا معطي في الكتب والمجالات كسائر العلوم والتجارب والخبرات، بل هي عملية بنائية معرفية وجودية في غاية الصعوبة والتعقيد والأبعاد تتطلب الدقة والمهارة والجهد والإجتهاد نفسيا وإجتماعيا وروحيا، حتي يتمكن الإنسان من تحصيل الإستبصار في كل المسائل والمواقف الحياتية، لمعرفة الحقائق والأسرار الظاهرية والباطنية، والجزئية والكلية، والمتغيرة والثابتة، فيما يتعلق جانب العبادات والمعاملات العامة الدينية والدنيوية العامة والخاصة.

 

ولعله من المفيد أن أؤكد بصراحة، وفي لحظة صدق مع الله والنفس، نحن نعيش مرحلة تحول كبير، وفي حالة تحدي مع إبليس وأنظمته البائدة البالية الفاسدة بجميع أركانها ورموزها، وأعوانها وجنودها من شياطين الإنس والجن، نحن في زمن كثر فيه الهرج والمرج بكافة صوره وأشكاله، حتي صارت الفوضي نظاما والجريمة قانونا، ولا يمكن أن نبقى بذات الفكر والنفس والروح السابقة، مما يستدعي ضرورة إعادة النظر في حياتنا علي جميع الأصعدة، بالإقبال علي الله بالتوبة النصوحة وطلب المدد بالتفقه في الدين  مفتاح البصيرة وتمام العبادة، فلا أحد يدري ما يختبئه القدر، وما يحدث في العالم الآن ما هي الإ آيات وإشارات كونية لقوم غافلون ونذر شرعية تحث الناس جميعا للرجوع إلى الله وطلب العون منه أولا.

 

 

وفي نهاية أحد مشاهد الصراع الأبدي الذي لا يمكن إنكار مدي أهميته علي كافة المستويات حيث بات فقة البصيرة قضية القضايا المعاصرة، وهنا توقفت طويلا لأطرح أسئلة جوهرية ملحة دينيا ووطنيا تحضر مع كل مقال مفادها، "في الوقت الذي تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظات مفصلية من عمر البشرية ما هي تبعات المسؤولية الدنيوية والمحاسبة الآخروية لأناس عديمي البصر والبصيرة الذين ماتت ضمائرهم وحتي إنسانيتهم، رغم وجود فرص متاحة أمام الجميع بتجديد العهد والوعد مع الله والوطن قبل فوات الأوان، في ظل وجود فقة يمكن أن يخلصهم من شتات الفكر والحيرة ببساطة شديدة؟!، أترك الإجابة لحضراتكم وأتمني أن يكون نقاشا هادئا مع النفس يحمل في طياته حلول مثالية مثمرة علي كل الأصعدة.

 

 

لن أطيل عليكم..ومازال للحديث بقية..