أحمد فايق يكتب: أحلام الحسينى أبو ضيف فى الأقصر

كان لديه ابتسامة واسعة، تحمل عمق كادر السينما، ومشاعر فيلم جميل، وتلميح دراما مكتوبة جيدا، تجعلك تشعر بالراحة، وكأن الله استودع فى داخله سر هذا الكون، احتفظ به لنفسه، ومصدرا للآخرين ابتسامة لا حدود لها، وأملاً وثورة بلا توقف، من السهل جدا أن تحب بالكتابة، وأن تجد آلاف المرادفات للتعبير عن هذا الحب، ومن السهل أيضا أن تبكى وتتحول الكلمات إلى سوط تعذب بها من يقرأ، لكن من الصعب جدا أن تعبر عن مشاعرك تجاه الحسينى أبو ضيف الثائر.. الصديق.. الأخ..

هل مات؟

أصبح هذا السؤال ساذجا الآن، فالحسينى يتراقص أمامى الآن على شاشة الكمبيوتر مبتسما كعادته، أصبح الحسينى أبو ضيف مثل «الغريب» فى حكايات الغريب، الذى تكتشف كل يوم عنه قصة جديدة، كان يسير فى وسط القاهرة الصديق والزميل مصطفى الكيلانى، يرتدى تى شيرت الحسينى، فقابله أحد البسطاء، وطلب منه الـ«تى شيرت» لأن الحسينى كان له فضل عليه، فخلع الكيلانى الـ«تى شيرت» وأعطاه للرجل.

فى إحدى المرات وجهت لسيد فؤاد رئيس مهرجان الأقصر للسينما الافريقية سؤالا.. ما الذى دفعك إلى عمل مسابقة خاصة للحريات باسم الحسينى أبو ضيف فى المهرجان؟

فقال: أنت لا تعرف الدور الذى لعبه الحسينى فى محرقة بنى سويف، فقد كان يوميا معنا فى كل الاحتجاجات والفعاليات التى طالبت بإقالة وزير الثقافة، وكان يتابع بشكل دائم مع أهالى الشهداء.

هذه حكاية جديدة تنضم إلى قصص كثيرة عن سيد شباب الثورة، إذا جبت كل أنحاء مصر ستجد له فى كل نجع وقرية ومدينة حكاية بطولة، ستجد ذكرى عنه وابتسامة تركها فى وجه البسطاء، لن تجد حركة ثورية شريفة إلا والحسينى عضوا بارزا فيها، يفعل كل شىء مقابل لا شىء، إنه آخر الرجال المحترمين يا سادة، والله العظيم لن تجدوا طيبة أو شهامة أو صداقة مثل التى كانت موجودة فى الحسينى، لقد خلق من أجل أن يبعث فينا الأمل، ويشعرنا بأن مصر بخير، ومات من أجل مستقبلنا، مات حتى لا نجد فاشلا يحكمنا 30 عاما مرة أخرى، مات حتى لا تحكمنا أى فاشية، مات حتى لا يتحكم فينا تجار الدين بعدها، مات من أجل أن نتوقف عن شرب مياه الصرف الصحى ونأكل المبيدات المسرطنة، مات من أجل كرامتنا، فهل نستحق موت الحسينى من أجلنا؟

هذه المرة كان الخيار صعبًا بالنسبة لى، فقد تم اختيارى كعضو لجنة تحكيم الحريات ومنح جائزة باسم سيد شباب الثورة، اللجنة شارك فيها المخرج عمر عبدالعزيز وجيهان فاضل وسلوى محمد على ومدير التصوير سامح سليم، وذلك فى مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية.

لقد وجدت بعض أحلام الحسينى تتحقق أمامى خلال زيارة الاقصر، فقد كان الحسينى يتحدث دائما عن أهمية العمق الأفريقى لمصر، وكونه ناصريًا فقد كان يريد إعادة ماكان يفعله جمال عبدالناصر من جديد، وجدت حلم الحسينى يتحقق حينما تم الإعلان عن صندوق «اتصال» من مصر، وهو أول صندوق أفريقى لدعم السينما القصيرة والوثائقية، الصندوق فيه 100 ألف دولار سيتم دعم = 10 أفلام سنويا، ليعود لمصر جزء مما كانت تمتلكه من قبل، شارك فى المبادرة الكثير من الإخوة العرب والأفارقة والمصريين، من مصر المنتج شريف مندور، ومن تونس طاهر العجرودى رئيس لقاء نابل للسينما ومن المغرب أيوب البغدادى مدير مهرجان مرتيل، وغيرهم من 20 دولة افريقية وأوروبية وأمريكا وكندا، لقد نجحت «عزة الحسينى» مؤسسة المبادرة فى تحقيق حلم أبو ضيف فى «اتصال».

وجدت حلم الحسينى يتحقق فى نقاشات مع رفقاء الرحلة مخرجين ومخرجات من إسبانيا وأمريكا وإنجلترا وكندا وفرنسا، فقد أجمعوا على أن ثورة الفقراء فى العالم قادمة، وأنهم يعانون أيضا من توحش الرأسمالية، قلت للمخرج الأمريكى «كارل إكلوف» : لقد تسبب النظام الأمريكى فى دمار ثورتنا وتواصلون رحلة تخريبكم لنا.. العالم كله كان يحبس أنفاسه لمتابعة ثورة 25 يناير وانهيار الطاغية مبارك، ولأنها ثورة اجتماعية وتطالب بالعدالة الاجتماعية، فقد تحالف نظامكم مع أى فاشية تذبح ثورتنا، فى البداية تحالفتم مع مجلس طنطاوى العسكرى ثم تحالفتم مع الإخوان المسلمين، كان هدف نظامك ألا تتحول ثورة مصر إلى نموذج عالمى ناجح، نموذج ملهم يؤدى إلى تشجيع حركات مثل «وول ستريت»، نظر إليه «كارل» متأثر قائلا «أنا آسف.. لكننا أيضا نعانى فى أمريكا من نفس الشىء نحن نعمل جميعا لزيادة ثروات 1 من عشرة فى المائة من العالم، وأنا مؤمن مثلك بثورة اجتماعية تطالب بالعدالة الاجتماعية فى أمريكا أيضا»!

لقد تحقق حلم الحسينى بوجود جائزة للحريات فى مهرجان سينمائى مصرى، شارك فى المسابقة 11 فيلما من 11 دولة حول العالم، ما بين أفلام تسجيلية وروائية وتجريبية طويلة وقصيرة، كلها أفلام تتحدث عن الحرية، فقد شارك فى المسابقة أفلام «أزو» إخراج لوى البرتو لاماتا من فنزويلا، وفيلم «وراء ستار من الدخان» من هولندا إخراج رامى الحرايرى ونيلز دوجروت، وفيلم «الورق الأسود» من العراق – أربيل إخراج إبراهيم رمضان، و«القمر الأسود» المغرب إخراج حسن بن جالون، و«تأجيج الفقر» نيجيريا، و«الشراع والعاصفة» سوريا إخراج غسان شميط، و«قصة جبل الجون اوجيلك «كينيا إخراج لورا ميدلاتين.

فاز بجائزة الحسينى أبوضيف لأفضل فيلم يدافع عن الحريات الفيلم السويدى «ثورتى المسروقة»، وفاز الفيلم التونسى «الأستاذ» بتنويه من لجنة التحكيم.

«ثورتى المسروقة» فيلم يجب أن تشاهده حتى تعرف لماذا مات الحسينى أبو ضيف؟ وما هو الدور الذى لعبه سيد شباب الثورة فى إنقاذ مصر من يد «الخمينى».

الفيلم إخراج «لويس هندرسون» وهى إيرانية هاجرت إلى السويد، فى مشهد النهاية نرى ضيفا يرفض الظهور بوجهه أمام الكاميرا متحدثا عن اللحظة التى تم فيها إعدام «رستم»، فقد طلب من رفيقه فى السجن أن يغنى، ثم دخل السجان واصطحب رستم معه للمشنقة، وتوقف صديقه عن الغناء وظل يبكى، لكن رستم قاطعه قائلا، لماذا توقفت عن الغناء.. استمر وغنى.. وذهب ولم يعد مرة أخرى، فقد مات رستم شقيق المخرجة من أجل الحرية.

والحكاية تعود إلى عام 1979 وقت قيام الثورة الإيرانية، المشهد الأول للفيلم نرى فيه صورة لسيدة ترتدى المايوه البكينى فى إشارة لانفتاح المجتمع وقتها، وتبدأ الثورة وشاركت فيها «لويس هندرسون» مع 5 ناشطات أخريات ينتمين للحزب الشيوعى، تظاهرن ضد الشاه، وطالبن بالحرية، الشوارع كانت تمتلئ بالجميع إسلاميين وليبراليين والشيوعيين، وتنتصر الثورة بالجميع، ليعود «الخمينى» فى مشهد مهيب معلنا نهاية الحلم الجميل، وتحول الثورة إلى كابوس باسم الدين، تقريبا نفس المشهد الذى كاد يتكرر فى مصر بعد ثورة 25 يناير بعودة القرضاوى مصر، لكن فى مصر كان فيها «الحسينى ابو ضيف» وغيره من شهداء الثورة يحمونها.

الخمس نساء دخلن سجون الخمينى وحبسن من 6 إلى 10 سنوات، تعرضن للتعذيب والقهر، وإحداهن تعرضت للاغتصاب، فى هذا الفيلم ذهبت المخرجة، إلى لندن وكوبنهاجن وستوكهولم وألمانيا وأمريكا للبحث عن صديقاتها، ثم جمعتهن مرة ثانية فى منزلها بـ«ستوكهولم»، واستخدمت المخرجة أسلوبا فى السرد يعتمد على لوحات تشكيلية ونماذج فنية مكونة بالصلصال، وعبرت من خلالهم عن المأساة التى كن يعشن فيها، السجون والممرات الضيقة وحتى طريقة الجلوس المهينة، فالذاكرة لا يمكن أن يمحوها أحد، والفن أحد أبرز طرق التعبير عن الذاكرة، ويبدو أن الصلصال أصبح وسيلة للتعبير عن القهر والدم فى السينما العالمية، فقد فعل هذا أيضا المخرج الكمبودى «ريثى بانه» فى فيلمه «الصورة المفقودة» والفيلم عرض فى مسابقة «نظرة خاصة بمهرجان كان السينمائى»، ورشح للجولدن جلوب، واستخدم المخرج لوحات الصلصال فى التعبير عن المجازر التى تعرض لها الكمبوديون على يد النظام الماركسى، وفى نفس الوقت إعادة لبناء السينما الكمبودية التى تم تدميرها على الفاشية.

الفيلم السويدى الايرانى «ثورتى المسروقة»، تعرض لسيناريو سرقة الثورة، وكيف خان الإسلاميون رفقاء الثورة وسجنوهم وقتلوهم، كيف طالبوا بالديمقراطية فى 1979، ثم عاد كبيرهم «الخمينى» ليقول : لا تستخدموا مصطلح الديمقراطية لأنه مفهوم غربى.

كيف طالبوا بالحرية والجامعات تم إغلاقها فى عام 1980، كيف فصل نظام الخمينى آلاف المدرسين والضباط وكفروا آلافًا أخرى.

إن السينما الإيرانية فى المهجر مازالت تحمل بريقا مختلفا، لأنها حرة وتعبر عن مجتمع يعانى من الديكتاتورية والقهر باسم الدين، ففى الفيلم الإيرانى «القطط الفارسية» الذى عرض ضمن برنامج «نظرة ما» للمخرج بهمن قبادى فى مهرجان «كان» السينمائى الدولى منذ ثلاث دورات، يتعرض لفرقة موسيقية تحاول أن تنجح داخل هذا المجتمع المتزمت، ومطاردة السلطة لكل ماهو فن، وتتاح لهم فرصة للسفر لاوروبا لعمل حفلات موسيقية هناك، ويواجهون صعوبات فى استحالة استخراج جواز السفر أو التأشيرات، لانهم سيواجهون سلسلة من الإجراءات البيروقراطية والأمنية، وتنتهى الأحداث بمطاردة الشرطة لأحدهم وموته بعد أن وقع من أعلى بناية شاهقة، وكأن الفنان مجرم فى هذا المجتمع، وتمارس السلطات الإيرانية القمع على الموسيقيين الشباب، والفرقة الموسيقية تنتمى لنوعية الـ«UNDER GROUND» التى تقيم حفلاتها على أسطح العمارات وفى الاماكن الشعبية وتغنى للحرية.

مخرج الفيلم مهمن قبادى قال فى المؤتمر الصحفى: لو عدت إلى إيران أنا متأكد انهم لن يسمحوا لى بتصوير الافلام». واضاف : أتيت مرتين أو ثلاث مرات إلى كان بسرور لكن اليوم اسأل نفسى ماذا افعل هنا؟

السيناريو كتبه «قبادى» مع صديقته روكسانا صابرى الصحفية الإيرانية الأمريكية التى أخلى سبيلها بعدما اتهمتها طهران بالتجسس وحكمت عليها بالسجن ثمانى سنوات ثم خفض حكمها إلى سنتين مع وقف التنفيذ. وكان متوقعا حضورها إلى «مهرجان كان» إلا أنها لم تأت.

المخرج فاز قبل ذلك بجائزة الكاميرا الذهبية فى عام 2000 التى تمنح لأول عمل سينمائى عن فيلمه الأول «زمن الخيول المخمورة»، الفيلم تم تصويره فى طهران وبسرعة شديدة لأنه لم يحصل على تصريح من السلطات هناك، وتم تصوير الفيلم فى 17 يوما فقط.

بطلا الفيلم موسيقيان شابان، أشكان «اشكان كوشنجاد» ونيجار «نيجار شجاجى» دخلا السجن وما أن أفرج عنهما حتى راحا يسعيان للحصول على تأشيرة دخول إلى دول اوروبية.

ويؤدى ممثلو الفيلم أدوارهم الحقيقية فى الحياة إذ لم تخصص ميزانية ضخمة لانتاج هذا الفيلم الذى أظهر من خلاله قبادى الغليان الثقافى الكبير فى صفوف الشباب الإيرانيين غير الظاهر للعلن جراء عمليات القمع.

وخلال عملية البحث عن موسيقيين لتأليف فرقة روك يلتقى البطلان بمجموعات شبابية تعزف الموسيقى فى وسط زريبة أبقار انشأوا فيها استوديوهات بما تيسر لديهم من مال، متحايلين بذلك على الرقابة الشديدة.

ففى إيران يحظر تسجيل الاسطوانات أو تقديم حفلة موسيقية ومن يخالف ذلك يدفع ثمنا باهظا إذ تتراوح عقوبته من الجلد إلى السجن. ونتيجة هذه الرقابة الصارمة يختار العديد من الشباب الإيرانيين الانتقال إلى خارج البلاد. أحداث هذه الفيلم واقعية وليست من خيال المؤلف، والسلطات الإيرانية قتلت بالفعل أحد الموسيقيين، لأنه يغنى للحرية.

وهذا ما حدث أيضا مع المخرج الإيرانى الكبير جعفر بناهى، الذى حكم عليه بالسجن 6 سنوات بتهمة التشهير بالنظام ومشاركته فى تجمعات، كل هذا حدث لأن جعفر بناهى مؤيد للزعيم الايرانى المعارض «ميد حسين موسوى»، ولم يتجاوز فى أفلامه الحدود الأخلاقية الوهمية التى وضعها الإسلاميون، هذا الرجل منع من السفر لمهرجانى «كان» و«برلين» أكثر من مرة، وحصل على جائزة الأسد الذهبى فى مهرجان فينسيا عام 2000 عن فيلم «الدائرة»، والكاميرا الذهبية عام 1995 عن فيلم «البالونة البيضاء»، وجائزة لجنة تحكيم قسم نظرة ما فى مهرجان «كان» عام 2000 عن فيلم «الذهب القرمزى»، هذا الرجل يتشدق بأفلامه المتأسلمون، ويطاردونه بالمنع والحجب والسجن أيضا، لأنه معارض لنظام الحكم، فأين الحرية التى يتحدثون عنها ؟

كما منع أيضا فيلم «أيام خضراء» للمخرجة الشابة هانا مخملباف «22عاما» من العرض فى إيران، لأنه يتعرض للانتفاضة الخضراء التى حدثت فى إيران بعد تزوير انتخابات الرئاسة عام 2009 لصالح الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد، وللعلم هو فيلم سياسى ولا توجد به أى أزمات أخلاقية أو مشاهد عرى من وجهة نظر المتأسلمين، ووصل الفُجر بالنظام الايرانى إلى منع عرض الفيلم فى لبنان، حيث أبلغ السفير الايرانى فى لبنان «غضنفر ركن أبادى» السلطات اللبنانية أن عرض الفيلم سيعتبر هجوما على السيادة الايرانية.

والمخرجة هى ابنة المخرج الايرانى الكبير وأستاذ السينما محسن مخملباف الذى منع له 5 أفلام من العرض فى ايران لأسباب سياسية ايضا، وشقيقته المخرجة الايرانية الكبيرة سميرة مخملباف تعرضت لنفس فكرة المنع والحجب، وهناك مخرجون إيرانيون كبار تم إصدار أحكام ضدهم بالسجن منهم «محمد روسولوف» وصدرت ضده عقوبة بالحبس ست سنوات، حتى عباس كايروستامى يعانى من نفس الشىء.