د. رشا سمير تكتب : الابتذال إرادة شعب !

مقالات الرأي



الشخص المُبتذل بحسب اللغة العربية هو الشخص الذى ترك الاحتشامَ والتَّصوُّن وتدنَّى فى سلوكه ليصل إلى مرحلة الانحدار الأخلاقى.. والحياة المبتذلة هى الحياة التى تخلو من المبادئ، فتصبح مع الوقت مجرد أيام تمر بلا سمو فكرى ولا مثاليّة عقائدية.. والفكرة المبتذَلة هى حتما الفكرة التى تخدش الحياء وتكدر صفو السلم العام برؤية هابطة لا تحمل فى فحواها قيمة ولا مغزى محترماً..

هذا هو المعنى الحرفى للابتذال كما عرفه البشر.. ولكن هل يبقى الابتذال مجرد معنى على ورق أم أنه قد ينتشر أحيانا ليصبح أسلوب حياة؟!..

فى سابقة فريدة من نوعها، تدخل رئيس الوزراء إبراهيم محلب لوقف عرض فيلم «حلاوة روح» واصفا الفيلم بالابتذال والتدنى الأخلاقى والتأثير السلبى على الأجيال القادمة!.. وفجأة انقسم الشعب المصرى ما بين مؤيد ومُعارض..

تساءل المُعارضون: «هل أصبح رئيس الوزراء معنى بالرقابة على الفن؟ وهل امتدت يد الدولة إلى قمع الحريات بعد الإطاحة بدولة الإخوان؟».

وعلق المؤيدون: «قرار محترم يرفض الابتذال ويحارب التدنى الأخلاقى»..

ويبقى السؤال: هل الابتذال فقط هو ابتذال الجسد أم أنه تعرية الفكر وانحطاط العقيدة؟..

القضية الحقيقية ليست قضية فيلم يحتوى على مشاهد مُخلة لأنه كم من أفلام تم عرضها من قبل ووافقت عليها المصنفات الفنية وبها مشاهد أكثر إثارة وأكثر سخونة، لكنها مرت دون مشاكل وشاهدها الشباب بلا تذمر من الحكومة ولا اعتراض من منظمات حقوق المرأة والطفل!.. القضية هى قضية فساد أخلاقى مارسه رئيس الرقابة مُحابيا للسبكى الذى استعان به كمخرج لأفلامه من قبل!.. ولماذا إذن لا يقوم رئيس الوزراء بمنع مسلسل (قلوب) الذى تمارس بطلاته الدعارة والرذيلة والمخدرات كأسلوب حياة يومى عادى جدا بلا أى حرج!..

أنا هنا لا أؤيد فيلم حلاوة روح لأنه فيلم يتنافى مع قيمنا كمصريين، لكننى أيضا لا أؤيد وقفه لأنه قرار جاء ضد حرية الفن والإبداع الذى يجب أن يظل التصرف فيه فقط بين أيدى صانعيه.. فالفن ليست وظيفته التربية لأن التربية وظيفة الأسرة، لكن الفن وظيفته الطرح.. طرح المشكلات بشكل يحتمل الحل والعلاج.. أما الطرح الذى يقف عند الابتذال والعُرى فهو ليس فنا بل يبقى أبدا حبيسا سجون الإسفاف..

لكننى أعترض وبشدة على فيلم بلا مضمون، وأعترض على الابتذال الذى أصبح سمة كل شىء فى مصر، بل وسكن كل الملامح حتى عقول البشر..

فمن الابتذال الفنى إلى الابتذال الفكرى إلى الانحطاط الثقافى ويا قلبى لا تحزن!..

على الرغم من أننا فى عصر لم تعد للرقابة فيه أى دور قاطع لأن الانترنت أصبح مشاعا للجميع واليوتيوب قادر على السماح بعرض كل ما يتم منعه.. هنا أصبح من الحتمى أن تبقى الرقابة الحقيقية فقط للضمائر.. ودورنا هو إيقاظ الضمائر لدى أبنائنا..

الابتذال يا سادة ليس فقط هيفاء..

الابتذال أصبح أغانى (أوكا وأرتيجا) وفرقة (شارموفرز) وما تحمله تلك الأغنيات من إسفاف فى الكلمات والمحتوى.. إسفاف يقدمونه للشباب ويتلقفه المراهقون ويتغنون به غير مدركين معنى كلماته ولا ما وراء المعانى من معانى مستترة!..

إنهم يسوقون للابتذال، والكارثة أنهم يقفزون إلى قائمة الفرق الموسيقية الأكثر سماعا ويتم استضافتهم فى الكارنفالات بل والأدهى فى حفلات التخرج بالمدارس الثانوى!..

ويتطور الابتذال لتتحول أحلام بعض الشباب البائس إلى محاكاتهم فى الشكل والملبس وطريقة الغناء..

هكذا يصدرون لهم الإسفاف.. وهكذا تتصور تلك الأجيال البائسة أن هذا هو الفن!..

وينتقل الابتذال من التمثيل والغناء ليحتل الكلمة المقروءة أيضا..

فأصبحت ألمح على رفوف المكتبات كل أسبوع العشرات من العناوين الجديدة.. روايات وقصص قصيرة ودواوين شعر.. كل ما يجمعها هو العنوان المُثير والغلاف الجاذب للعين وطبعا حجم المبيعات.. وتحولت فئة لا بأس بها من الشباب من مجرد قراء إلى رهبان يمارسون طقوساً زائفة من الإبداع أو مثقفون يعيشون حالة وهمية من الثقافة!..

فالمواطن المصرى ببساطة أصبح ينتمى لفئة من اثنتين: إما أن يكون قارئا مثقفا يضع صور الكتب التى قرأها على التويتر والفيسبوك متفلسفا متصورا أنه أصبح دودة كتب بعد قراءته لمجموعة عناوين (مفرقعة) لكُتاب لم يسمع عنهم يوما!.. وإما كاتبا، قرر فى منتصف عمره أن تجربته الحياتية تستحق النشر ويكتشف أن له صديقاً يمتلك دارا للنشر تطبع عناوينها تحت السلم! والمذهل حقا أنه فى بعض الأحيان (يضرب) الكتاب ويحتل قائمة الأكثر مبيعا، بل وقد تتحول المصيبة إلى كارثة عندما يتم ترشيحه لجائزة أدبية لها وزنها لأن الكاتب له صديق حميم فى لجنة التحكيم!..

هذا هو يا سادة الابتذال بعينه.. فالابتذال أدب هابط وفكر ملوث يُتاجر بالتابو الأكثر مبيعا فى مصر وهو مثلث (الجنس والسياسة والدين)!..

ثم يضرب الابتذال فى جذور الواقع حين يصبح الإعلام المرئى والمسموع هما الوسيلة الأكثر ابتذالا فى المجتمعات التى تعانى من أمية ثقافية..

فالبرامج التليفزيونية أصبحت تبحث عن الجذب المشروع وغير المشروع من خلال ضيوف يتحدثون فى كل شىء وعن لاشىء!.. ومقدمو البرامج أصبحوا يمتهنون كل المهن ماعدا مهنة الإعلام المحترم!..

فمن اللفظ الخارج إلى الحوار المبتذل إلى الاختلاف غير الأخلاقى.. وعلى مصر السلام!

من هذا إلى ذاك بات البيت المصرى مهددا بانهيار أخلاقى حتمى حين تصور الأطفال والشباب فى البيوت أن الطريقة غير اللائقة غير المهذبة التى يتحدث بها شباب التليفزيونات الثورجية عن الجيش والحكومات، هى الطريقة المُثلى للتعبير عن الرأى!..

وأصبح التشويح باليد ولغة الاستنكار والصوت العالى هى سمة كل من يحاول توصيل رأيه وفرض وجوده!.. ولأن القدوة يا سادة تبدأ بالمثل الأعلى، فما بالنا بزمان تردت فيه القيم الحياتية فتحول الإعلام والأدب والفن إلى سلاح نقتل به الأجيال القادمة..

ولأن الشىء بالشىء يُذكر.. يجب أن أشير إلى حوار المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية حمدين صباحى، وهو الرجل الذى اعتنق الفكر الناصرى طويلا على الرغم من أن عبد الناصر رجل عسكرى وهو ضد حكم العسكر!.. الرجل الذى أصبح مُشتاقا لمنصب الرئاسة أكثر من عبده مشتاق شخصيا!.. هذا الرجل الذى كنت أحترم دوما إصراره على خوض المعركة وأحترم شعبيته والتفاف الشباب حوله.. هذا الرجل الناصرى قد دخل بحواره فى برنامج القاهرة اليوم إلى منطقة الابتذال التنافسي!.. فالسيسى لم يذكره أبدا فى أحاديثه ولا خرج يوما ليرد على اتهاماته وهجومه عليه، بل كان من الذكاء بأن بقى ساكنا مراقبا هادئا، وترك حمدين يتحدث ويصرح ويهاجم.. ويخسر أصواتاً!..

والسيد حمدين له الحق فى الانتقاد وربما الاعتراض، لكن فليسمح لى أن أقول له إنه ليس من حقه التشكيك فى نزاهة الانتخابات، ولم يكن من اللائق تصدير صورته للناس على كونه المحارب الذى تآمر عليه الجميع (حتى موظفو الشهر العقارى)!.. وليسمح لى أيضا أن أصحح له معلومة أن السيسى ليس مرشح ثورة 30 يونيه وأسأله: من إذن هو مرشح الثورة؟ فلولا السيسى يا سيدى لما كنت أنت اليوم مرشحا محتملا لرئاسة الجمهورية!.. وأهمس فى أذنه: كان الأجدى بك أن تشرح للشباب الملتف حولك معنى كلمة الإرهاب، وقيمة أن تبقى مصر فوق الجميع حتى لو تنازل الجميع عن مصالحهم الشخصية فى فترة عصيبة يجب أن يتكاتف فيها الجميع..

إن مصر فى قبضة الجيش ليست سيطرة ولا ديكتاتورية، إنه قدر حتمى.. والسيسى مرشح الضرورة بالنسبة لوطن يبحث عن طوق نجاة.

إذن فالاختلاف الرخيص ابتذال.. والفن الهابط ابتذال.. والكلمة الخارجة ابتذال..

والمجتمع الذى يتعامل مع المرأة على أنها قطعة من اللحم الرخيص.. مجتمع مبتذل..

والبشر الذين يتعاملون مع القيم على أنها تراث من الماضى.. بشر مبتذلون..

وصناع الأدب والفن الذين يتعاملون مع الفن على أنه وسيلة للكسب غير المشروع.. تُجار فكر مبتذلون..

الابتذال ليس فقط فيلما بطلته هيفاء وهبى لكنه عنوان مجتمعات أبت أن يصبح الاحترام هو عنوانها.. وويل لأمة ضل مثقفوها وفسدت نخبتها.