د. رشا سمير تكتب : أنا وأنت.. وكلمات لن تموت

مقالات الرأي



تفتح صباى من بين أنامل أشعارك.. وطالت جدائل شعرى وسط حروف أبياتك.. وبات قلبى ينبض بالعشق كلما عدت إلى دواوينك أبحث فيها عن أنيس لأيامى..

لم تكن دواوينك سوى ينبوع حنان انتهل منه العشاق الحُب.. وانتهلت منه أنا أبجديات اللغة ومفرداتها..

سيدى الشاعر الدمشقى.. اليوم فى ذكرى وفاتك، وبعد أن ألهمتنى الكلمة وعلمتنى الحرف، فكنت تلميذة نجيبة فى مدرسة أشعارك.. أتساءل.. تُرى لوكان القدر قد قدر لى لقاءك ماذا كنت سأقول لك؟ وأتساءل عن حُلم طالما راودنى، وماذا لو كان الزمان قد قدر لى مُناظرتك؟ ماذا كنت سألقى عليك؟.. ماذا لو استطعنا اليوم أن نتراشق بالكلمات.. ونتبارى بالحروف.. ونتجادل بالمعانى.. ونتعانق بالتشبيهات..

سيدى عاشق الياسمين فارس معركة الحرية، نزار قبانى.. هيا لنتبارى..

كتبت أنت عن دولة (قمعستان) فقلت:

(ما أردأ الأحوال فى دولة (قمعستان) حيث الذكور نسخة عن النساء

حيث النساء نسخة عن الذكور حيث التراب يكره البذور

وحيث كل طائر يخاف من بقية الطيور وصاحب القرار يحتاج إلى قرار

تلك هى الأحوال فى دولة (قمعستان) الله.. يا زمان)

وكتبت أنا عن دولة فسادستان فقلت:

(العصر والأوان.. فى مملكة تُدعى «فسادستان».. كانت تعيش مجموعة من الشقيان.. مُهمشين فى دنيا من النسيان.. كل أحلامهم هى قتل الطغيان.. والعمل على إعلاء البنيان.. لكن فى حروبهم ماتت كل الفرسان.. فبقى الفساد بينهم صورة للبهتان.. وفى أحد الأيام طفح الكيل بهم فقاموا بثورة على فساد كبيرهم وأطاحوا به خلف القضبان)..

وكتبت أنت عن دمشق.. وطنك ونبض قلبك، فقلت عنها:

(أنا مسكون بدمشق حتى حين لا أسكنها

أولياؤها، مدفونون فى داخلى، حاراتها تتقاطع فوق جسدى

قططها، تعشق.. وتتزوج.. وتترك أطفالها عندى..

فى دمشق، لا أستطيع أن أكون محايدا..

فكما لا حياد مع إمرأة نحبها.. فلا حياد مع مدينة أصبح ياسمينها جزءا من دورتى الدموية، وأصبح عشقى لها فضيحة معطرة تتناقلها أجهزة الإعلام..

هذه المدينة تخُضنى، تشعلنى، تضيئنى، تكتبنى، ترسمنى باللون الوردى، تزرعنى قمحا وشعرا وحروفا أبجدية، تغير تقاطيع وجهى، تحدد طول قامتى، تختار لون عينى، تؤكدنى، تقبلنى على فمى فيتغير تركيب دمى.. كل حروف أبجديتى مقتلعة حجرا حجرا من بيوت دمشق.. وأسوار بساتينها، وفسيفساء جوامعها..)

وكتبت أنا عن مصر.. عشقى ونبض قلبى.. فقلت عنها:

(لكل زمن راوى.. ولكل ثورة جنود..

ولكل حرب فرسان.. ولكل كتاب نهاية.. إلا مصر..

إلا مصر.. بقيت، حتى وإن فنت حضارات، أو ماتت رموز، أو سقطت فرسان..

أجيال سلمت أجيال.. أقلام روت لأقلام.. حكايا رسخت لحكايات.. ليال طوت أيام.. وبقيت مصر.. بقيت مصر مثل أبوالهول.. حارس أمين لحضارة فراعين حكموا بقبضة من حديد.. وملكات عشقوا بقلوب من حرير مخملى.. وبناة شيدوا مسلات وإهرامات ومعابد.. وفرسان صوروا فتوحاتهم على حوائط معابد طيبة بأسنة رماحهم..

وبقيت مصر مثل النيل.. يجرى وعلى ضفافه يغزل العشاق أثوابا من الحب، وتبره الأسمر يحمل الأمل لأرض إيزيس..

وبقيت مصر مثل أشجار النخيل.. باسقة تنظر إلى السماء، مشرأبة العنق لا يناطحها سوى السحاب ولا تضاهيها سوى الأقمار.. تمنح الدنيا من تحتها الكبرياء وهى صامتة عاشقة.. باسقة..)

وكتبت أنت سيدى عن فلسطين وأطفال الحجارة.. فقلت:

(يرمى حجرا.. أو حجرين.

يقطع أفعى إسرائيل إلى نصفين.. يمضغ لحم الدبابات،

ويأتينا.. من غير يدين..

فى لحظات.. تظهر أرض فوق الغيم.. ويولد وطن فى العينين.

فى لحظات.. تظهر حيفا.. تظهر يافا.. تأتى غزة فى أمواج البحر.

تُضئ القدس.. كمئذنة بين الشفتين..

يسقط ولد.. فى لحظات..

يولد آلاف الصبيان.. يُكسفُ قمر غزاوىٌ.. فى لحظات..

يطلع قمرٌ من بيسان.. يدخل وطن للزنزانة.. يولد وطن فى العينين)

وكتبت أنا عن فلسطين وأطفال حجارتها.. فقلت:

(إن الأرض تكاد تصرخ من كثرة ما تحمل فى جوفها من شهداء.. والورود لازالت تتفتح حمراء بلون دماء الشهداء.. فكيف لزهرة سلام أن تنبت فى أرض مشتعلة بالحرب؟.. وكيف لزهرة بيضاء أن تخرج من رحم أرض دماء شهدائها سكنت الأنهار لتسقى الحياة بلون الموت؟.. إن كل قطرة دم ذرفها الأطفال والشباب ليست إلا خطوة فى طريق طويل لتحرير الأرض.. فالإنسان بلا أرض.. إنسان بلا ماض.. بلا حاضر.. إنسان بلا مستقبل.. إنسان بلا قضية.. أى إنسان بلا حق فى الحياة..

فتحرير الأرض يساوى مئات الورود الحمراء التى ارتوت بدماء ثائرة..

وفلسطين عربية.. عربية.. مهما طال الزمان)

وكتبت عن الحب سيدى.. فقلت:

(أنا عنك ما أخبرتهم.. لكنهم لمحوك تغتسلين فى أحداقي

أنا عنك ما كلمتهم.. لكنهم قرأوك فى حبرى وفى أوراقي

للحب رائحة.. وليس بوسعها أن لا تفوح.. مزارع الدراق

أكره أن أحب مثل الناس أكره أن أكتب مثل الناس

أود لو كان فمى كنيسة وأحرفى أجراس

ذوبت فى غرامك الأقلام من أزرق.. وأحمر.. وأخضر

حتى انتهى الكلام علقت حبى لك فى أساور الحمام

ولم أكن أعرف يا حبيبتى أن الهوى يطير كالحمام)

وكتبت أنا عن الحب.. فقلت:

(تغيرت كل القوانين والتشريعات ولكن يبقى شيئا واحدا لم تستطيع يد الزمان تغييره.. إنه الحب.. فالمرأة مهما تدرجت فى المناصب ومهما علا صوتها أو صلب عودها يقبع بداخلها قلب هش قابل للكسر وقابل للحب، فهى بالرغم من كل الحرية التى حاربت من أجل الحصول عليها، لازالت تحلم برجل يسلبها حريتها ويأخذها أسيرة فى بلاط حياته، وتحلم بربان سفينة قادرا على إدارة دفة حياتها حتى وإن سلمته قلوعها راضية.. إن المرأة تمتلك قلبا هو البوصلة الوحيدة فى حياتها.. تعتمد عليه فى معرفة الطريق، إنها قد تُخطط لكل شئ إلا لوقوعها فى الحب، فهو قدر تسعى إليه حتى وإن أصبحت رئيسة جمهورية كل الدنيا، فسيبقى الحب دائما سيدها..)

وكتبت عن أمك.. أم المعتز.. فقلت:

(قهوة أمى مشهورة.. فهى تطحنها بمطحنتها النحاسية فنجانا.. فنجانا..

وتغليها على نار الفحم.. ونار الصبر.. وتعطرها بحب الهال..

وترش على وجه كل فنجان قطرتين من ماء الزهر..

لذلك تتحول شرفة منزلنا فى الصيف.. إلى محطة تستريح فيها العصافير..

وتشرب قهوتها الصباحية عندنا.. قبل أن تذهب إلى الشغل..)

وكتبت أنا عن أمى.. فقلت:

(إليك يا أمى تحية مُعطرة بماء الورد.. وأعترف لك بأنك أحطتى طفولتى بالأزهار والألوان والروائح الذكية.. حتى بت أعتقد أنك تمتلكين قسم العطور بالجنة.. كل عام وأنت أجمل نساء الأرض.. كل عام وأنت مدينتى وأقحوانتى وسمائى.. كل عام وأنا لازلت أستمع من خلال عينيك إلى صوت الفسيفاء، وأسكن بين يديك واحة من الطمأنينة، وأنسج من دفئ أحضانك ألف حُلم وألف شمس.. كل عام وأنت عنوان يسكن فى ذاكرتى، وربيع يفتح حقائبه الخضراء لترمى فيه الأشجار كل أثوابها القديمة وأرمى فيه أنا كل أحزانى الدفينة)

سيدى العاشق الدمشقى.. انتهت مناظرتنا.. ولكن أبدا لن تنتهى قصتى مع أشعارك..

رحلت أنت وسأرحل أنا وتبقى الكلمات.. وتبقى المشاعر.. ويبقى الحُب..