بوابة الفجر

عادل حمودة يكتب: أضأت شمعة فى ذكرى مجزرة الأرمن


عيد ميلاد جرح عمره 100 سنة!

■ أردوغان ومفتى تركيا يبرران إعداماً جماعياً رمياً بالرصاص والدهس بالمدرعات ودفن الأحياء ولعب الجولف برؤوس الأطفال

لو كان الصراط المستقيم خطاً هندسيا صحيحاً على الخريطة الدينية والخلقية والمثالية فإنه لم يكن صحيحا على الخريطة التركية العثمانية فقد تنكرت لشجرة التسامح الإسلامية وبددت رصيدها من الرحمة وخربت تعاليمها السمحة وشوهت قيمها السامية.

فى يوم 24 إبريل عام 1915 اعتقلت سلطات الباب العالى فى استنبول 250 وجيها أرمنيا يمثلون رءوس العائلات الثرية والقوية تمهيدا لقطع رءوسهم.. وفى اللحظة نفسها هاجمت كتائب الجيش العثمانى بيوت الأرمن لطردهم منها.. وترحيلهم قسرا خارج البلاد.. دون ماء أو غذاء أو غطاء.. وفى الطرق الوعرة إلى سوريا بدأت أولى مأساة جماعية من نوعها فى التاريخ.

إعدام جماعى رميا بالرصاص.. أو دهسا بالمدرعات.. أو دفنا فى حفر عريضة.. شنق منظم بترتيب الأهمية السياسية أو الوجاهة الاجتماعية.. استخدام الميليشيات فى الذبح بالخناجر أو تقطيع الأجساد بالفئوس.. تدريب رماية على أهداف بشرية حية.. لعب الجولف برءوس رجال وأطفال دفنت أجسادهم تحت الأرض.. اغتصاب منظم فى العراء للنساء والفتيات والغلمان.. تفريغ عقول المفكرين والمبدعين فى أطباق من كريستال ووضعها على مائدة السلطان.. ابتكارات عثمانية فى فنون الإبادة الجماعية قضت على مليون ونصف المليون من الأرمن.. وأسست لمدرسة القسوة المذهبية والعنصرية والعرقية التى تفوقت فيها ألمانيا النازية وروسيا الستالينية وكمبوديا وبوروندى والبوسنة فيما بعد.

يوم الجمعة (غدا) تمر 100 سنة على «المذبحة» أو «المجزرة» أو «المحرقة» الأرمنية.. إن الزمن لم ينس هذا الشعب الموهوب ما جرى له.. لا يزال جرحه نازفا.. وحزنه قائما.. وألمه شاخصا.. وعناده فى الحصول على حقه مستمرا.

وما يضاعف من قدرته على الوصول إلى ما يريد وجود جاليات مؤثرة منه فى غالبية دول العالم فيما يعرف بشتات الأرمن (هايجان سيبورك).. وهم النازحون الناجون الذين عاشوا فى مجتمعات أخرى مثل روسيا وفرنسا والولايات المتحدة وسوريا ولبنان ومصر وكندا وألمانيا والبرازيل أصبحوا جزءا منها وإن لم ينسوا بلادهم.. إن سكان أرمينيا اليوم لا يزيدون كثيرا على ثلاثة ملايين بينما يزيد العدد على الضعف خارجها.

وفى كل دول المهجر ترك الأرمن بصماتهم الحضارية عليها.. فهم شعب موهوب.. يجيد الابتكار.. ودعم الحياة مهما كانت المتاعب من حوله.

إن مصر على سبيل المثال تدين للأرمن بالكثير.. فقد أدخلوا إليها الحرف الصناعية.. الخراطة.. الطباعة.. الصباغة.. التصوير الفوتوغرافى والسينمائى.. وتسجيل الصوت.. مثلا.

والأهم.. أنهم قدموا لها نجوما مبدعين فى مجالات مختلفة.. صاروخان مؤسس مدرسة الكاريكاتير فى الصحافة.. فيروز ونيللى ولبلبة وميمى جمال وأنوشكا فى السينما والغناء.. أشود زوبيان فى الفن التشكيلى.. وقبل ذلك كله نوبار نوباريان باشا.. أول رئيس حكومة فى مصر.

والأرمن مسيحيون شرقيون أغلبهم أرثوذكس أقرب إلى الكنيسة المصرية.. ويفسر ذلك حماس البابا تواضروس الثانى للمشاركة فى إحياء الذكرى المئوية للمأساة.. فقد سافر على طائرة خاصة ضمن وفد يضم سياسيين وإعلاميين إلى العاصمة يريفان يوم الاثنين الماضى.. يشارك فيه.. بجانب بطريرك إثيوبيا متياس الأول.

وأرمينيا دولة جبلية بلا سواحل.. لا تزيد مساحتها على 30 ألف كيلومتر مربع.. تقع فى منطقة القوقاز.. محاصرة من تركيا غربا وجورجيا شمالا وأذربيجان شرقا وإيران جنوبا.. يعتقد أهلها أن جبل أرارات القريب منهم كان المكان الذى لجأ إليه نوح النبى للنجاة من الطوفان.

استقلت أرمينيا عن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى (1915) واستقلت عن الاتحاد السوفيتى بعد تفكيكه (1991).. وتحافظ على علاقات ودية مع جيرانها بعد حرب إقليمية مع أذربيجان قتل فيها 30 ألف شخص.. ورغم اتفاقية الأمن والتعاون بينهما ترفض أذربيجان الاعتراف بالمذبحة الأرمينية.. مثلها مثل تركيا.. ولا تزال مصر صامتة فى التعبير عن موقفها.

والحقيقة أن الأرمن نجحوا طوال قرن بأكمله فى الدفاع عن قضيتهم بشتى الوسائل بما فى ذلك اصطياد الدبوماسيين الأتراك فى شتى أنحاء العالم.. بجانب إصرارهم على نيل الاعتراف بما جرى لهم.. ونجحوا فى الأمرين: الاعتراف بدولتهم وبمأساتهم.

وكان ذروة نجاحهم يوم الأحد قبل الماضى (12 إبريل الجارى) حين أعلن بابا الفاتيكان فرنسيس الأول بعد قداس كاتدرائية القديس بطرس: «إن المجازر التى ارتكبت ابان السلطة العثمانية بحق الأرمن تعد «إبادة».

جاء الاعتراف الزلزال بحروفه وكلماته الواضحة قبل 12 يوماً على الذكرى المئوية للمذبحة.. مسجلاً لأول مرة كلمة «إبادة».. وأضاف البابا: لقد «اجتازت عائلاتنا البشرية ثلاث مآس جماعية غير مسبوقة ضربت الأولى شعبكم الأرمنى «..» إن أساقفة وكهنة ونساء ورجال ومسنين وحتى أطفال ومرضى عزلوا وقتلوا فى حملة تصفية رهيبة وجنونية.. إن إحياء ذكراهم ضرورة بل واجب.. عندما لا تكون هناك ذكرى يبقى الجرح مفتوحا.. إخفاء الشر أو إنكاره مثل ترك جرح ينزف».

وبعد ثلاثة أيام صوت البرلمان الأوروبى بأغلبية ساحقة على قرار يعترف بتعرض الأرمن إلى «إبادة جماعية».. مشيرا إلى أن المذابح التى تعرضوا لها «تعتبر الأكثر سوادا فى القرن العشرين».. داعيا تركيا إلى «عدم الاستمرار فى إنكارها».. وتحمل مسئولية ماضيها.. والمصالحة معه.. لو أرادت الانضمام إلى العائلة الأوروبية.

وغضب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان من القرار البابوى والأوروبى واحتج علنا عليهما.. وإن سبق له فى العام الماضى أن قدم « تعازى بلاده إلى أحفاد الأرمن » لكن أرمينيا رفضت تعزيته وطالبته بالندم على ما ارتكبت بلاده.

وخرج مفتى أنقرة مفاعل هزلى عن هدوئه قائلا: « إن تصريحات بابا الفاتيكان حول أحداث عام 1915 قد تكون سببا فى إعادة فتح مسجد «آيا صوفيا» من جديد للصلاة»

و«آيا صوفيا» متحف.. تعنى باللغة اليونانية «الحكمة المقدسة».. كان من قبل كاتدرائية مسيحية على مدى 900 سنة.. تحولت بعدها إلى مسجد لمدة 500 سنة.. وفى زمن علمانية كمال أتاتورك اصبح متحفا يحمل آثارا مسيحية بجانب آيات قرآنية.

غدا يحتفل جرح بعيد ميلاد الطعنات التى تلقاها.. ليس اشتهاء للألم.. ولكن.. حتى لا يتكرر.. وكل ما نملكه للترحم على الملايين التى ماتت بلا ذنب.. أن نشعل لها شمعة فى النصب التذكارى لهم.. لنؤكد من جديد أن لا أحد يفلت من جريمته ولو بعد 100 سنة.