بوابة الفجر

عصام زكريا يكتب : طعن عاشق الشيخ إمام .. أمام السفارة الأمريكية!

عصام زكريا يكتب :
عصام زكريا يكتب : طعن عاشق الشيخ إمام .. أمام السفارة الأمر

فى حوالى الساعة الثانية عشر من ظهر الخميس الماضى تلقت زوجتى مكالمة قصيرة مفزعة من زوجة الصديق الباحث الأمريكى الدكتور كريستوفر ستون. كريس، كما يناديه المقربون منه، تلقى طعنة سكين من شخص مجهول أثناء تواجده أمام السفارة الأمريكية.

بين الصدمة وإحساس بالدوار وعدم الواقعية هرولت باتجاه السفارة ومنها لمستشفى قصر العينى «الفرنساوى» حيث قامت سيارة الإسعاف بنقله. فى منطقة الطوارئ كان كريس ممددا فوق نقالة وحوله عدد من الأطباء والممرضين المصريين وبعض الأمريكيين العاملين فى السفارة من بينهم طبيب، بالإضافة إلى الزوجة المكلومة المنحنية فوق رأس زوجها.

لم أنتبه فى البداية ولكن عندما اقتربت منه ليرانى شاهدت السكين المغروس فى رقبته. كان المقبض الخشبى الرفيع يدل على أنها سكينة مطبخ عادية وليست مطواة أو سكين قتال، كانت مغروزة حتى نهايتها ولا يظهر سوى المقبض. الفزع فى الواقع له طعم مختلف عن الأفلام والقصص الخيالية. عشرات الأفكار تتلاطم فى رأسك دون أن تستطيع الإمساك بواحدة منها. قلبك يهبط ليستقر فى قاع البطن. الخوف يمتزج بالرجاء والتمنى بالنجاة.. ثم جزء من عقلك يستيقظ لتفعل شيئا أو تساعد فى عمل شىء. الوقت يصبح أكثر بطئا وثقلا، والبرود المعتاد الذى يتعامل به الأطباء، وعدم الكفاءة المزمن الذى يعانى منه الممرضون والموظفون يصيبك بالغضب والرغبة فى الصراخ فيهم. ولكن هناك أجانب وهناك مصاباً وزوجة منهارة وأنت لا تريد أن تحدث مشكلة قد تضر أكثر مما تفيد.

إجراءات الدخول ومقدم الأتعاب وصورة التأمين الصحى وتوقيع الأوراق بالأشعات المطلوبة والمناقشات بين الأطباء والاتصال ببعض الأصدقاء، وضرورة تعليق بعض المحاليل للمصاب حتى لا يصاب بالجفاف، وصراخ الممرضات والزحام بلا عمل حول المريض والاستفسارات التى لا تتوقف عن تفاصيل ماحدث، ورجال قسم شرطة قصر النيل، الذى تتبعه السفارة الأمريكية وصلوا لكتابة تقرير ومتابعة الأمر انتظارا للحصول على السكين «الحرز».

قبل دقائق من دخول غرفة العمليات تحولت القاعة الكبيرة المواجهة لغرف العمليات إلى ساحة حرب. مجموعة من الصعايدة تشاجروا مع أهل مريض آخر، ثم قام طبيب شاب بالاعتداء على ممرضة بالضرب المبرح فجاءت زميلاتها يصرخن ويهددن بالامتناع عن العمل، وأهل المريض الصعايدة تدخلوا فى المشاجرة وأقسموا بأنهم لن يسمحوا لأحد بدخول العمليات.

ضابط ورجال شرطة قسم قصر النيل رفضوا التدخل وقاموا بالانزواء بعيدا لأن المستشفى تابع لقسم السيدة زينب، وقسم السيدة زينب الذى يبعد دقائق لم يظهر منه أحد حتى هدأت المشاجرات وانفضت من نفسها.

فى استراحة الأطباء الصغيرة بالطوارئ فردوا صور الأشعة وراحوا يتناقشون فى الحالة.. أخيرا كلام علمى مطمئن وشكل الأطباء يدل على أن هناك من لا يزال يجيد عمله فى هذا البلد. مزيد من الأطباء يأتون ومزيد من المكالمات الهاتفية. الخبر بدأ ينتشر وبوابة «الأهرام» نشرت خبرا خاطئا على لسان مسئول أمنى، وطبيب كبير يتصل ويطلب من زملائه عدم إجراء العملية قبل وصوله، ومحاولات منهم لإقناعه بأن عليهم أن يبدأوا اختصارا للوقت.

ساعتان تقريبا مرتا قبل دخول غرفة العمليات. ولثلاث ساعات تقريبا ظلت السكين اللعينة مغروزة فى رقبة كريس الواعى تماما بما يدور حوله، الذى يبتسم من حين لآخر فى وجه معارفه ليخفف عنهم الصدمة، ويتكلم أحيانا مع زوجته طالبا منها الاتصال بشخص أو عمل شىء.

أخيرا يأتون لجر السرير النقال إلى غرفة العمليات ويذهبون به فى الممر الطويل المؤدى إلى غرفة العمليات وحيدا.

أعرف كريستوفر ستون منذ سبع سنوات تقريبا. تعرفت عليه أثناء وجوده فى مصر لكتابة بحث بدعم من مؤسسة «فولبرايت» عن الممثل الراحل أحمد زكى. كان يحتاج لبعض المواد التى كتبتها عن الراحل، وانتهزت الفرصة لإجراء حديث صحفى معه لصحيفة «البديل» حيث كنت أشرف على صفحة الفن.

كريس يجيد العربية أفضل مما نجيد الإنجليزية، وهو رئيس البرنامج العربى بكلية «هانتر» التابعة لجامعة «سيتى» وهو رئيس مركز الدراسات العربية التابع للجامعة الأمريكية. حصل على الدكتوراة فى اللغة العربية عام 2002 من جامعة «برنستون»، وقام بتأليف كتاب عن فيروز والأخوين رحبانى وترجم عددا كبيرا من الأعمال الأدبية العربية إلى الإنجليزية.

قضى سنوات فى اليمن وأخرى فى سوريا ودائم التردد على مصر. آخر زيارة له كانت بعد الثورة لإجراء تحقيق استقصائى عن رأى الأدباء المصريين فى «الربيع العربى». أما زيارته الحالية التى ظل يحلم بها لشهور فهى عبارة عن منحة لمدة ستة أشهر لكتابة بحث أكاديمى عن الشيخ إمام وأغانيه السياسية. كريس مولع بالشيخ إمام وأغانيه، وهو يعلم عنه أكثر من أى مصرى، وهو انتهز الفرصة ليحضر معه طفليه وزوجته الهندية للإقامة فى مصر طوال هذه الشهور، وبما أن زوجته هندية فقد دعا أيضا والديها لقضاء بعض الوقت فى مصر مع العائلة.

منذ أسابيع نظم كريس مؤتمرا بمركز البحوث الأمريكية بالقاهرة شارك فيه عدد من الباحثين المصريين والأمريكان حول ثورة يناير والثقافة والفنون، وطلب منى المشاركة بورقة عن الثورة والسينما، وطلب منى أن تكون الورقة باللغة العربية. كان حريصا على أن تكون اللغة العربية حاضرة بقوة فى المؤتمر. نحن فى بلد عربى فى النهاية، ومن العيب أن يقام مؤتمر فى هذا البلد حول شأن يخصه يتحدث فيه الحاضرون بالإنجليزية فقط!

الشاب الجاهل الذى ارتكب الجريمة لا يعرف شيئا عن هذا كله. لا يعرف أن كريستوفر ستون معاد للسياسة الأمريكية الاستعمارية، وخصم شديد للصهيونية واللوبى الإسرائيلى فى أمريكا، وأنه طالما خاض المعارك ضد حكومته وحكومة إسرائيل. لا يعلم أن بعض طلبة كريس وزملائه يرسلون له رسائل تهديد وشتم غير موقعة بسبب مواقفه المؤيدة للعرب والقضية الفلسطينية.

قبل يوم واحد من الحادث عاد كريستوفر ستون من أمريكا بعد أن ترك أسرته وأسرة زوجته فى مصر لبضعة أيام قضاها فى جامعة «جورج تاون» حيث كان يشارك بورقة بحثية فى مؤتمر عن الأديب المصرى صنع الله إبراهيم بمناسبة صدور ترجمة جديدة لروايته «تلك الرائحة».

يوم الحادث توجه للسفارة الأمريكية صباحا لإنهاء بعض الأوراق المتعلقة بإقامة زوجته «كافيتا»، التى تعتز بجنسيتها الهندية ورفضت الحصول على الجنسية الأمريكية. أمام السفارة وقف كريس للدردشة مع بعض موظفى مركز الأبحاث الأمريكية المجاور للسفارة، وكان يتحدث معهم بالعربية كعادته. اقترب منه شاب حليق اللحية والرأس، يرتدى ملابس جيدة وسأله عن جنسيته. اعتقد كريس أن الشاب يستفسر عن سبب إجادته للعربية فذكر شيئا أو اثنين عن دراسته وعمله. الشاب سأله مجددا «أنت مصرى ولا أمريكي؟» أجاب كريس «أمريكي»، وفى ثوان قام الشاب بإخراج السكين من جيبه وطعن كريس بها، ووقف مكانه متسمرا. صرخ فيه كريس «أنت عملت إيه، ضربتنى بإيه» قبل أن يشعر بالضعف والشلل. الحادث صورته كاميرات المراقبة أمام بوابة السفارة وشاهده الواقفون ورجال الأمن الذين أسرعوا بإمساك الشاب المستسلم تماما.

وفقا للخبر الأول الذى نشرته بوابة «الأهرام» بعد ساعة من الحادث «طعن شخص مجهول بمطواة شخصا أمريكى الجنسية أثناء وجوده بجوار السفارة الأمريكية بجاردن سيتى، حيث سقط على الأرض غارقا فى دمائه، إلا أن رجال الأمن المكلفين بتأمين السفارة تمكنوا من القبض على المتهم بمساعدة الأهالى أثناء محاولته الهرب، وأمر اللواء أسامة الصغير، مدير أمن القاهرة، بإحالة المتهم إلى النيابة للتحقيق.

كان العميد هانى جرجس، مأمور قسم شرطة قصر النيل قد تلقى إخطارا من الخدمات الأمنية فى محيط السفارة الأمريكية بجاردن سيتى بتمكنهم من القبض على «عاطل» قام بطعن شخص أمريكى الجنسية فى رقبته ليسقط على الأرض غارقا فى دمائه وذلك عقب خروجه من السفارة الأمريكية لإنهاء أوراق بداخلها.

ألقى القبض على المتهم وبحوزته السلاح، وجار مناقشته للوقوف على الدوافع التى أدت لارتكابه الجريمة، وأمر اللواء جمال عبد العال، مدير مباحث العاصمة، بالكشف على المتهم جنائيا وتبين أنه لايحمل أى إثبات شخصية. تم نقل المصاب إلى مستشفى قصر العينى الفرنساوى لإسعافه، وأخطرت النيابة للتحقيق».

الخبر يحتوى على أسماء الضباط الذين تم تسليم المتهم إليهم من قبل الأهالى وأمن السفارة، ولا يحتوى على اسم المجنى عليه أو الجانى.. لكن الخبر الثانى الذى تم نشره بعد ساعة من الأول يحتوى على كارثة أكبر. يقول الخبر:

«أكد مصدر أمنى رفيع المستوى بوزارة الداخلية، أن الفحص المبدئى لحادث طعن عاطل لأمريكى أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة أظهر أن دافع الجريمة، وفق اعترافات المتهم الأولية، هو مشاجرة حول أولوية الدخول إلى مبنى القنصلية الأمريكية، حيث قام المواطن الأمريكى بالدخول إلى مقر سفارته لإنهاء مصالح شخصية دون التقيد بالدور فى الدخول، مما أثار حفيظة الشاب المصرى الذى تشاجر معه، وقام بطعنه عدة طعنات أمام مبنى السفارة وحاول الهرب إلا أن الخدمات الأمنية بالمنطقة تمكنت من ضبطه».

الخبر المنسوب لمصدر أمنى كبير يحتوى على كذبتين كبيرتين. الأولى أن الخدمات الأمنية بالمنطقة هى التى ضبطت الجانى، والثانى هو أن سبب الاعتداء مشاجرة على أولوية الوقوف فى الطابور.

الخبران يدلان على طبيعة تعامل الداخلية مع انعدام الأمن، ومع الحوادث السياسية. التقليل من خطورة الأشياء والاستهانة، والسعى مع ذلك إلى تلميع أنفسهم على حساب الضحايا! وهو أسلوب لم يعد صالحا سوى للسخرية المريرة. فيما بعد أكدت الداخلية أن الجانى مختل عقليا، وواحد من الأصدقاء علق على الخبر قائلا: يبدو أن المجنون الذى ارتكب حوادث الإرهاب القديمة قد عاد لارتكاب جرائمه مجددا!

الشاب المعتدى، كما كشفت التحقيقات بعد ذلك، اسمه محمود محمد على بدر، عمره ثلاثون عاما، من محافظة كفر الشيخ وحاصل على بكالوريوس تجارة. والده المفتش السابق بوزارة التربية والتعليم قال إن ابنه كان يعالج نفسيا فى كفر الشيخ ولكنه لم يستكمل علاجه. ربما تكون محاولة لإنقاذه من حكم مشدد. الشاب، كما ذكر فى التحقيقات، يكره أمريكا وأراد بجريمته أن ينتقم من أى شخص أمريكى. المتعلم تعليما جامعيا ابن المتعلمين لم يعلمه أحد أن هناك فرقاً بين الحكومات والشعوب، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وكل نفس بما كسبت رهينة وكل إنسان يحكم عليه بأخلاقه وأفعاله. هو لم يتعلم أصلا أن يفكر ولكنه رضع حليب الكراهية والعنف كاملا وملوثا، مثل آلاف غيره من الملوثين عقليا فى عالمنا العربى. لا يعلم أنه ضحية القهر والاستعمار ولا يعلم أن كريستوفر ستون يحبه ويدافع عنه فى وجه من تسببوا فى خبله العقلى والنفسي!

لحسن الحظ، وعناية السماء، نجا كريستوفر ستون من الحادث بأعجوبة. السكين التى اخترقت العمود الفقرى لم تصب عصبا ولا شريانا ولم تتسبب فى عاهة مستديمة. بعد يومين من العملية غادر كريس المستشفى وهو يستكمل علاجه فى المنزل حاليا.

الآلام البدنية محتملة لكن أكثر ما يؤلمه هو الصدمة النفسية. هو الذى اعتاد أن يسير فى شوارع القاهرة الشعبية سعيدا آمنا يبدو أنه سيظل لفترة يتلفت حوله كلما سار فى مصر. فى المستشفى عقب الحادث كان يطلب من زوجته وأصدقائه أن يقفوا خلفه لحمايته. داهمته الهواجس بأن مرتكب الجريمة سيأتى لاستكمال فعلته فى المستشفى. الصحف الأمريكية نشرت الخبر، وأشارت إلى علاقة ستون الوثيقة بالعرب واللغة العربية. أحد المواقع اليمينية المتطرفة المعادية للإسلام لم تخف شماتتها بما حدث لكريس وراحت تهاجمه وتقول إنه نال جزاءه بالوقوف مع المسلمين والعرب. هذه الأصوات العنصرية القبيحة لا تختلف عن المتطرفين المسلمين.. ولا تدرك أنها السبب فيما حدث لكريس وليس مواقفه الإنسانية المحبة لكل البشر.

سوف يستغرق ستون وقتا ليتعافى من الصدمة، ولكنه لن يكون وقتا طويلا على أى حال. فور خروجه من غرفة الإفاقة بعد العملية كان كريس يمزح مع أصدقائه ويقول لهم «متى سنذهب لمقهى الفيشاوى؟». فى مقهى الفيشاوى سوف نسهر معا قريبا جدا، كما وعدته!