بوابة الفجر

عادل حمودة يكتب: حكايات مليارديرات فى مصر 5.. أرجوك خذ ابنتى إلى فراشك ولا تخذلنى! (قصص واقعية)

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة

أدرك صدقى أن عمره فى الوظيفة «الميرى» أصبح يقاس بالأسابيع وربما بالأيام وراح يفكر فى أفضل بديل ممكن يناسب التحولات اليسارية التى تشهدها البلاد
منح السادات رشدى صبحى ترخيص أول كازينو قمار فى القاهرة ومساحة كبيرة من المقطم لتقسيمها
اكتشف صدقى أن البنك الذى تمتلكه ابنته باعه مرقس بتوكيل منها إلى شخص مجهول يتستر وراء شركة أوف شور يصعب التوصل إليه


لم يكن يقطع الشارع وحده أو يشرب فنجانا من القهوة وحده أو يدخل فى المعطف وحده أو يرجع إلى الفندق وحده أو يقرأ قصائد الحب وحده أو يسمع ماجدة الرومى وحده.

لا بد أن تكون «ليزا» معه طوال شهر ديسمبر فى لندن.

التقى بها «كارل» فى عربة طعام قطار «يورو ستار» المسافر من محطة «جار دو نورد» فى باريس إلى محطة «فيكتوريا» فى لندن قبل أن تشرق شمس يوم أول من ديسمبر.

اعتبر ديسمبر شهر حبهما الذى لا يفترقان فيه هو و«ست الملكات» كما يصفها وكثيرا ما تمنى أن يوقف الزمن حتى لا يأتى يناير.

وكثيرا ما أقسم على «الكتاب المقدس» أن تاريخه قبلها كان تاريخا غبيا وعصره قبل أن يراها كان عصرا حجريا.

ثلاث سنوات وهما يعيشان معا لندن «الديسمبرية» بسيوف أمطارها التى تغرقهما فى ملعب من الجليد يعبثان فيها بقنابل من كرات الثلج لعلمهما يصابا بنزلة برد لينكمشا معا فى الفندق تحت لحاف الفراش متدفئين بحرارة جسديهما.

فى رابع ديسمبر لهما طلبت ليزا أن يقضياه معا أياما دافئة تحت شمس الهند فلم يتردد كارل فى الاستجابة إليها وطلب تجهيز طائرة خاصة من الطائرات التى يملكها والده «رسمى صدقى» ليقودها بنفسه إلى القاهرة ومنها إلى دبى ومن دبى إلى نيودلهى ومن نيودلهى إلى دهران، حيث ستهبط الطائرة فى أقرب مطار من «ناندا ديفى» أعلى ثانى جبل فى الهند ليستقرا هناك فى منتجع «شيربينج فإلى » عدة أيام.

الأب رسمى صدقى دون مقدمات لا تزيد عن الثرثرة ــ واحد من أشهر تجار السلاح فى العالم.

ولد فى قرية صعيدية متواضعة ولكنه خرج منها متفوقا فى «الثانوية» لتستقبله جامعة القاهرة بمنحة دراسية ومكافأة شهرية حافظ عليهما حتى حصل على شهادة عليا فى إدارة الأعمال فتحت أمامه وظيفة متميزة فى مكتب وزير التموين والتجارة الداخلية.

فى تلك الفترة من حكم جمال عبدالناصر كانت مشكلة الحكومة توفير العملة الصعبة لشراء سلع ضرورية توزع بالبطاقات هنا اقترح صدقى ألا تستورد الحكومة ما تريد من سلع فى عبوات صغيرة وإنما تستوردها دون تعبئة فى مراكب شحن خاصة على أن تعبأ فى مصر لتوفير ربع التكلفة وتخفيف الضغط على العملة الصعبة وخلق فرص عمل جديدة.

فى خطاب عام أبدى عبدالناصر إعجابه بالاقتراح، ولكن المفاجأة التى أحزنت صدقى أن الوزير نسب لنفسه الفكرة بل أكثر من ذلك أبعده عن مكتبه ونفاه فى الأرشيف ليشارك الفئران فى حفظ الملفات.

أدرك صدقى أن عمره فى الوظيفة «الميرى» أصبح يقاس بالأسابيع وربما بالأيام وراح يفكر فى أفضل بديل ممكن يناسب التحولات اليسارية التى تشهدها البلاد.

فى قداس عيد «القيامة» التالى لتقديم استقالته من «الحكومة»، دعا ثلاثة من أصحابه كانوا إلى جواره إلى عشاء من الشواء بعد طول صيام فور انتهاء البابا كيرلس السادس بطريرك الأقباط من موعظته.

وما إن وصلوا إلى مطعم «أنفتريون» فى «تريوموف» مصر الجديدة حتى لحق بهم باقى الشلة من المسلمين.

سبعة أصدقاء تجمعوا من الكلية وجيرة السكن ونادى هليوبوليس على الخير والشر حتى أصبحوا سترا وغطاء على بعضهم البعض مهما حدث.

شاركوا صدقى فى إيجار الشقة المفروشة التى يسكنها وشاركهم فى نساء «آخر الليل» اللاتى آنسن إليه فلم يتقاضين منه ثمنا لدخول فراشه.

إنه بالفعل شخصية ساحرة لبقة مقنعة مبتكرة مؤثرة تسيطر على الآخرين دون أن يشعروا أو يعترضوا أو يقاوموا بل غالبا ما يكونون مبتسمين.

قبل أن يمد أحدهم يده ليصب النبيذ أمسك بالزجاجة قائلا:

ــ لتكن الفكرة قبل السكرة.

ــ السكرة تأتى بالفكرة.

ــ لن نظل طوال حياتنا عبيدا فى وظائف الحكومة علينا أن نتحرر منها قبل أن تتمكن منا.

ــ السياسة تتجه يسارا واليسار يصنفنا فى خانة البرجوازية والبرجوازية تهمة تؤدى إلى السجن الآن.

ــ سنتجنب ذلك كله ونؤسس معا شركة سياحة.

ــ لم السياحة؟ ألن تؤمم أيضا؟

ــ شركة السياحة تكسب فى صمت وتحصل على عمولات من شركات الطيران وشركات النقل وبازارات الانتيكات وغيرها من الأماكن التى نذهب بالسياح إليها ولا أتصور أنها ستؤمم فليس فيها ما يغرى الدولة بالتهامها كما إنها لن تكلفنا أكثر من مكان نستأجره فى وسط القاهرة ومرتبات ثلاث أو أربع فتيات جميلات يتكلمن عدة لغات أجنبية بشرط ألا نأتى بهن إلى «الوكر».

الشلة تضم أبناء عائلات شهيرة بعضها شارك فى ثورة سعد زغلول ووصف بالوطنية وبعضها انحاز إلى المحتل البريطانى ووصف بالخيانة ولكن بعد قانون تحديد الملكية تشارك الجميع بلا استثناء فى صفة واحدة: «الضحية» و«الخوف من الاشتراكية».

على أنه فيما بعد سنعرف أن أبناء الجيلين الثانى والثالث من تلك الشلة سيصبحون مليارديرات يملكون مصانع ثقيلة وتوكيلات تجارية وشركات مقاولات وسيعينون وزراء وسفراء ونوابا فى مجلس الشعب وستسترد عائلاتهم ما فقدت من ثروة وسلطة من جديد أضعافا مضاعفة.

نجحت شركة السياحة بسهولة فلم يكن لها منافس تخشاه وبقدرتها على جلب الوفود من بريطانيا فى الشتاء سعت شركة «إنتر جلوبال» الإنجليزية إلى التعاون معها وافتتحا فرعا فى لندن على أطراف حى «بريكستون» الراقى وتقرر أن يديره صدقى.

فى ليلة السفر أقسمت «الشلة» على أن تظل متحابة متضامنة تساند من ضعف وتدعم من احتاج وترفع من وقع وتنتشل من غرق.

كانوا مثل خلية ماسونية.

وطوال كل ما مر من سنوات لم يحنث أحد فى يمينه بل إن القاعدة نفسها التزم بها أبناؤهم وأحفادهم فى حالة نادرة من حالات تضامن المصالح يصعب وجودها أو تكرارها.

والحقيقة أن صدقى كان الأكثر دعما للآخرين بل يمكن القول إنه كان سببا رئيسيا مباشرا فيما كونوا من ثروات ولكن إفراطه فى الكرم لم يحدث إلا بعد أن تكاثرت فى حساباته مكاسب تجارة السلاح مما يعنى أن لا أحد منهم يجرؤ على إنكار أن ما جمع من مال ملوث بدماء أبرياء ماتوا بأسلحة كسبوا من بيعها.

كان صدقى يتناول طعام العشاء مع شريكه البريطانى «آندى نيمان» فى مطعم «تمر كوفنت جاردن» عندما فوجئ به يرفض بفزع تناول «الاستاكوزا» التى طلبها «اورديفر» قبل «المين كورس» واعتذر صدقى إليه لجهله بالمحظورات التى تفرضها الديانة اليهودية على المؤمنين بها.

فى اليوم التالى سارع صدقى بشراء كتاب عن طعام الكوشير (الحلال) عند اليهود وفوجئ بأنه محرم عليهم لحم الإبل والأرانب والمأكولات البحرية التى بلا زعانف وتناول اللحم والحليب فى وجبة واحدة.

بل أكثر من ذلك تعمق صدقى فى الديانة اليهودية حتى يحافظ على شريكه البارع فى الصفقات المربحة ولولاه لعاد إلى القاهرة خائبا فاشلا مفلسا.

لم يعرف صدقى عن نيمان أكثر من أنه خليط من أب اسكتلندى وأم أوكرانية ولكنه لم يعرف أن تلك الخلطة بين الغرب الرأسمالى والشرق الشيوعى قربته من أجهزة الاستخبارات البريطانية والأمريكية حتى اطمأنت إليه.

ولمزيد من الثقة فيه طلب فحص ملف صدقى قبل أن يفاتحه فيما يتجاوز السياحة إلى ما هو أصعب وأخطر.

بعد سنتين كاملتين من البحث والتحرى جاءت الموافقة عليه.

وفى إجازة عيد الفصح التالى وجد صدقى نفسه لأول مرة فى بيت نيمان ووسط عائلته على مائدة العشاء وبفراسته التى لا تخيب أدرك أن شيئا ما بينهما سيتطور.

كانت الليلة مكتملة القمر عندما جلسا فى حديقة البيت أمام نافورة يمنع خرير مياهها تسجيل ما يقال من أحاديث وفى ذلك المشهد الرومانسى وافق صدقى على مشاركته فى تجارة السلاح:

ــ لم وافقت بسهولة دون طلب مهلة للتفكير فى هذا الأمر المرعب؟

ــ أنا أثق فيك وأثق أنك تنتمى إلى جماعة حامية تحافظ على كل من ينتمى إليها.

ــ لكنك لا بد أن تعرف شروط اللعبة.

ــ سأعرفها منك.

ــ لو قبلت اللعبة لن تنسحب منها إلا بالموت إذا رفضوا خروجك منها ولو لعبت بذيلك وفضحت صفقة ستموت ولو نلت صفقة لحسابك دون استئذان ستموت.

تعرف تلك القواعد بـ«كتالوج المقصلة».

فيما بعد شهد بنفسه أحكاما نفذتها المقصلة قطعت فيها رقاب من جنسيات مختلفة بما فيها الجنسية المصرية.

كان عماد شاكر مدير مكتب مسئول بارز فى سنوات حكم عبدالناصر وعندما اختفى سيده بعد الهزيمة هرب إلى لندن ولسابق معرفته بشبكات تجارة السلاح أتصل بواحد من أباطرتها وعرض عليه العمل معه بحكم خبرته بالحروب الأهلية الإفريقية وبعد التحريات عنه وافقوا عليه ووضعوا تحت تصرفه طائرة خاصة وميزانية مفتوجة لرشوة زعماء القبائل المتحاربة ونجح بالفعل فى عقد صفقات سريعة بعشرات الملايين نال عنها عمولات فورية سخية أتاحت له شراء شقة متميزة فى شارع «ريجنت» الشهير بشارع «الأطباء» وسيارة جاجوار وبيت صيفى فى جزر الكنارى.

كان كل شىء يمشى فى سلاسة وبساطة ولكن شيطان الطمع أغراه بمزيد من الكسب الحرام.

كان يتمدد على شاطئ «بيلا دى ديكيو» فى جزر الكنارى عندما وجد إلى جواره فتاة دنماركية لم تتجاوز العشرين من عمرها تتقرب منه وقبل أن تغرب الشمس كانت فى فراشه وبينما يرقصان التانجو فى ملهى ليلى اقترب منهما شاب إفريقى هللت عندما رأته.

استمر الثلاثة معا ثلاثة أيام يستمتعون بالشراب والسباحة والطعام وتوثقت الصلة بينهما إلى حد أن الفتاة عرضت عليه صفقة سلاح ينفذها مع صديقها الأفريقى فوافق على الفور.

نفذت الصفقة وجاء الشاب الإفريقى إلى شقته فى لندن حاملا حقيبة بها خمسة ملايين دولار نصيبه من العمولة وتركه ورحل.

فى الليل لم يستطع مشاهدة التليفزيون من الصخب الذى تحدثه موسيقى تنبعث من الشقة المجاورة وفى الوقت نفسه وجد من يطرق بابه وعندما فتح دخل الموت إليه.

وجدت الجيران جثته بعد أن فاحت رائحتها وجفت الدماء التى تفجرت منها وإلى جانبها حقيبة النقود.

يوم عرف صدقى القصة من نيمان سمع منه تعليقا لم ينسه:

ــ لم يطالبوا بماله وإنما طالبوا برقبته.

ولا ينسى صدقى قصة المقصلة مع الدكتور المصرى الشاب حازم صفى الدين.

وحيد والديه.. اثنان من أبرع أطباء القلب وأشهرهم.. وضعا كل ثروتهما فى مشروع مستشفى خاص يديرها ابنهما الذى كان الأول على دفعته.. لكن.. عشق الحياة السهلة التى جره إليها صديقه اللبنانى الرجل الثالث فى شبكة أشهر تاجر سلاح فى المنطقة العربية جعلته يترك مهنة الحياة ويحترف مهنة الموت.

استغلت الشبكة سمعة والديه وشهرتهما وعلاقاتهما بشخصيات عربية حاكمة فى جر حازم إلى عالمها الخفى المثير مستغلة حبه للنساء والشمبانيا والسيجار الكوبى واليخوت التى تقام عليها حفلات يحضرها نجوم هوليوود وسياسيون من الغرب والشرق ودون مجهود يذكر بدأ عمله معهم.

والمثير للدهشة أنه نجح نجاحا سريعا مذهلا آثار دهشة الشبكة ولكنه فى الوقت نفسه أثار غيرة صديقه اللبنانى الذى أغراه بصفقة منفردة لحسابه الخاص بعيدا عن الشبكة ووقع حازم فى الفخ.

تلقى دعوة لقضاء يوم فى مزرعة إسبانية على أطراف مدريد وقاد سيارته الرياضية المفتوحة السقف وقبل أن يدخل المزرعة هوت على رقبته البوابة الحديدية المدببة فقطعت رقبته فى ثانية.

سيطر الحزن على والديه وكفا عن استقبال المرضى وماتا دون أن يكملا بناء المستشفى التى أصبحت خرابة للفئران.

تعلم صدقى مما سمع من حكايات ومما شاهد من اغتيالات أن يحافظ على حياته بأن يعتبر دستور الشبكة كتابا مقدسا يمشى على صراطه المستقيم.

ذات يوم تلقى دعوة من السفير المصرى على عشاء فى الاحتفال بذكرى ثورة يوليو وهناك لاحظ اهتمام السفير بشاب فى الثلاثين يثير المرح فى الدوائر التى يقف فيها سأل صدقى:

ــ معالى السفير من هذا الشاب الرشيق الأنيق خفيف الظل؟

ــ إنه شاب عبقرى فى برمجة الحواسب ربما الأول فى مصر.

ــ لكنك تهتم به حتى يكاد يكون المدعو الوحيد.

ــ هو محمود نصار زوج ابنة مسئول كبير فى مصر مقرب من الرئيس.

لم يتردد صدقى فى دعوة نصار إلى العشاء فى قصره الريفى خارج لندن بنحو ساعة بالسيارة وقبل أن تنتهى زجاجة النبيذ الأولى من بورجوندى حتى عرف كل منهما أنه فى حاجة إلى الآخر.

أصبح نصار تلميذه النجيب الذى تشرب منه «الصنعة» وفى الوقت نفسه فتحت خبرته بالإنترنت ــ الذى كان لا يزال مقصورا على الحكومات والشركات والشبكات والجامعات ــ مجالا آمنا لعقد صفقات السلاح عن بعد دون مخاطر وفى أسابيع قليلة أصبح التلميذ كتفا بكتف مع الأستاذ.

وبحكم ما بينهما من ثقة سأله صدقى:

ــ لم لا تأتى زوجتك معك إلى لندن؟

ــ إنها «خميرة» نكد مغرورة تتصورنا جميعا عبيدا عندها وتحتمى فى سلطة أبيها وقربه من الرئيس.

ــ لكنك تبدو زاهدا فى النساء حتى هنا.

ــ الثروة أجمل شهوة.

شهور قليلة مرت على هذا الحوار العاجل بعد أن تلقيا الخبر الذى هز الدنيا كلها.. توفى عبدالناصر قبل أن يكمل عامه الثالث والخمسين.. لم يصدقا ما سمع إلا بعد أن أكده بيان نائبه أنور السادات.. سأل صدقى:

ــ هل سيقدر شخص ضعيف مثل السادات على أن يملأ مكان عبدالناصر ومن حوله وحوش فى السلطة لا يحبونه ولا يخشونه؟.

ــ السادات «ميه تحت تبن» نجح فى البقاء طوال ١٨ سنة حتى أصبح نائبا وبدهاء الفلاح المصرى سيقضى على منافسيه.

ــ هل نراهن عليه؟.

ــ قطعا.

عرف صدقى أن منافسه فى تجارة السلاح رشدى صبحى سارع بإرسال عدة سيارات مرسيدس حديثة إلى السادات لتليق به فما كان منه إلا أن أرسل إلى السادات سيارات مرسيدس أحدث والأهم أنها محصنة ضد الرصاص، كما أنهما ضمنا الحكومة المصرية فى صفقة قمح لم تكن قادرة على سداد ثمنها.

منح السادات رشدى صبحى ترخيص أول كازينو قمار فى القاهرة ومساحة كبيرة من المقطم لتقسيمها إلى أرض مبان.

أما صدقى الراغب فى الابتعاد عن العيون فوجد من الأفضل أن تكون الأراضى التى سيخصصها إليه السادات على البحر الأحمر وفى الساحل الشمالى حيث مستقبل السياحة فى مصر.

فى الوقت نفسه تصور نصار أن حماه أصبح ضعيفا لا حول له ولا قوة بعد تقاعده فأرسل ورقة طلاق إلى زوجته إلا أن الرجل لجأ إلى السادات متهما زوج ابنته بالتآمر عليه وقبل القبض عليه هرب نصار إلى عمان ومنها عاد إلى لندن، حيث تدخل صدقى لدى السادات للعفو عنه ونجح فى مسعاه بل أكثر من ذلك تلقى منه باقة من الزهور الاستوائية النادرة بمناسبة زفاف ابنته مارى.

لم يكن صدقى راضيا عن زواجها من مريد مرقس الذى نجح فى إغوائها.. شاب ثقيل الظل.. متكلف.. لا أحد يعرف أصله من فصله.. مجرد موظف خلفى فى بنك باركليز.. كل ما يميزه أنه ابن قس فى كنيسة سانت مارك القبطية فى لندن.

لم يستطع صدقى كسر قلب ابنته ووافق على زواجها من مرقس بل إن يوم زفافها كان حدثا اجتماعيا فى لندن وقف فيه تجار السلاح فى العالم طابورا كل منهم يحمل هدية ثمينة من الماس أو شيكا بنصف مليون دولار.

أجبرت مارى أباها على شراء بنك باسمها ليديره زوجها حتى تفخر به وسط مجتمعها فى نادى أمباسادورز نادى الارستقراطية البريطانية.

لكن مرقس لم يصن النعمة التى وهبت إليه.. بدأ فى تخريب البنك الذى يديره بتحويل أرباحه إلى شركة «أوف شور» فى فيرجين أيلاند.. وتراجعت المرات التى يدخل فيها غرفة مارى.. وبعد أقل من سنة انهارت مارى نفسيا وعجز الأطباء عن شفائها.

رفع صدقى كأس البراندى فى وجه نصار قائلا:

ــ فى صحة الرجل الذى تمنيته زوجا لابنتى؟.

ــ للضرورة أحكام.

ــ صدقنى لو وافقت مارى لن أعترض لكنها لا تكف الآن عن زيارة الكنائس والأديرة.

ــ ربما يساعدها القديسون على الشفاء.

ــ أنت من سيساعدها على الشفاء خذها فى رحلة إلى باريس وأعدها إلينا كما كانت وأن أثق فى قدرتك على ذلك.

ــ لكن.

ــ لا تتصور أن ما أطلبه منك يرضى أبا ولكن عندما نجد شفاء فى السم يجب أن نتجرعه.

كان صدقى قد رتب كل شىء من السيارة التى ستذهب بهما إلى المطار إلى السيارة التى ستعود بهما من المطار.

فى فندق فورسيزونز (جورج سانك) استسلمت مارى من أول ثانية ويوما بعد يوم بدأت تسترد طبيعتها المحبة للحياة ولكن رغم أنها جنت بمشاعر نصار ناحيتها إلا أنها لم تقبل بالزواج منه حتى لا تجهز على ما تبقى من أبيها.

طلبت مارى من مرقس الطلاق ولكنه ماطل فإذا بها تعترف بأنها زنت وأنها لم تعد الزوجة الصالحة وعليه الابتعاد عنها ولكنه رغم ذلك أصر على موقفه:

ــ أنا أعرف كل ما بينك وبين نصار.

ــ وهل قبلت كرامتك الاستمرار معى.

ــ تنازلى لى عن البنك أمنحك حريتك.

لم يوافق صدقى على الصفقة ولجأ إلى أشهر مكتب محاماة فى لندن ليتولى قضية الطلاق ولكن المشكلة أن مرقس اختفى تماما وسجلت الجوازات خروجه من مطار هيثرو إلى مطار بيف أيلاند فى فيرجين ايلاند البريطانية.

أرسل المحامون عريضة الدعوى إلى مقر إقامة مرقس فى فندق شارلوت أملى ولكنه لم يتسلمها فما إن وصلت إليه حتى كان جثة هامدة تتمدد عارية فى حمام جناحه.

اتهم صدقى بأنه وراء تصفية زوج ابنته ولكنه نجا من الاتهام بعد أن صرحت الشرطة بأن الجريمة جريمة عاطفية ويمكن أن تكون مثلية ولعلاقة صدقى القوية بكبار ضباط سكوتلانديارد شككت صحف الفضائح فى بيان الشرطة.

فى اليوم نفسه اكتشف صدقى أن البنك الذى تمتلكه ابنته باعه مرقس بتوكيل منها إلى شخص مجهول يتستر وراء شركة أوف شور يصعب التوصل إليه.

وجاء إليه نصار ليضيف إلى متاعبه المزيد:

ــ سأعود إلى القاهرة مستثمرا شريفا للثروة التى ساعدتنى على جمعها.

ــ لكن لم لا تنتظر حتى نقضى معا الكريسماس إنها مجرد أيام؟

ــ ليكن ما تأمر به لكن لم لا تعود أنت أيضا إلى القاهرة؟.

ــ تعودت على الحياة فى لندن.

ــ أعرف أنك وضعت كثيرا من أموالك فى بناء قرى سياحية فى مرسى علم والعلمين ولا بد أن تشرف عليها حتى لا ينهبك المقاولون.

ــ أطمئن فمن يتولى البناء أصدقائى القدامى الذين لن يخوننى.

ــ ربما ولكنك تعبت وتحتاج إلى التقاعد وغسل روحك قبل أموالك.

ــ إننى أتبرع سنويا بمليون دولار إلى ملاجئ الأيتام فى إفريقيا ربما يخفف ذلك من شعورى بالذنب.

ــ فكر فى العودة إلى مصر.

ــ سأفكر ولن أخذلك.

فى ذلك الوقت من السنة تزين شوارع لندن بحبال الكهرباء وتماثيل من نور تجسد رموز الميلاد (مثل النجمة والجرس والإكليل والعكازة والربطة) وتزحم المحلات التجارية (من هارودز إلى سليفريدج) براغبى شراء الهدايا من مختلف المستويات.

اشترى نصار فرشاة بيد طويلة تستخدم فى تنظيف الظهر قدمها إلى صدقى قائلا:

ــ أعرف أن لديك كل شىء ولكنى واثق أنك لا تملك هذه الفرشاة.

ــ لا تتصور كم سعدت بها.

وقدم صدقى إلى نصار شيكا بمليون دولار قائلا:

ــ النصف لك والنصف استثمار فى شركتك باسم مارى.

وقدم نصار إلى مارى جعرانا فرعونيا ليجلب لها الحظ لكنها أعادته إليه قائلة:

ــ أنت فى حاجة إليه أكثر منى أنا أريد قضاء الليلة معا بعد أن ننتهى من عشاء الكريسماس ونتصل بكارل وليزا.

جاء صوت كارل مبتهجا وهو يتلقى تهنئة الكريسماس من مارى ونصار وصدقى وهناك كانت ليزا تشده من ثيابه ليخلعها إلا أنه سأل نصار:

ــ متى ستعود إلى القاهرة؟.

ــ غدا سأكون هناك.

ــ سنمر عليك أنا وليزا لنقضى السهرة معك قبل أن نواصل الرحلة إلى لندن.

ــ سأجهز لكم مفاجآت لا أحد يتوقعها فى القاهرة.

ــ أنا أريد تناول الحمام المحشو فى المطعم المتواضع القريب من مسجد الحسين وسأجبر ليزا على تناوله وأثق أنها ستدمنه.

ــ كل رغباتك ستحقق.

ــ لم لا تدعو مارى لذلك العشاء الذى لا مثيل له؟.

ــ أقنعها أنت.

لكن كانت نية مارى السفر إلى بريفان عاصمة أرمينيا للاحتفال بالكريسماس فى ملاجئ الأيتام الأرثوذكس على أن تسافر منها إلى القاهرة لتقنع نصار بقضاء أسبوع فى شرم الشيخ.

نجحت ليزا فى خلع ملابس كارل ودخلت فى أحضانه طالبة المزيد من الدفء قبل أن يغادرا نانادا ليفى إلى دهران ليستقلا الطائرة من هناك بصحبة ملاح هندى يعرف كيف يتعامل مع طقس ديسمبر الملبد بالغيوم الكثيفة التى تحجب الجبال بقممها وبروزاتها القاتلة.

فى الصباح زارا حديقة نانادا ليفى فى أعلى جبال الهملايا حيث النباتات والزهور والحيوانات النادرة مثل الدب الأسود ونمر الثلج والأغنام الزرقاء.

بعد كأس من الخمر المحلية انطلقت السيارة بهما إلى المطار وجلسا فى قاعة كبار الزوار إلى أن انتهى الملاح الهندى أديش أجايا من تصاريح الإقلاع.

قبل أن يدير كارل محركات الطائرة سألته ليزا:

ــ معنى اسمك إيه؟.

ــ أديش يعنى رئيس أجايا يعنى خفى.

ــ أنت الرئيس الخفى أرجو ألا تخفينا معك.

ــ أطمئنى يا سيدتى.

لكن ليزا لم تطمئن فالسحب سميكة والأمطار غزيرة والرؤية معدومة والاتصالات اللاسلكية بالمطارات كثيرا ما تختفى.

بدأ.. ليزا تمسك بقلادة العذراء المعلقة فى رقبتها وتصلى وفى تلك اللحظة طلب برج المراقبة من كارل الاتجاه ناحية كاتماندو لوضوح الطرق الجوية هناك ولكن أجايا رفض قائلا:

ــ إن الجبال هناك خادعة تفاجئك فلا تستطيع تفاديها.

ــ لكن غرف التوجيه فى المطارات تعرف أكثر منا.

على بعد عشر كيلومترات من كاتماندوا ارتطمت الطائرة بكتلة صخرية فى منطقة تسمى تل كواندادا ولم ينج سوى أجايا ولكنه توفى فى اليوم التالى على سرير المستشفى.

لم يبك صدقى عندما سمع بخبر وفاة ابنه الوحيد.. تصخرت الدموع فى عينيه.. لم يستقبل أحدا.. لم يرد على اتصال من أحد.. حبس نفسه فى صوبة النباتات ورفع صوت أم كلثوم وهى تغنى الأطلال:

«يا فؤادى لا تسل أين أيام الهوى كان صرحا من خيال فهوى».

«يا حبيبا زرت يوما أيكه طائر الشوق أغنى المى».

«وحنينى لك يكوى أضلعى والثوان جمرات فى دمى».

المؤكد أن صدقى فقد الكثير من عقله وجاء إليه أصدقاؤه القدامى ليحملوه غصبا عنه إلى مصر ولكنهم فشلوا فى إعادته إلى حالته الطبيعية رغم كل ما فعلوه.

ذات صباح اختفى.

لم يترك أثرا يوصل إليه ولكن رجل بكل هذه الأهمية لم تتوقف أجهزة الأمن فى البحث عنه وبعد شهر وجدوه فى مغارة موحشة من مغارات الفيوم التى يلجأ إليها الرهبان ليتدربوا على الحياة الصعبة والخطرة قبل أن يستقروا فى أديرتهم.

كان صدقى رث الثياب مطلق اللحى جلدا على عظم يمسك بفرع شجرة صغير فى يده يهش بها عن أغنام لا وجود لها وهو يردد:

«أنا الراعى الصالح».