بوابة الفجر

أحمد ياسر يكتب: تسونامي العقوبات في نقطة التشعب

أحمد ياسر
أحمد ياسر

أدت الأزمة السياسية العميقة في العلاقات التي ظهرت بين روسيا والغرب بعد فبراير 2022، إلى تغييرات واسعة النطاق في تطبيق العقوبات الاقتصادية، وكانت هناك زيادة كبيرة في سرعة وتركيز ونطاق تطبيق العقوبات على بلد واحد.

للوهلة الأولى، فإن سياسة العقوبات هي "مسألة ضيقة"، التدابير المالية والتجارية والنقل وغيرها من التدابير التقييدية ليست سوى واحدة من أدوات القوى الكبرى؛ لتحقيق أهدافها السياسية، ومع ذلك، فإن تحويل العقوبات، كأداة يوفر فكرة عن تغييرات أوسع نطاقا في الاقتصاد الحديث تحت تأثير المخاطر السياسية.
"تسونامي العقوبات" ضد روسيا هو علامة على نقطة الانقسام، إن تمريره إما سيطلق إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، أو بالتناوب، وسيحافظ على الهيمنة الأمريكية في الاقتصاد العالمي والتمويل.

بعد نهاية الحرب الباردة، تمكنت الولايات المتحدة من تعزيز دورها كقائد بلا منازع في التمويل العالمي، ولا يزال الدولار الأمريكي هو الوسيلة الأكثر شيوعًا لإجراء المدفوعات الدولية، والمؤسسات المالية الأمريكية هي مراكز المعاملات المالية العالمية، كان أحد الآثار الجانبية لهذه القيادة هو قدرة السلطات الأمريكية على تتبع الروابط المالية حول العالم.
و منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على خلفية الحرب ضد الإرهاب الدولي، عززت واشنطن باستمرار قدرتها على السيطرة على المعاملات المالية، ووقفها عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، وهكذا، انتشر حظر العقوبات المالية وتجميد أصول الأفراد الأجانب.

كانت هناك أداة مماثلة من قبل؛ لكن قيادة الولايات المتحدة في التمويل العالمي عززت فعاليتها بشكل كبير، إلى جانب الإرهابيين، يتم إدراج أشخاص آخرين بشكل متزايد في قوائم الأشخاص المحظورين.

قلة من الناس شككوا في جدوى منع المجرمين الدوليين أو تجار المخدرات أو مصنعي أسلحة الدمار الشامل، لكن قائمة الأفراد المحظورين بدأت تتجدد على نطاق واسع لأسباب أكثر إثارة للجدل، وتم استخدام حظر العقوبات بشكل متزايد لردع الدول المعادية. 

وبالنظر إلى عولمة التمويل العالمي والقيادة الأمريكية، أصبحت عقوبات الحظر التي تفرضها واشنطن بمثابة حذف من المعاملات الدولية المعتادة، وثبت أن العقوبات المستهدفة أو "الذكية" ضد الأفراد أو الشركات ضارة للغاية.

على سبيل المثال، قد يؤدي إعاقة الشركات الأساسية لبلد مستهدف معين إلى خسائر فادحة، كما حدث في حالة العقوبات المفروضة على قطاعي النفط والذهب في فنزويلا، أو على صناعة النفط في إيران، كما تم الجمع بين حظر العقوبات المالية وأدوات العقوبات الأكثر شيوعًا، بما في ذلك حظر التصدير أو الاستيراد.

موسكو تحتاج إلي المناورات علي الصعيد المالي

ويبدو أن النمو الاقتصادي السريع للصين والاتحاد الأوروبي كان يجب أن يتدخل في القيادة الأمريكية ويقلل من شدة العقوبات، ومع ذلك، فقد تبين أن حجم اقتصاد معين لا يتناسب مع إمكانيات استخدامه لأغراض سياسية.
ولم يتمكن الاتحاد الأوروبي ولا الصين حتى الآن من اللحاق بالولايات المتحدة من حيث نطاق تطبيق الإجراءات التقييدية.... حتى الآن، تمكنت الولايات المتحدة فقط من إنشاء آلة عقوبات تعمل على مستوى العالم، بما في ذلك تطبيق عقوبات (ثانوية) تتجاوز الحدود الإقليمية وتفسير واسع النطاق للولاية القضائية الأمريكية.
على سبيل المثال، تطبق السلطات الأمريكية عقوبات مالية وحتى مقاضاة جنائية على المعاملات بالدولار مع الأشخاص الخاضعين للعقوبات، حتى ضد الأفراد والمنظمات الأجنبية.

على مدى السنوات الـ 12 الماضية، دفعت المؤسسات المالية في الاتحاد الأوروبي أكثر من 5 مليارات دولار كغرامات للجهة التنظيمية الأمريكية لانتهاكها العقوبات الأمريكية، ويقوم الاتحاد الأوروبي نفسه ببناء قدراته الخاصة بالعقوبات من خلال الاستخدام الفعال للعقوبات المالية.... كانت المملكة المتحدة نشطة للغاية أيضًا منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، غالبًا "ما تفرض بريطانيا عقوبات كجزء من التحالف"، وتعكس الاقتصادات الغربية الأخرى التدابير التي تتخذها المملكة المتحدة - سويسرا واليابان وأستراليا...

أصبحت روسيا هدفًا رئيسيًا للعقوبات في عام 2014، ومع ذلك، حتى عام 2022، كان حجمها متواضعًا نسبيًا، سجل تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2019 أن العقوبات أبطأت نمو الاقتصاد الروسي بنسبة 0.2٪ فقط سنويًا، ودورها لا يضاهى مع أسعار النفط والسياسة التنظيمية للسلطات الروسية نفسها. 
وتغير الوضع بشكل كبير بعد بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، خلال الأشهر الماضية، واستخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها جميع العقوبات الممكنة تقريبًا ضد روسيا، وتضررت البنوك والمؤسسات الصناعية الكبرى من جراء الحظر المفروض على العقوبات، وجُمدت الاحتياطيات المالية الروسية وممتلكات المواطنين الروس التي تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات.

وتم حظر توفير مجموعة واسعة من السلع والخدمات لروسيا، بما في ذلك الإلكترونيات والمعدات الصناعية، وتم فرض حظر على استيراد النفط والمنتجات النفطية الروسية، وفرضت قيود على نقلها إلى دول ثالثة، وتؤثر العقوبات على الفحم والذهب ومنتجات المعادن الحديدية الروسية وأكثر من ذلك بكثير، بما في ذلك قيود النقل.
ورفض عدد كبير من الدول غير الغربية تنفيذ العقوبات المفروضة على الاتحاد الروسي، ومع ذلك، تخشى الشركات في العديد من هذه البلدان انتهاك العقوبات الأمريكية خوفًا من المقاضاة الإدارية أو الجنائية من قبل السلطات الأمريكية، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك التعليق الجماعي من جانب البنوك في البلدان الصديقة للتعاون مع نظام الدفع "مير" الروسي.

وعلى الرغم من الأضرار الهائلة التي سببتها العقوبات، أظهر الاقتصاد الروسي عتبة عالية من الاستقرار، تمكنت السلطات من الحفاظ على الاستقرار المالي، ويتم إعادة توجيه عمليات تسليم الصادرات إلى الأسواق الآسيوية، ويتم استبدال الواردات الحرجة ببدائل من البلدان الصديقة، وتعمل الشركات الروسية بنشاط على استكشاف مجالات الشركات الغربية التي غادرت البلاد،  ولم تتم العملية بسلاسة في كل مكان، وليس من الممكن دائمًا استبدال الأصول التي يتم التخلص منها بمثيلاتها المناسبة، ومع ذلك، فإن نظام الحياة الخاضع للعقوبات يتم بناؤه باستمرار ولديه فرصة حقيقية للاستقرار.

سيكون من المهم للغاية بالنسبة لروسيا ترتيب المدفوعات بعملات بديلة للدولار واليورو، وأصبح اليوان الصيني الخيار الأكثر رواجًا.... والسبب الرئيسي هو حجم السوق الصيني والكثافة العالية للتجارة الروسية الصينية، بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الصين نفسها هدفًا متزايدًا للعقوبات الأمريكية. 
وفي السنوات الأخيرة، سعت بكين بقوة إلى تحقيق الاستقلال التكنولوجي عن الدول الأجنبية، إن العقوبات المفروضة على كبرى شركات الاتصالات السلكية واللاسلكية الصينية تغذي فقط جهود الصين، وسيكون إنشاء قنوات للعلاقات المالية والتجارية مع روسيا بشكل مستقل عن اللاعبين الأجانب أول سابقة رئيسية لآلية بديلة للعلاقات الاقتصادية بين قوتين رئيسيتين.
وعلاوة على ذلك، فإن حجم السوق الروسية أصغر بكثير.... نفس المنطق ينطبق على الشركاء الروس في الهند والعديد من الدول الصديقة الأخرى، سيستغرق بناء روابط جديدة وقتًا وجهدًا كبيرًا.

إن نجاح هذه الجهود ليس مضمونًا، رغم أن روسيا في ظل الظروف الحالية ليس لديها خيار سوى إعادة هيكلة جذرية لآليات علاقاتها المالية والتجارية مع الدول الأجنبية... بالمعنى الدقيق للكلمة، فإن قدرة روسيا وشركائها على تحقيق مثل هذه النتيجة ستكشف عن التصدعات الموجودة في النظام الحالي للقيادة الأمريكية. 
وستكون النتيجة السلبية من نقطة الانقسام هذه تهميش روسيا في التمويل والتجارة العالمية إلى مستوى كوريا الديمقراطية أو إيران، بينما يحافظ اللاعبون الكبار غير الغربيين، حتى أقرب حلفاء روسيا، على اندماج وثيق في النظام المتمركز حول الولايات المتحدة.
و قد تكون النتيجة الإيجابية هي إعادة هيكلة التمويل العالمي، الأمر الذي من شأنه أن يفسح المجال لتشكيل مركز بديل مثل الصين أو العديد من هذه المحاور... مثل هذا السيناريو من شأنه أن يمنح موسكو مجالًا أوسع للمناورة ويعزز تنوع علاقاتها الاقتصادية الخارجية.