طارق الشناوى يكتب: "ماكبث".. ولماذا هتف النقاد "راؤول.. راؤول"؟

الفجر الفني

بوابة الفجر


تكرر كثيرًا اسم راؤول، الناقد السينمائى الفرنسى، الذى صار يتردد اسمه فى قاعتَى العرض الرئيسيَّتَين المتخصصتَين للصحافة، «لوميير» و«دى بى سى»، طوال السنوات الماضية، فأصبح أقرب إلى كلمة سر، يبدو لى وكأنه تعبير عن الغضب بسبب تردّى حال أفلام المهرجان هذه الدورة، بمجرد أن تُطفأ الأنوار فى العرض الصحفى تستمع إلى كُثر يرددون تباعًا: راؤول راؤول، وحكى لى الراحل الكاتب والناقد الكبير، رفيق الصبان، قبل بضع سنوات حكاية راؤول، فلقد تعوَّد عند بداية حضوره بالمهرجان فى ستينيات القرن الماضى وقبل أن يبدأ العرض أن يعلو صوته باسمه على سبيل الدعابة، وبعد رحيله قرر النقاد الفرنسيون من تلاميذه وأصدقائه فى ما بينهم كأسلوب لتخليد اسمه أن يذكروه كلما حانت الفرصة، أى عندما تُطفأ أنوار صالة العرض، ولكن هذه المرة شعرت من فرط التكرار أن الاسم صار مرادفًا للاحتجاج.

جاءت نهاية مهرجان كان فى هذه الدورة بالفيلم البريطانى المأخوذ عن رائعة شكسبير «ماكبث»، للمخرج جاستين كارزيل، ليتجدَّد طرح السؤال عن العديد من الأعمال الأدبية التى شاهدناها فى أفلام روائية فى هذه الدورة من عمر المهرجان، فهل يعنى ذلك أن الأدب سيعود مجددًا ليسيطر على الموقف؟ هذا العام كانت لدينا أفلام «ماد ماكس» و«الأسفلت» و«قصة حب وظلام» و«بحر الأشجار» و«شباب» و«الأمير الصغير»، وأخيرًا «ماكبث»، مأخوذة عن أعمال أدبية. لا أتصور أن الأمر يحمل دلالة قاطعة على عودة حثيثة للأدب ولا هو بمثابة صلح مع الرواية أو المسرحية، فلم يكن هناك خصام حتى يُعقد صُلح.

المؤكد أن الأدب لا يمكن أن يختفى من السينما، فهو أحد المصادر الرئيسية للفيلم، فى أحيان كثيرة يصبح هو البنية التحتية والعمود الفقرى للشريط السينمائى، إلا أن هذا فى كل الأحوال لا يعنى بالقطع أنه الطريق الصحيح لصناعة الفيلم، فلا يمكن أن نتصوَّر أن الوصفة السحرية لسينما صحيحة هى الأدب. البعض على سبيل الاستسهال يعلن نعم أن السينما تضمن الحياة عندما يصبح الأدب هو المرجعية. الأدباء الكبار كثيرًا ما نهلت السينما من أدبهم.. ولا تزال تحقّق أفلامهم عادة القدر الأكبر من الإقبال الجماهيرى.. وسوف نجد مثلًا فى السينما المصرية أن كلًّا من إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ، هما صاحبا الرصيد الأكبر، إذ قدمت السينما لكلٍّ منهما ما يقترب من 50 عملًا روائيًّا، ولا تزال بعد رحيلهما تستقى من أدبهما لتطعم به الشاشة الفضية، مع ملاحظة أن السينما فى البدايات كانت محملة أكثر بمشاعر روائية.

لو أحصينا الأفلام التى دخلت تاريخنا المصرى، لوجدنا قسطًا وافرًا منها مأخوذًا عن أعمال أدبية.. أقول قسطًا وافرًا وليس القسط الأكبر.. وسوف أضرب لكم مثلًا عمليًّا بالأرقام.. أهم عشرة أفلام فى تاريخ السينما المصرية طبقًا للاستفتاء الذى أشرف عليه الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة، باعتباره رئيسًا لمهرجان القاهرة الدولى السينمائى، وذلك عام 1996، وشارك فيه مئة من النقاد والفنانين والفنيين، أسفر عن «العزيمة»، و«الأرض»، و«المومياء»، و«باب الحديد»، و«الحرام»، و«شباب امرأة»، و«بداية ونهاية»، و«سواق الأوتوبيس»، و«غزل البنات»، و«الفتوة».. الأفلام المأخوذة عن روايات أدبية هى «الأرض»، عبد الرحمن الشرقاوى، و«الحرام»، يوسف إدريس، و«بداية ونهاية»، نجيب محفوظ.. أى أن النسبة لم تتجاوز 30%!

يجب أن نفرّق بين القصة السينمائية والقصة الروائية، «شباب امرأة» مثلًا هى قصة سينمائية صاغها أمين يوسف غراب، وليست رواية.. «سواق الأوتوبيس» شارك فى كتابة القصة السينمائية كل من محمد خان وبشير الديك.. «الفتوة» قصة سينمائية صاغها محمود صبحى وفريد شوقى، وشارك فى كتابة السيناريو نجيب محفوظ!

يظل المعيار هو قدرة المخرج على أن يمنح القصة الإحساس السينمائى.. الفن السينمائى مرتبط دائمًا بتعبير الفن السابع، لأنه يجمع فى داخله الفنون الأخرى.. القصة، والمسرحية، والموسيقى، والشعر، والرسم، والعمارة.. ليس تجميعًا لها بقدر ما هو تفاعل بين تلك العناصر.. فتذوب المكونات الأساسية لكل مادة، لنجد أنفسنا بصدد نتاج مختلف.. السينما منذ نشأتها عام 1895 وهى تبحث عن السينما الخالصة.. نعم، بدت السينما فى وقت ما مجرد حكاية أو قصة تروى على الشاشة مثلما نقرؤها فى كتاب. خضعت السينما فى البدايات فى العالم كله لقالب أقرب إلى الحدوتة أو الحكاية.

من الممكن مثلًا أن نضع نموذج فيلم «الكيت كات» عن قصة «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، وهو أنجح فيلم جماهيرى للمخرج داوود عبد السيد، وأيضًا لبطل الفيلم محمود عبد العزيز، وواحد من أهم ما قدّمته السينما المصرية عبر مشوارها، واحتل الفيلم المركز الثامن كأفضل فيلم عربى فى الاستفتاء الذى أجراه مهرجان دبى عام 2013.

وحصد أيضًا العديد من الجوائز الذهبية، سواء فى مهرجانات دمشق وبينالى السينما العربية بباريس وقرطاج وغيرها.. لو أن «مالك الحزين» استحوذ عليها مخرج آخر ربما كنا سنجد أنفسنا بصدد تحفة اسمها مغامرات «الشيخ حسنى» النسائية، أو «حسنى بوند»، داوود افترس النص الأدبى ولم يلتزم حرفيًّا به، وقدَّم من خلاله روح السينما وليس صدى للرواية.

نعم، الأدب يدعم السينما ويمنحنا أفلامًا تدخل فى نسيج حياتنا وليس فقط فى تاريخ السينما، فهل ينسى أحد «دعاء الكروان» لهنرى بركات، الذى استمتعنا فيه ليس فقط بقصة طه حسين، ولكن أيضًا بصوته فى دور الراوى.. إلا أن رائعة «دعاء الكروان» لو ذهبت إلى يد مخرج آخر، فمن الممكن أن نجد أنفسنا نشاهد تحفة «دلّعنى يا زغلول»!

كثيرًا ما نلاحظ تبادل النيران بين الكاتب الروائى والمخرج السينمائى، كل منهما يؤكد أنه يدافع عن حقوقه وأرضه، ومنذ بدايات السينما ونحن نقرأ سيلًا من هذه الاتهامات، بدأت عندما كتب الكاتب الكبير أحمد الصاوى محمد، فى أربعينيات القرن الماضى، نقدًا لاذعًا لفيلم «رصاصة فى القلب» لتوفيق الحكيم، إخراج محمد كريم، وبطولة محمد عبد الوهاب، حيث كان عنوان المقال «رصاصة فى قلب توفيق الحكيم»، ولم يتوقف حتى الآن بين الطرفين تبادل إطلاق النيران. ورغم ذلك لو سألتنى عن أروع الأعمال فى مهرجان كان لقلت لك الفيلم الإيطالى «شباب» المأخوذ عن عمل روائى بنفس الاسم، بينما الكاتب الأول فى العالم وسيد الكلمة والذى قدّمت له السينما مسرحيته «ماكبث» بعشرات من المعالجات الدرامية والتى يعتبرها الكثيرون من نقاد الأدب هى أفضل ما قدَّمته قريحة شكسبير، ولكن جاءت لنا فى نهاية المهرجان بشريط سينمائى لا يحمل أى رؤية خاصة، لم يكن أبدًا ختامها مسكًا رغم تصدّر مشهد الختام اسم شكسبير، واستحق المهرجان بالفعل هتاف الاحتجاج راؤول راؤول!