د. أحمد يونس يكتب: المرأة التى قاومت الفاشية على طريقتها

مقالات الرأي



بالغ الأهمية هو الدور الذى لعبته فى حياتى هذه السيدة: دونيا إســمـرالدا. مثقفة هى بكل ما تعنيه الكلمة، أو- ربما أيضاًـ بأكثر مما تعنيه. كلما استيقظ داخلها الشعور بأننى أقترب من حافة اليقين المطلق فى قضيةٍ ما، طرحت أمامى سيلاً لا ينتهى من علامات الاستفهام، وهو ما شكرتهـا عليه ذات يوم: إليـك أنـت وحــدك يرجع الفضل فى أننى لا أزال حائراً. إليها يرجع الفضل فى أننى دائم التنبيش عما وراء الوراء. لم تكن تخفى اشمـئزازهـا- العـضوى تقريباً- من هذا النـمــوذج الذى يقـضى العـمر فى الوضع مُنظراً، بينما هو يأكل على حساب الغير، ولا تجشمت فى أى مناسبة عـناء المــداراة على استخفافها بالذين يتخندقون فى قاع النصوص الأيديولوجية الجامدة، ليعوضوا بها مـحدودية الخــيال أو فـقر الروح.

أبوها كان ماركـيزاً بالوراثة انحاز- ضد مصالح طبقته- إلى الجمهوريين. إنه فيكتور مانويل إيروريتا دى لا مار. تعذر على أن أنطق اسمه كاملاً بالشكل الصحيح من المرة الأولى. اشتهر عـلى امــتداد شــبـه الجزيرة الأيبيرية بمعاداة الكنيسة له؛ إلى درجة أن أحد المطــارنة اتهمه علناً بالهـرطـقـة، لمجرد أنه- على حد تعبير القــس- يخالط الأوباش من أصحاب الأفكار الشيطانية الجديدة. وعلى إثر اجتياح القوات الفاشية مدينة سان سـيباستيان، تمكن من الهرب عبر الحدود مع فرنسا فى اللحظات الأخيرة، قبل أن يأمر الكولونيل خوسيه ماريا بيلاسكو بإضرام النــار فى مكتبته. وقد مات وحيداً فى المنفى على الطرف الآخر من المحيط. الشقيق الذى يكبرها بعامين، لقى مصرعه فى الغارة التى شنتها طائرات هتلر على مصـحـة لعلاج مرضى الدرن. ذاكرتهـا الطـفولية، لا بد أن تكون مسـاحتها قد تضاعفت مائة مرة على الأقل، لتتسع إلى كـل هذا.

كنا قد تعارفنا بالصدفة، أثناء الاحتفال بصدور ألـبـوم غــنائى جــديد لمطربة أرجنتينية تدعى: فيوليتا بارال. استوقفنى إلمامهـا المـدهش بخبايا الحضارة المصرية القديمة. لديها- كما فهمـت- عـشرات المراجع المصورة عن الدير البحرى أو الكرنك أو أبوسمبل. فضلاً عن الترجمة الحرفية لأهم البرديات التى تم اكتشافها منذ شـمبليون الذى يجسد- بالنسبة لهاـ نمـوذج العالم المــفتون بسحر الشرق. أرفف المكتبة فى بيتها امتلأت بأكــداس من الأبحاث الأكاديمية التى تتناول التحنيط أو مواسم الفيضان أو الرصـد الدقـيق لحركة النجوم أو لانهــائية المجــرات. لكن أغلبها يدور حول الثورة الفكرية الأرقى التى أسـس لهـا المـلك الفـذ إخناتون. تلك- بالضبطـ هى الألفـاظ التى استخدمتها. بدا من الواضح أنها تعتبر كـتاب المـوتى هو الوثيقة الدينية الأولى التى تأثر بها كل من جاء لاحقاً.

وعلى ضفاف بحيرة كاسا دى كامبو مساء اليــوم التــالى، أجبرتنى فى النهاية على أن أتحدث عن إخناتون: أرجو ألا يكـون ما سأقوله صادماً بالنسبة لك. صدقينى أنـت آخر من أرغب فى مجادلته. غاية ما فى الأمر أن تلك هى قناعتى الشخصية التى لا أطمح إلى فرضها على أحد. بالطبع لا يخفى على أن كــل عــلماء المصريات يعتبرونه الفرعون الأكـثر تأثيراً فى تاريخ الفكر الإنسانى. بل إن أغـلب الناس- شرقاً أو غرباًـ يضعونه- تقريباً فى مصاف الأنبياء. لكن اسمحى لى بـأن أختلف قليلاً حول المحــصلة النهــائية لثورته. أعتقد أنه- فى غمرة سعيه المحموم إلى مركزية الحــكم أو التـوحــيدـ قد دق المسمـار الأول فــى نـعــش التعددية أو التنوع، ولا نزال حتى هذه اللحظة نعانى من غياب هذا المفهوم. سرحت قليلاً لا أدرى فى ماذا. ولم تعلق. أغلب الظن أنها اقتنعت، خاصة عندما تذكرت الجـنرال فرانكو.

وعلى حــيـن أخذنا نقطع الممشى الطويل نحو البوابة، تعانقت أيدينا. أصبحنا من يومها صديقين.