عادل حمودة يكتب: الرئيس يقود حملات الخضرة والنظافة بنفسه

مقالات الرأي



نبى المعجزة فى سنغافورة الذى نقلها من العالم الثالث إلى العالم الأول

■ تجاهل عبد الناصر مساعدتهم عسكريا فلجأوا إلى إسرائيل التى سلحت ودربت ومولت ونالت اعترافا رسميا

■ لدىّ نسخة مترجمة من مذكرات المنقذ «لى كوان يو» لمن يريد أن يدرس ويستوعب ويستفيد مما حدث هناك

■ من دولة طائفية متصارعة الجنسيات تعيش على الدعارة وصيد الأسماك إلى دولة تستمتع بجودة الحياة
43 ألف دولار متوسط دخل الفرد
ثالث مركز مالى عالمياً
خامس ميناء بحرى عالمياً
تاسع احتياطى نقدى فى العالم

عندما كان صبيا فى السادسة من عمره ركب عربة خشنة تجرها ثيران منهكة.. تسير على عجلات خشبية مغطاة بشرائط من الحديد السميك.. تزيد من قسوة الطرق الوعرة تحتها.. لكنه.. كان يستمتع بهذه الرحلة الصاخبة التى تنتهى بمزرعة جده.

بعد خمسين سنة ركب طائرة «الكونكورد» الأسرع من الصوت ليقطع المسافة بين لندن وباريس فى ثلاث ساعات.

ليؤكد أن التطور يبدأ بالبشر.

ما جرى للبروفيسور «لى كوان يو» جرى لبلاده.. سنغافورة.. أو سنجا بور.. أو أرض الأسود.. فقد انتقلت من دولة تعانى من كل الأوبئة البدنية والسياسية والاجتماعية إلى دولة توصف بالأكثر جودة فى الحياة.. حسب وحدة الاختبارات الاقتصادية فى مجلة «إيكونوميست» البريطانية.

وجودة الحياة تعنى التمتع بالحرية والحداثة والمساواة والرفاهية والعدالة والعقلانية وتنمية المواهب الإبداعية.

سنغافورة بلا شك معجزة يصعب تحقيقها.. ستغرى الرئيس عبد الفتاح السيسى بكشف سرها.. وربما حرضه ما قرأ عنها على زيارتها.. ليسجل السبق بين حكام مصر فى السفر إليها.. بعد نصف قرن بالضبط على استقلالها.. فى أغسطس 1965.

أكثر من مرة زرت الصين وإندونيسيا وسنغافورة.. الدول الثلاث التى رسمت خريطة الرحلة الآسيوية الأخيرة للرئيس.

فى هذه الرحلة ستحظى الصين بصور التوقيعات على مشروعات متنوعة تزيد على عشرة مليارات فى النقل والطاقة والصرف الصحى بجانب صور المشاركة فى الاحتفال بمرور سبعين سنة على التحرر من اليابان.. ومفاوضات حول استعادة مجد طريق الحرير من آسيا إلى أوروبا مروراً بستين دولة سكانها أكثر من أربعة مليارات نسمة.

وستحظى إندونيسيا أكبر الدول الإسلامية سكانا بتصريحات عن التعاون الأمنى فى مواجهة الإرهاب.. وربما درسنا تجربتها فى استيعاب التنظيمات الدينية سياسيا وبرلمانيا وحكوميا.

أما سنغافورة فلم نتوقف عندها بما يكفى للاستفادة من تجربتها وخبرتها ولو لم نوقع معها اتفاقا واحدا.. إنها قصة أخرى تستحق أن تروى.. لعلنا نجد فيها إنقاذا ومخرجا.

لقد شعرت فور هبوطى مطار تشنجى أننى فى أتيليه متجانس اللوحات.. يختلط فيه الهواء بالعطر.. وتشطب الموسيقى الناعمة كل الخشونة من قاموس ضباط الجوازات.. وربما وضعوا أمامها قطع شيكولاتة تهدئ أعصاب الهابط أرضها بعد رحلة ربما شاقة أو طويلة.. «أشياء صغيرة تحقق مكاسب كبيرة».

لقد تكلف المطار مليار ونصف المليار دولار.. وشيدت مهابطه ومبانيه وصالاته على أرض مستنقعات ومقابر نقلت رفات الموتى منها وبيوت عشوائية هدمت للمصلحة العامة.. ليصبح أكبر مطارات آسيا.. وأرقى واجهة للدولة والأمة.. وأولى خطواتها نحو الانتقال «من العالم الثالث إلى العالم الأول» حسب وصف لى كوان يو.. نبى المعجزة.. وقد استخدم هذه الجملة عنوانا لمذكراته التى قدمها هنرى كيسنجر بنفسه.. ونعتمد عليها فى تفسير ما جرى هناك.

إن هناك كتبا تعلمك كيفية تشييد بناء أو إصلاح محرك أو غزو قلب امرأة لكن هذا الكتاب يرسم خطوات بناء دولة من مهاجرين فقراء بائسين حتى تصبح وساما على صدر خرائط الجغرافيا.. ولدى نسخة مترجمة إلى العربية تقترب من الألف صفحة مستعد أن أعيرها للمسئول المتحمس لقراءتها.. وإن أضفت إليها ما شاهدته وعشته بنفسى هناك.

الطريق إلى العاصمة التى تحمل اسم الدولة أيضا يمر بساحل البحر بطول عشرين كيلومتراً وعلى الجانب الآخر تشاهد مزارع زهور وفيللات حديثة فى مشاهد تعد أفضل تعريف بالبلاد تحصل عليه من الساعة الأولى لرؤيتها.

فى قلب المدينة يصعب عليك تدخين سيجارة أو إلقاء ورقة على الأرض وإلا دفعت غرامة تعادل خمسة آلاف جنيه مصرى.. ولا تساهل فيها.. ولن تستطيع أن تشطبها برشوة.. وإلا وجدت نفسك متهما فى جريمتين.. فسنغافورة الأقل فسادا حسب تقرير منظمة الشفافية.

وبفضل هذا القانون الصارم تخلص الناس هناك من عادة البصق فى الشارع.. أو لصق بقايا اللبان فى الأماكن العامة.. مما سبب أذى صحى وبصرى.

وقد تألمت كثيرا عندما قرأت فى صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية اقتراحا من أحد كتابها بإضافة رؤية أتلال القمامة فى مصر إلى قائمة العقوبات فى القوانين الجنائية المحلية.. وخوفا على مشاعر القراء لم تنشر الصحيفة صورة تبرر بها الاقتراح.

والغريب.. أن العقوبات هناك بدنية.. الضرب بالعصا فى جرائم الاغتصاب والعنف والشغب وتدخين المخدرات وتخريب المنشآت.. والفلسفة هنا.. أن الضرب إهانة أشد قسوة من السجن.. لكن.. فى الوقت نفسه تنفذ أحكام الإعدام فى تهريب الاسلحة والمخدرات.

لا وسط.. يا الضرب يا الإعدام.. فلا مبرر لتبديد موارد الدولة فى سجون تنفق على مجرمين يجدون فيها مدرسة للتدريب على الجرائم الأخطر.

والرادع الأقوى للجريمة.. ارتفاع مستوى المعيشة.. وخفض معدل البطالة فى سنوات قليلة من 25 إلى 3%.. وزيادة نصيب الفرد من الدخل القومى إلى أكثر من 45 ألف دولار سنويا.. لكن.. كيف تحقق ذلك فى دولة كانت تتفجر بكل المتاعب التى كان يجب أن تخسف بها الأرض.. لأن تصبح دولة يحتل جواز سفرها المرتبة السادسة فى العالم بما يسمح لحامله بدخول 176 دولة بلا تأشيرة.. دولة أجبرت على أن يكون شعارها رأس أسد وجسم سمكة.

سنغافورة شبه جزيرة صغيرة فى جنوب شرق آسيا.. لا تزيد مساحتها على 740 كيلومتراً مربعاً.. لكن.. يعيش عليها ما يزيد على خمسة ملايين نسمة مسجلين كثافة عالية من الزحام.. لكن.. الأخطر أنهم متعددو الأصول.. صينيون.. ماليزيون.. وهنود.. وتسبب ذلك فى صراعات عرقية ضاعفت من أسباب التخلف.. كما أنهم متعددو الديانات.. مسلمون.. مسيحيون.. هندوس.. وملحدون.. مما ضاعف من تلك الصراعات بما يصل إلى حد المجازر الطائفية.

وامتدت التعددية المؤسفة إلى الاستعمار الذى احتلها.. اكتشفها الماليزيون.. ونقلوا إليها 120 صائد أسماك ليوفروا لهم ما يحتاجون من خيرات المحيط.. وحولها البريطانيون إلى ميناء حربى وضعوا قواتهم المسلحة على شواطئه.. مقابل 100 مليون باوند.. خشيت سنغافورة أن تفلس لو حرمت منها.. وخرجت بريطانيا لتدخل اليابان.. وخرجت اليابان لتفرض ماليزيا سيطرتها باتحاد إجبارى كانت سنغافورة تحتاجه لحمايتها.. وفى وقت ما كانت الدول الثلاث (ماليزيا واليابان وبريطانيا) تفرض سلامها الوطنى على الحكومة المحلية بجانب السلام الوطنى لسنغافورة نفسها.. حسب ما يذكر لى كوان يو.. وربما سبب ذلك شعورا بالحسرة قبل المعاناة من الصداع.

وما زاد على ذلك تدخل الولايات المتحدة لتحصل من الميناء على الخدمات اللازمة لسفنها الحربية بما فيها حاملات الطائرات.. لكنها.. لم تكتف بذلك.. وحولت البلاد إلى ماخور لجنودها.. ليس فيه سوى البارات وبيوت الدعارة.. وفى غياب الرعاية الصحية استشرت الأمراض الجنسية بشراسة أنهكت القوى البشرية وباعدت بينها وبين العمل الجاد.

وبسبب الموقع وجدت سنغافورة نفسها مهددة من دول مجاورة.. قوية.. لا يفصلها عنها سوى ممرات مائية.. دول يمكن أن تلتهمها فى دقائق.. ماليزيا.. وإندونيسيا.. مثلا.

تقريبا.. لا يوجد عنصر سلبى محبط فى كافة الاتجاهات لا تعانى منه سنغافورة.. إلى حد أن نقرأ فى مذكرات ليو كوان يو إنه: «إننى وزملائى لو كنا نعرف مدى تعقيد وصعوبة المشكلات التى كانت تكمن فى انتظارنا لما تورطنا فيما فعلنا بتلك الروح المعنوية العالية والحماس المتقد والقيم المثالية».

كانت الخطوة الأولى بناء جيش مستقل يحمى الدولة الصغيرة الضعيفة.. وقد أرسل ليو كوان يو رسالتين إلى عبد الناصر طالبا فيهما المساعدة فى بناء القوات المسلحة بما فيها إرسال مستشار للبحرية.. لكن.. اكتفى عبد الناصر برد يحمل اعترافا رسميا بسنغافورة «دولة مستقلة ذات سيادة».. مخيبا آماله.. رغم صداقتهما.. وربما كان السبب حرص مصر على عدم إغضاب ماليزيا.

وهنا وجد الإسرائيليون فرصتهم.. تسليحا وتدريبا وتمويلا.. وإن فرض ذلك سرا خشية تمرد المسلمين من الجنس الملاوى المؤيدين للعرب.

ولكن.. فيما بعد.. اعترفت سنغافورة بإسرائيل وتبادلت معها السفراء.. وربما.. أسعدها انتصارها فى حرب يونيو 1967 حتى لا تفقد الثقة فى المدربين الإسرائيليين.

وتوفيقا بين العسكريين والمدنيين أرسلت سنغافورة الضباط بعثات الأكثر تفوقا ليس إلى أكاديميات عسكرية (مثل سانت هيرست أو كلية الحرب الأمريكية) وإنما إلى جامعات مدنية (مثل أوكسفورد وكامبريدج وهارفارد) لدراسة الآداب الإنسانية والعلوم الهندسية والمهن الحرفية.. لتحقيق عدم التمييز التى تعانى منها دول تحت النمو.. وتسبب حرجا سياسيا قبل أن تفرض تقسيما مهنيا.

وآمنت تجربة سنغافورة بالبشر قبل الحجر دائما.. إن إنشاء مصنع يحتاج إلى خبرة فنية فى التعامل مع الماكينات بجانب خبرة إبداعية ترقى بذوق العمال.. ولا يكفى أن يجيد الجنود فنون القتال وإنما عليهم أيضا إجادة فنون الحياة.. مثل.. احترام العلم.. الالتزام بالقانون.. تقدير الحريات.. تمييز التخصصات.. توفير الانضباط.. الاحتذاء بالموهوبين.. والتحرر من الشعور بالقوة إلا فى مواجهة الأعداء.

إن من السهل بناء محطة تحلية أو مد جسر من الأسمنت أو تكوين جيش قوى أو فرض نظام أمنى صارم.. لكن.. ذلك كله لن يصمد طويلا ما لم يدعم بثقافة إنسانية تستوعب اللوحة والقصيدة والسيمفونية والصحيفة والرواية والنظافة والأناقة والثقافة واللياقة.. دون عناصر تنمية المواطن يظل التخلف عارا يستوطن الوطن.

المسرح قبل المصنع.. الحديقة قبل الشركة.. الابتسامة قبل البيروقراطية.. الفكرة المبتكرة أقصر طريق للثروة.

هنا توصلوا إلى فكرة الهيئة الوحيدة التى يتعامل معها المستثمر تجنبا للتشتيت الحكومى.. عرفوا أسلوب «الشباك الواحد» عام 1961 الذى لا نزال نتردد فى الأخذ به.

وآمنوا بأن «التصنيع سبيل البقاء».. وجهزوا منطقة جرونج غرب البلاد لاستقبال الشركات متعددة الجنسيات التى تنتج السيارات والغسالات وأجهزة التليفزيون والتسجيل وغيرها.. صدرت إلى الأسواق الخارجية بنصف ثمنها.

وللخبرة الشهيرة فى صناعة أدوات صيد السمك وافق ماركوس سيف على إنشاء مصنع لتلك الأدوات هناك.

حرية بنكية تجذب الودائع الخارجية.. بضمانات دولية.. بجانب مركز مالى يسهل فيه تسجيل الشركات وتداولها بحرية فى بيع الأسهم قبل شرائها.. ينافس هونج كونج بجرأة.

والاستفادة من الميناء ليكون محطة خدمات للسفن العابرة.. تجد فيها ما لاتجده فى غيرها.. صيانة وتموين وتسجيل واستشارات قانونية بجانب بناء سفن ذات حمولات مختلفة.

ويسهل القول بثقة: إن التنمية البشرية العنصر الحاسم فى التجربة السنغافورية.. تحولت الشعارات إلى حقيقة.. اختفت الطائفية الدينية.. ذابت العنصرية العرقية.. رفعت الحواجز بين الأجانب والمواطنين فتشاركا فى البلاد بنسبة تكاد تكون متساوية.

والتمييز لم يواجه بالعقاب فقط وإنما تنقية عقول الآباء قبل الأبناء.. المعلمين قبل التلاميذ.. المساجد قبل الكنائس.. وربما.. وجدت السلطة المتفتحة أنه لا مفر من عزل الكبار بكل ما فى نفوسهم من تخلف.. وفى ضمائرهم من تعصب.. وضعوهم فى مستوطنات بعيدة بها كل وسائل الترف.. فعدوى الأفكار أسوأ من عدوى الفيروسات.

ودون أهرام أو كرنك أو أثر تاريخى واحد مميز جذبت سنغافورة السياح بنظافتها ورخص سلعها المعفاة من الجمارك وحديقة الببغاوات الشهيرة.

وفى مذكرات لى كوان يو صورة (أبيض وأسود) وهو يقود بمكنسة من فروع الأشجار حملة من حملات المحافظة على بلاده نظيفة وخضراء.. المسئول يبدأ بنفسه.. تأكيدا لثقافة آسيوية سائدة.. ومسيطرة.. ودعما لتلك الثقافة تزرع سنغافورة شجرة باسم كبار زوارها وضيوفها.. أو تهجن زهرة جديدة باسمهم.. وآخرهم الرئيس عبد الفتاح السيسى.

ودون نفط أو غاز أو مناجم للمعادن حملت سنغافورة لقب المركز المالى الثالث فى العالم.. والميناء الخامس.. والاحتياطى النقدى التاسع.. والأكثر تفوقا فى تطوير التعليم بما وضعها فى الصف الأول بين دول العالم فى الرياضيات الحديثة وبرمجة الكمبيوترات، خبرات البورصات بمتوسط دخل للفرد يزيد على 43 ألف دولار سنويا.

إنها تجربة تستحق الاستيعاب.. وفرت تصورات للنمو تعتمد على القوى الناعمة.. استفادت منها دبى أكثر من غيرها.. بل.. واستعانت بمديرين تنفيذيين من هناك حققوا لها النجاح فى مشروعاتها المالية والعقارية.

تجربة تعتمد على مبدأ نتحدث عنه ولا نصدقه: البشر قبل الحجر دائما.