الحكم الشرعى فى الوقوف حدادا على أرواح الشهداء

إسلاميات

بوابة الفجر


هل يجوز الوقوف مع الصمت لمدة دقيقة مثلا حدادًا وتكريمًا لأرواح شخصيات تحظى باحترام المجتمع كالعلماء الربانيين والمناضلين من أجل الحق والشهداء والزعماء المصلحين؟

تجيب أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:

جاءت الشريعة الإسلامية صريحة في دعوتها لتكريم الإنسان واحترام آدميته حيًّا وميتًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.. [الإسراء : 70]، كما اعتنى الإسلام بترسيخ الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة وبثها في المجتمع والتشجيع عليها بشتى الوسائل المتاحة كالوعظ والتربية والثقافة والفنون المباحة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ».. [رواه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك]، فنشر الفضيلة وحمايتها غاية عظمى من غايات الشريعة الإسلامية. 

ومن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام: شكر الناس على ما قدموه من الأعمال الطيبة؛ ففي الحديث الشريف: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ».. [رواه الترمذي وأحمد]. وكذلك من أخلاق الإسلام إنزال الناس منازلهم ومعاملتهم بما هم جديرون به، وتكريم أهل الشرف والفضل والسيادة منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنزِلوا الناسَ منازلهم» [أَخرجه أبو داود، وحَسَّنه السخاوي في المقاصد الحسنة]. 

والتعبير عن الاحترام والتكريم بالقيام عند قدوم ذوي الفضل من العلماء والأشراف ونحوهم قد ورد في الشرع ما يدل على جوازه، بل صرح بعض العلماء باستحبابه، ومما استدل به جمهور أهل العلم في هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» حينما أرسل إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فجاء على حمار.

وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والإمام العادل، وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعل في حقه، لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته، والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقدًا. واستحباب هذا في حق القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك، ويرى أنه ليس بأهل لذلك. وقد أصبح هذا النوع من الترحيب في بعض الأزمنة عادة متعارفًا عليها بحيث يدل فعلها على التكرمة، وتركها على الاستهانة والاستخفاف، ولهذا بحث بعض أهل العلم وجوب التزامها حينئذ دفعًا للتباغض والتحاسد والتقاطع. 

وما تقدم ذكره يتعلق بتكريم الأحياء بالقيام احترامًا لهم، أما القيام من أجل الأموات -ولو لتوقير شأن الموت وهيبته- فقد ورد ما يدل على جواز القيام عند مرور الجنازة، وعند القبر ولو كان الميت يهوديا أو كافرًا، ففي الحديث الشريف: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» [متفق عليه]، يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [3 / 181] : "ومقتضى التعليل بقوله: «أليست نفسًا» أن ذلك يستحب لكل جنازة». 

والذي ذكرناه يدل على أصل مشروعية التعبير بهيئة الوقوف عن الاحترام والتقدير لمن يستحقه، سواء كان حيًّا أو ميتًا، لا سيما إذا جرت بذلك العادة، وأن هذا الأمر يرتبط بما تجري عليه العادات والأعراف الاجتماعية، وأنه ليس في ذلك ما يتعارض مع شريعة الإسلام، إلا إذا صاحَب الوقوف محظور، وإلا فلا يظهر مانع شرعي.

وبناء على ما سبق فإنه ليس المقصود من القيام هنا هو القيام لأجل الميت خاصة حتى يشترط حضور جثمان الميت لحظة الوقوف، بل هناك مقاصد من وراء ذلك، منها: أخذ العبرة والعظة، وتعظيم أمر الله تعالى. والوقوف دقيقة مع الصمت اتخذها الناس مظهرًا من مظاهر التكريم لهؤلاء الشهداء أو الوجهاء، وتعد وسيلة من وسائل التكريم والتشريف وأخذ العبرة والعظة، ومن المقرر شرعًا أن الوسائل لها حكم المقاصد.

وقد يتوهم بعض الناس أيضًا أن الوقوف حدادًا على أرواح أهل الفضل غير جائز؛ لما فيه من التشبه بعادات مجتمعات الغرب غير المسلمة؛ لكن يجاب عن هذا بورود أصل الوقوف تكريمًا للمتوفى في الشرع الشريف كما تقدم، كما أن هذه المجتمعات قد دخلها الإسلام وصار الكثير من أهلها مسلمين، فلم تعد تلك العادات مختصة بغير المسلمين أو من شعار الكافرين، ثم إن مجرد وقوع المشابهة في أمر مباح في نفسه -كالعادات التي لا تتعارض مع الشرع- لا تقتضي الوقوع في التشبه المنهي عنه.

وبناء على ما سبق ذكره فإنه لا مانع شرعًا من الوقوف مع الصمت لمدة دقيقة مثلا؛ حدادًا وتكريما لأرواح العلماء والشهداء وزعماء الإصلاح وغيرهم من الشخصيات التي تحظى باحترام المجتمع، وليس ذلك من البدعة المذمومة التي نهى عنها الشرع، بل عموم الوارد في السنة يبين أن لمثل هذا التصرف أصلا في الشريعة الإسلامية من استحباب الوقوف للجنازة وإكرام أهل الفضل ونحو ذلك.

والله سبحانه وتعالى أعلم