د. أحمد يونس يكتب: تعاليلى يـا بطـة بمصاحبة أوركسترا القاهرة السمفـونى

مقالات الرأي




■ شـبابيك مـطبخ بتطل عــلى المـنور. مــباراة فى الردح المتنقي. هكذا أصبح الإعلام الرياضى على الفضائيات، من خــلال بعــض كهنته أو الدخلاء عليه، أراد أن يقفز هكذا فجأة إلى حــلبـة التهــجيص الســياسى المشتعــل حالياً على جميع الجبهات. ربما بسبب أوقــات الفــراغ التى تزداد طــولاً مع الأيام. استعار من الجدل السياسى أسوأ ما فيه: البلضمة والهلضمة والكلضمة والتجرمة. النتيجة ـ كـانت كــارثـية بكل المقاييس. ما حدث بالضبط هو أن هؤلاء أعطوا الانطـباع بأنهم لا يختلفون كثيراً عن المطرب النشاز الذى يصر على أن يغـني: تعاليلى يا بطة، بمصاحبة أوركسترا القاهرة السمفـوني. المشهد الذى يبعث على الرثاء حـقاً بدا لكل مـن رآه كما لو أن واحداً من محترفى المصارعة الحرة الضخــام الجــثة قد احتل خشـبة المســرح دون ســابـق إنذار، ليشـارك البريمـادونا بطـولة باليه بحــيرة البجع. وعلى الرغم من تاريخى الطويل مع التسكع فى حــوارى العــالم، لم أسـمع أبداً عن برامج الثرثرة العقيمة التى تمتد من الظهيرة حتى مطلع الفجر. الجنس البشرى بأكمله يجنح إلى الإيجاز على مستوى الثقافة أو التعليم أو الصحـافة المقروءة والمسموعة والمرئية. القدرة على المط من الواضح أنها أصبحت مـوهـبة. لولا أن النفخ فى البالونة إلى غــير ما نهــاية لا يؤدى بها إلا إلى الطرقعة. هى ورؤوس المشاهدين.

■ ■ ■

ما أن استطاع يـون جين ـ بعد ســلسلة لا تنتهى من المعارك ـ الوحشية أن يستولى فى 221 قبل المــيلاد على كـامـل تراب شـبه القــارة الصــينية، حتى أصر الكهنة كالمعتاد على تنصيبه إلهاً. وعلى أساس أن مشيئة الآلهة لا تـرد، فلماذا لا يأمر ببناء ســور جــنونى يحيط بكامل أراضى الإمبراطورية المترامية الأطراف؟ ســور يمتد خـمسة آلاف كيلومتر، ليسـجن خلفه شعباً بأسره. إنه سور الصين العظيم الذى أصبح الآن أطلالاً يلتقط السـواح فــى ظلالها الصـور التذكارية. تحـكى المـدونات القليلة المتبقية من تلك الحقبة أن حركة البناء فى طول البلاد وعرضها توقفت تماماً حيث استحوذ السور على كـل ما تنتجه المحاجر، وأن ما يربو على مليونين من البنائين شاركوا فى العمل بنظام السخرة، أو ما أحب أن أسميه بالتطوع الإجبارى،وأن أكثر من نصف هذا العدد تهشمت عظامه تحت الصخور الضخمة التى كانت تنزلق من فـوق الرؤوس، لتسحق الأجـساد الضـامرة ـ بفعل الجوع والرعب من وحشية العقاب. ورغم هذا، فإن من المرجح أن يـكــون الإمبراطور الإله ـ بالتواطؤ مع الكهنةـ قد أدخل الـنــاس فــى حالة الهوس الدينى بأنهم من خلال التضحية بالروح إنما يطيعون الله. الغريب أن الكهنة فى الصين أيـامها كانوا من أصحاب اللحى. ومع خالص احترامى لرؤية أغــلب المؤرخين، فـإن الهدف من بناء ســور جــنونى كهذا، لا يمكن أن يكـون مـجرد الدفــاع عن حدود الدولة ضد القـوى الخارجية. فضلاً عن أن تهافت الغزاة من يومها على اجتياح الصين بلا مقاومة تقريباً يثبت أنه ـ على أحـسـن الفروض ـ كان عـديم الجدوى. الأمر يتعلق فــى الحقيقة بالنزوع المرضى داخل الطاغية ـ أياً كان موقعه من التاريخ أو الجغرافياـ إلى التعامل مع البشر باعتبارهم أسرى لديه. الحل الوحيد ليحتفظ بالسلطة إلى الأبد يكمن فى سمكرة الأبواب والنوافذ بحيث يسود الظلام. كل ما حدث هو أن السور يتغير شكله من عــصر إلى آخر. إنها حالة السعار التى تستبد بالجماعات المصابة بالهوس الدينى لكى تحبس الشعوب داخل قمــقم مغلق، لا تتسرب إليه الأفكار الهدامة، كالديمقراطية وحـقـوق الإنســان والحــد الأدنى من الكرامة والعدل. لا مستقبل لهذه البلاد، إلا إذا تعلمنا أن نواجه الظلام بالنور، وأن نهدم سور مــصر العظيم.