ماجدة خير الله تكتب: "اشتباك".. عندما يصبح المصريون معجونين داخل سيارة ترحيلات

الفجر الفني

نيللى كريم
نيللى كريم



الأحداث فى مصر تمر سريعة ومُتلاحقة، حتى إن ما كنا نعتبره أمراً جللاً بالأمس، يصبح فى اليوم التالى خبراً، فقد سخونته، ويحتاج إلى مزيد من التفاصيل والمفاجآت حتى نسترجع إهتمامنا به.


مشاركة فيلم “اشتباك” فى مسابقة نظرة ما، بالدورة الأخيرة لمهرجان “كان” السينمائى، لم يعد خبرا، حتى لو قلنا إنه حاز إعجاب الجماهير والنقاد، واحتل الحديث عنه مساحات مميزة فى أهم الجرائد والمجلات الفنية الأجنبية.



ولو قلنا إن التليفزيون المصرى قدم تقريرا عن الفيلم ومخرجه، أقل ما يمكن أن يوصف به – التقرير- هو الخسة، لأنه تعمد الإساءة إلى شخص المخرج الشاب محمد دياب، بإيعاز من جهة ما، رأت أنه من باب الاحتياط مهاجمة الفيلم ومخرجه، خشية أن يكون قد تضمن فيلمه إشارات ولمحات، قد تغضب بعض المسؤولين، أو تدفع الناس للتعاطف مع الإخوان، أو تهاجم قوات الأمن ووحشيتها فى فض الاشتباكات، فالأمر أيضا ليس جديدا، ولم يعد أحد يعلق عليه، أو يثير اهتمامه.


فقد تم عرض التقرير بالبرنامج، وانتهى الأمر بالنسبة لمعظم من شاهدوه.


وحده المخرج وفريق العمل، وعشاق فن السينما الذين يدركون أننا فى عرض فيلم محترم وجاد، وجرىء، هم من ينتظرون الخطوة التالية، وهى مصير الفيلم عندما يتحدد عرضه فى مصر!



فيلم “اشتباك”، يشبه مصير أبطاله، فهم يواجهون قوى غاضبة غير متجانسة، وغير معلومة الهوى، كلها تمد الأيادى لتفتك بهم، دون محاولة للفهم، أو حتى لتبين الحقائق!


“إحنا معاكم، إحنا معاكم”.. صرخات أبطال الفيلم أو بعضهم فى مشهد النهاية، الذى سيظل عالقا بالأذهان كنهايات أفلام عظيمة أخرى.


تخيل عندما يفتك بك من تظنهم قد أتوا لنجدتك، فقد اختلط الحابل بالنابل، وسقطت عربة الترحيلات بما تضمه من شخصيات متباينة الاتجاهات والميول الأيديلوجية.. كانت نهبا لعدة ساعات لكل ما شهده المجتمع المصرى من صراعات طوال السنوات الأخيرة، وخاصة عندما انفجرت كل الألغام بعد ثورة يناير، ولم يعد شيء على حاله، لأن هناك ساحرا ما يقف خلف ستار كثيف، ويمسك بخيوط يلعب بها بالجميع، دون أن يتمكن أحد من إيقاف أو إنهاء لعبته الشريرة.


أحداث فيلم “اشتباك” الذى كتب له السيناريو وأخرجه محمد دياب، تبدأ فى يوم نحس قمطرير، بعد أن تم عزل محمد مرسى وسقوط دولة الإخوان، وما تبع ذلك من أحداث عنف بين الإخوان من جانب، وبين قوات الأمن من جانب آخر، وسقوط ضحايا من كل الجوانب، وحدوث هياج فى الشارع المصرى، أدى إلى حملات اعتقال واسعة النطاق خوفاً من ضربات تصعيدية من قبل الإخوان والفرق التابعة لهم.


مسرح الأحداث سيارة ترحيلات، تقف فى حالة تربص، حولها قوات أمن تسعى لاصطياد من يشكون فى تورطهم فى الأحداث، أو من يتوجسون من احتمال تورطهم، تقدر تقول إن الاصطياد كان عشوائيا فى كثير من الأحيان، لأنه ضم أناسا لا ناقة لهم ولا جمل، بما يدور من صراع بين القوتين الأكثر شراسة (الإخوان ورجال الأمن).


ويذكرنا المشهد بسيارات اصطياد الكلاب الضالة فى بعض الأفلام، حيث لا تفرقة بين الكلاب المسعورة والمستأنسة، أو التى لها أصحاب، فكل من يوقعه حظه العاثر فى مسرح الأحداث يتم الزج به فى عربة الترحيلات، التى تتحول إلى سجن متحرك يزدحم داخله مجموعة من البشر، بينهم نساء، وطفل.



ومثله مثل السجون وكل الأماكن المغلقة، تبدأ عملية استعراض القوة وفرض السيطرة، ويكون فريق الإخوان هو الذى يحاول أن يعزل الآخرين، على أساس أنهم مختلفون ولا يرقون إلى الانضمام لهم، ويمكن التضحية بهم في أول منعطف! الأكثر إثارة للريبة، هو صحفى مصرى يحمل الجنسية الأمريكية “هانى عادل”، جاء لتغطية الأحداث، هو مثار شك واتهام كل من بعربة الترحيلات، والتهمة جاهزة: (الجاسوسية)، حتى هؤلاء المظلومين الذين تم الزج بهم زورا داخل عربة الترحيلات، لم يفكروا لحظة أنه قد يكون مثلهم ضحية.



أما المسؤول عن مجموعة الإخوان وكبيرهم فى المرتبة “محمد علاء”، فهو متجهم، صارم، عدوانى، على استعداد للتضحية بالجميع، ماعدا من ينتمون إلى جماعته. وبين هذه الكتلة البشرية ممرضة “نيللى كريم” أبت أن تترك زوجها “طارق عبد العزيز” وابنها الصبى، اللذين تم الزج بهم داخل الشاحنة، بلا مبرر.



شخصيات الفيلم كثيرة ومتباينة، معجونة داخل مساحة ضيقة، يصعب فيها التنفس والحركة، ومع ذلك فقد تمكن المخرج مع مدير التصوير أحمد جبر، أن يتحرك بينهم حركة دؤوب، بلا هوادة، مع ربط ما يحدث داخل الشاحنة، بما يحدث خارجها، من عمليات كر وفر، بين رجال الأمن ومجموعات الإخوان.


والغريب أن سيارة الترحيلات تصبح فى وقت ما، هدفا للمجموعات الغاضبة والمناهضة للإخوان، وتلاحق السيارة بوابل من الحجارة والطوب، على اعتبار أن كل من بداخلها ينتمون للإخوان.. حالة من الهرج المرعب، يتحول فيها الجميع إلى أعداء للجميع، ولا تعرف من يضرب فى من، ومن يدافع عن من، حتى بعض جنود الأمن، يتم عجنه داخل المجموعة، لمجرد أنه أبدى تعاطفا مع بعض المقبوض عليهم!


تلك الشاحنة التى تسير إلى حتفها، حاملة معها مجموعة متباينة من البشر فى حالة صراع دائم، واشتباك دامى، يتوقف برهة لإلتقاط الأنفاس، تشبه كثيراً ما آل إليه المجتمع المصرى، بعد أن استحال الاتفاق على وسيلة أو مخرج من تلك الحفرة العميقة التى تكاد تبتلعنا جميعا.

أحداث الفيلم لا تترك لك مجالا لالتقاط الأنفاس، ورغم كثرة الشخصيات فإن لكل منها ملامحه النفسية والاجتماعية، ويمثل مجموعة ما، وقد عمد السيناريو إلى بعض الأحداث الفرعية للتخفيف من حدة الصراع، مثل حكاية سايس السيارات الذى يدّعي البلطجة ليحمى نفسه من إيذاء الآخرين، رغم رقة مشاعره وحزنه الشديد على كلبه الذى كان رفيقه الوحيد فى رحلة حياته، وحكايات أخرى تستحق التوقف عندها. منحت الفيلم صفته الإنسانيه، بالإضافة  لكونه واحد من أهم الأفلام السياسية التى سوف تباهى السينما المصرية بتقديمها لسنوات طويلة قادمة.


نقلا عن زائد 18