عبد الحفيظ سعد يكتب: «فخ الأشاعرة» يمنع تجديد الخطاب الدينى من الخديو إسماعيل للسيسى

مقالات الرأي



فى كتاب للدكتور على مبروك عن قدرة الأزهر للتصدى للمهمة الرئاسية

■ القدرة المعرفية للشيوخ الحاليين لا تؤهلهم للثورة على الموروث ■ الخديو قبل قرن ونصف القرن اتجه للقوانين الفرنسية بعد عجز الشيوخ فى تطوير الشريعة لتحقق العدل والإنصاف ■ الشيوخ يكتفون بثرثرة عن شكل وأسلوب الخطابة دون أن يتصدوا لأصل الأزمات ومنبع العنف ■ تقوقع المؤسسة الدينية على مدار 10 قرون يمنعها أن تنتج خطاب تجديد لأنها تحتاج إلى من يطورها منذ العصور الوسطى


منذ عام ونصف العام دعا الرئيس السيسى المؤسسات الدينية الإسلامية، وعلى رأسها الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء إلى تبنى مشروع لتجديد الخطاب الدينى، ليتواكب مع العصر، ويواجه التحديات بخطاب دينى متطور، يزيل وصمة التطرف والإرهاب التى التصقت بالدين الإسلامى، نتيجة ظهور التنظيمات الإرهابية التى تتخذ من الخطاب الدينى مرتكزا لتحركاتها.

ومع انطلاق الدعوة الرئاسية ظهرت منافسة خفية بين مشيخة الأزهر، ووزارة الأوقاف، خاصة أن قيادات المؤسستين تطمح للظهور فى مشهد من يقود سفينة التجديد.

ونتيجة لقوة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، ابتعد وزير الأوقاف مختار جمعة. وظهر فى الواجهة أن مشيخة الأزهر ستأخذ على عاتقها مسئولية «تجديد الخطاب الديني»، وبدأت بالفعل لقاءات دعت إليها المشيخة مع شخصيات ثقافية وسياسية من أجل بحث طرق ومعايير تجديد الخطاب، وساد شعور وقتها أنه ربما سيخرج الأزهر ومشايخه بخطاب مغاير وأفكار جديدة تمحو عبره، ما يتعرض له الدين الإسلامى من تحريف واستغلال من الفرق والتيارات الدينية وعلى رأسها جماعة الإخوان ومن ورائها داعش فى استغلالها الموروث الدينى، بهدف تحقيق أغراضها.

لكن كانت الصدمة من النتيجة الفعلية، لتجديد الخطاب الدينى، بدلا من إيجاد لغة وخطاب جديد أكثر انفتاحا، وجدنا مزيدا من أفكار التطرف وخطاب التكفير الذى خرج من شيوخ الأزهر أنفسهم، ونتج عنه سجن اثنين من شباب الباحثين والكتاب، وهما إسلام بحيرى والكاتب أحمد ناجى، واللذين تم حبسهما فى إطار قانون الحسبة، وبتهم تتعلق تراوحت بين ازدراء الأديان، وخدش حياء المجتمع، كما طالت دعاوى التكفير والحسبة شخصيات باحثين وكتاب مثل فاطمة ناعوت وسيد القمني. بينما رفضت المؤسسة الدينية فى المقابل أن تخرج لتواجه أفكار داعش. واكتفت بخطاب يهاجم تصرفات التنظيم، دون أن ينال من أساس الفكر بعد أن رفضت المؤسسة الأزهرية أن تصدر فتوى بكفر أو خروج أصحاب هذا الفكر عن الإسلام وكانت حجتهم فى ذلك أن الأزهر كمؤسسة ترعى الفكر الوسطى ترفض فكرة التكفير، رغم أنها تحرض فى المقابل على سجن من يفكر فى الخروج عن أفكارها.

لكن فى الحقيقة كان تصرف وعجز الأزهر عن مواجهة الأفكار المتطرفة بشكل جذرى وعدم قدرتها على طرح خطاب دينى جديد، سببه أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، وهى النتيجة التى خرج بها الدكتور والباحث على مبروك أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، بكلية آداب جامعة القاهرة، والذى رحل عن عالما فى مارس الماضى، لكنه قبل رحيله بأيام كان وضع كتابا بعنوان «الأزهر وسؤال التجديد»، يناقش فيه إمكانية أن يقوم الأزهر بتجديد الخطاب الدينى، يواجه الأفكار المتطرفة التى تعانى منها الأمة العربية والإسلامية الآن.

ودكتور على مبروك يعد من أهم نقاد العقل العربى والباحثين عن جذور الأزمات الفكرية والنهضوية التى يغرق فيها عالمنا العربى منذ ما يزيد على مائتى عام. وشكل مع صديقه الراحل نصر حامد أبو زيد، ثنائيا تصديا لخطاب التطرف ومدارس العودة للماضى، وهو السبب الذى أدى لملاحقة أبوزيد وتهجيره من مصر بعد تفريقه عن زوجته.

لذلك لا يعد كتاب مبروك الأخير، هو إنتاجه الوحيد فى نقد الأفكار الرجعية التى أوصلت الأمة لحالها الآن، وسبق له كتب أبرزها كتب «الخطاب السياسى الأشعرى نحو رؤية مغايرة»، و «ما وراء تأسيس الأصول – مساهمة فى نزع أقنعة التقديس» «ثورات العرب ـ خطاب التأسيس»، و«لاهوت الاستبداد والعنف» و«الفريضة الغائبة فى خطاب التجديد الإسلامي»، و«القرآن والشريعة ـ صراعات المعنى وارتحالات الدلالة»، و«الدين والدولة فى مصر ـ هل من خلاص؟»، و«أفكار مُؤثَمة ـ من اللاهوتى إلى الإنساني»، و«نصوص حول القرآن ـ فى السعى وراء القرآن الحي»..

لكن الباحث الراحل فى كتابه الأخير الذى وجد طريقه للنشر عقب وفاته بأيام قليلة، يدخل فى القضية المثارة عن تجديد الخطاب الدينى، وهى المهمة التى اختارت الدولة مؤسسة الأزهر للقيام بها، لكن يجزم الكاتب أن الأزهر، لا يمكن أن يلعب هذا الدور، لأنه جزء من أزمة الخطاب الديني.

ويشرح فى كتابه أسباب عجز الأزهر كمؤسسة دينية عن تجديد الخطاب الدينى ويؤكد بين ثنايا كتابه أن هناك خطأ يتمثل فى إسناد مهمة تجديد الخطاب الدينى للأزهر، لأن فكر المؤسسة نفسها القائم على الفكر الأشعري/ الشافعى يحتاج إلى تجديد، وكأنه يقول كيف تعطى أصل الداء مهمة علاج نفسه، إذا كان هو من يحتاج من يداويه.

ويقول فى كتابه: «أصحاب الفضيلة شيوخ الأزهر من القائمين على رأس المؤسسة العريقة فى إنتاج القداسة، قد بادروا إلى إعلان احتشادهم من أجل إنجاح الثورة المأمولة لتجديد الخطاب الدينى، لكن ما تواتر عن هؤلاء الفضلاء من شيوخ الأزهر بخصوص كيفية إحداث الثورة الدينية يكشف عن أن نحاجها يحتاج أكثر من مجرد إعلان النية، بل لابد أن يكون لديهم امتلاك القدرة على إحداث القدرة.

ويرى أن الأزهر وشيوخه بتفكيرهم الحالى لا يمتلكون «القدرة» المعرفية المطلوبة لإحداث الثورة الدينية سواء فى الخطاب أو الأفكار، مضيفاً أن القدرة المعرفية هنا لا تقتصر على العلوم الدينية الصماء، بل تضم جملة من الأدوات والمناهج والمفاهيم التى اكتسبها العقل المعاصر فى كافة المجالات التى تمكنهم من الخروج عن المألوف وعدم الارتكان للماضى والموروث الذى عفى عليه الزمن.

ويذهب على مبروك، ألا يتجاوز ما يطرحه شيوخ الأزهر من أفكار تتعلق بتجديد الخطاب الدينى، مجال الثرثرة بنتائج معرفية بقصد التجميل والادعاء والانتساب إلى الحداثة دون أن يحاولوا الوصول إلى نتائج حقيقية تواجه الفكر المتطرف، بمعنى أنه سيحدثون فى القشور ومحاولة تجميل الخطاب، دون أن يقدروا على الحديث عن الأصول الغائرة التى يواجهها مجتمعنا المعاصر.

ويضيف أن هناك مسائل لا يستطيع أصحاب الفضيلة شيوخ الأزهر، الدخول فيها أو التحدث عنها وهى فى صلب الخطاب الدينى القائم على سياقين: الأول الفقهي (الشافعى) والثانى عقائدى (الأشعرى). ونجد أن هناك ارتباطا شديدا فى المؤسسة الأزهرية بأن منبع هذين الخطابين من القدماء، ولا يجوز الخروج عنه أو التحدث بشأنه، لأن مهمة المؤسسة الدينية هى حراسة كل مؤسسات الدين.

ويقول على مبروك إن مؤسسة الأزهر ذاتها قائمة على فكرة القداسة المستمدة من وضعيتها كمؤسسة دينية، فمن المستحيل أن تسعى المؤسسة بنفسها لخلخلة المستقر لوجودها، فهل يقبل شيوخ الأزهر أن يزلزلوا وجودهم ووضعهم الدينى إذا ما اشتغلوا فى موضوع الخطاب الذى يقومون بحراسته.

ويتناول الكاتب قضية فلسفية مرتبطة بالخطاب الدينى الإسلامى فى الأزهر، الذى تبنى الفكر الأشعرى منذ بداية التأسيس الثانى له، بعد أن تم تحويله من المذهب الشيعى فى العهد الفاطمى إلى المذهب السنى مع تحوله مع عهد الأيوبيين.

والفكر الأشعرى نسبة إلى أبوالحسن الأشعرى، الذى انشق عن مدرسة المعتزلة، وتبنى هذا الفكر منهج فكرة الحتمية والقدرية، وكان امتداد هذا الفكر الحنابلة، نسبة إلى أحمد بن حنبل الذى كانت له آراء فكرية متشددة فى العبادات والحدود، وهو المذهب الفقهى الذى اعتمدت عليه الحركات السلفية فى جزء من عقيدتها، خاصة فيما يخص تحكيم شرع الله وتطبيق الحدود.

لكن الأزهر مع عصر المماليك، بدأ يتبنى فلسفة العقائدية والفقهية له، مع وصول المماليك للحكم على الأشاعرة/عقائديا، والشافعية/ فقهيا، خاصة أن المماليك تقربوا أكثر من المذهب الشافعى نسبة للإمام الشافعى، كما قام المماليك بالاهتمام بالأزهر مرة أخرى، بعد أن أهمل فى عهد الأيوبيين.

وعمل المماليك على بعث روح جديدة له والعمل على أن يكون المؤسسة التى يستمدون منها الشرعية الدينية للحكم، لذلك أنشأ المماليك منبرا ومقصورة ونصبوا جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على المذهب الشافعى، ورصدوا أوقاف للانفاق على الأزهر وشيوخه، وتمكنوا أن يربطوا شيوخا بالدفاع عنهم سياسيا وتبنى فكرهم العقائدى الأشعرى، لدرجة وصلت لحد الإفتاء بكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف بالمذهب العقائدى (الأشعرى).

وتحول الأزهر كما يذكر مبروك فى كتابه إلى مؤسسة مذهبية بامتياز، وبطبيعة الحال نتيجة التعصب لمذهب، أصيب الأزهر بحالة من الجمود والانغلاق، ورغم محاولات شيوخه فى القرن العشرين الخروج عن الجمود كما فعل الإمام محمد عبده الذى انفتح على مذهب المعتزلة (فى العقيدة) أو الشيخ محمود شلتوت والذى أجاز التعبد بالمذهب الجعفرى (فى الفقه)، إلا أن هذه الجهود قد ظلت فردية ولم تؤثر على وضع المؤسسة ككل، كما يقول المؤلف.

ولكن ما يؤكد ما ذهب إليه الدكتور على مبروك من وجود انغلاق فى الفكر الأزهرى والتعصب فى تبنى المذهب الأشعرى، أنه عقب دعوة الرئيس السيسى، للأزهر بوضع خطاب دينى جديد، خرج علينا شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب فى كلمة له، حول تجديد الخطاب الدينى، وكشف فيه عن سبب تمسك الأزهر بالمذهب الأشعرى، ولماذا ظل يتمسك به طوال 10 قرون هى تاريخ وعمر الأزهر، مؤكدا أن السبب الرئيسى فى ذلك يرجع إلى أن هذا «المذهب كان انعكاسا صادقا أمينا لما كان عليه النبى عليه الصلاة والسلام وصحابته وتابعوهم من يسر وبساطة فى الدين».

ونجد أن كلمة شيخ الأزهر، تؤكد ما ذهب إليه الدكتور على مبروك فى كتابه من وجود تعصب لفكر الأشاعرة لدى الأزهر، حتى لو ساق شيخ الأزهر أن هذا التعصب فى التمسك به، لأنه مرن فى التعامل مع جميع المذاهب العقائدية، إلا أن مبدأ التعصب لمذهب فى حد ذاته يطمس أى محاولة للتجديد.

ويدلل على أن دعوة الأزهر للعمل على تجديد الخطاب الدينى الإسلامى، لها تاريخ ممتد، ولم تكن الدعوة الأخيرة للرئيس السيسى الأولى له، بل سبق فى القرن التاسع عشر الميلادى، عندما طلب الخديو إسماعيل من شيخ الأزهر وعلماءه، أن يعملوا على تأليف كتاب فى الحقوق والعقوبات موافق لروح العصر سهل العبارة ومرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية.

ورغم أن ما طلبه الخديو إسماعيل فى ذلك الوقت يعد بسيطا جدا، مقارنة من بالمطلوب إنجازه من الأزهر الآن، الذى يصل لأحداث ثورة فى الفكر الإسلامى، عبر تجديد خطابه، بينما كان طلب الخديو إسماعيل وضع تصور إصلاح فقط عبر رؤية عصرية لتقنين القوانين والأحكام الإسلامية، لكن شيوخ الأزهر رفضوا وعجزوا عن تقديم أى تصور للخديو إسماعيل، وهو السبب الذى دعا الخديو وقتها إلى إنشاء المحاكم الأهلية التى جرى العمل فيها بالقوانين الأوروبية بعد أن عجز شيوخ الأزهر عن وضع تصور عن قوانين عصرية، لدرجة أن الناس، بمن فيهم شيوخ الأزهر أنفسهم، كما يقول الإمام محمد عبده كانوا يتحاكمون فيما بينهم فى المحاكم الأهلية التى تأخذ بالقانون الفرنسى، رغم وجود المحاكم الشرعية ، لكنهم وجدوا فى المحاكم الأهلية ذات القانون الوضعى ملاذهم. وكانت هذه المحاكم أضمن لهم فى العدل الأنصاف، من المحاكم الشرعية التى تستند فى شرعيتها للوحى السماوي.

لذلك كما يقول الإمام محمد عبده فإن شيوخ الأزهر كانوا العقبة فى تاريخ الإصلاح، وهو ما تسبب فى إسقاط حكم الشريعة، نتيجة عجز شيوخ الأزهر لتقديم رؤية وتصور إصلاحى للقوانين الإسلامية وظنوا أنهم يعملوا على «حماية الدين وحفظ الشريعة» ولكنهم فى الحقيقة كانوا عاجزين نتيجة جمودهم الفكرى والمعرفى فى تقديم رؤية جديدة وقوانين عصرية، مما أدى لضياع الشريعة، وهو ما يعطى نتيجة أن التقاعس عن إنجاز الإصلاح لا يؤدى فقط إلى إعاقة التقدم الحاصل فى حياة الناس، بل يؤدى إلى تهديد الموروث الدينى الذى تقوم المؤسسة (الأزهر) على حمايته، بما يهدد وجود المؤسسة ذاته.

وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على طلب الخديو إسماعيل من الأزهر إصلاح الفقه، فإن الرئيس السيسى يدعو الآن إلى ثورة فى الموروث الديني. ورغم ما جرى من إعلان شيخ الأزهر وعلمائه للتجاوب مع هذه الدعوة إلى الثورة وتجديد الخطاب الدينى فإنه يبدو لسوء الحظ، أنهم لا يملكون ما هو أكثر من مجرد إعلان لحسن النوايا الطيبة، وسبب ذلك أن الثورة فى الدين وتجديد خطابه هى عمل معرفى فى الأساس، فإن عملا كهذا يستلزم ممن يتصدون له أن يمتلكوا المنهج والأدوات المعرفية التى تمكنهم من إنجازه.

ولسوء الحظ فإن ما يصدر من رجال المؤسسة الدينية يكشف أنهم اختاروا الأيسر واكتفوا بترديد المفاهيم من دون أدنى وعى بحمولاتها المعرفية ، ويردون مفهوم الخطاب الدينى، ويعتقدون أن مجرد تحديث للخطاب أو أسلوب القول ، كان يظهر الشيوخ بلباس عصرى، أو يتحدثون بلغة جديدة دون أن يمسوا الموروث، وهذا يعنى أنهم لن يتجاوزوا أسلافهم الذين قبلوا بالتحاكم فى المحاكم الأهلية ذات القوانين الفرنسية الحديثة، ورفضوا الاقتراب من الموروث، ما حدث فى الماضى يتكرر حاليا، فإن شيوخ الأزهر يرددون مفاهيم الخطاب والتجديد والثورة وغيرها، لكن مع تفريغها من دلالاتها، بما يؤدى أن يظل الموروث الدينى قائما على حالة.

ومن هنا فإن جمود الشيوخ الأوائل قد أدى إلى إسقاط الشريعة بعد أن اضطر الخديو إسماعيل للعمل بشريعة نابليون، فإن مراوغة الشيوخ الحاليين لن تؤدى إلا إلى استمرار أصول التطرف والعنف والإرهاب قائمة على حالها، لأن القائمين على أمر التجديد لايملكون الأدوات أو القدرة على التصدى للموروث.