محمد مسعـود يكتب: كيف واجه سيدنا إبراهيم والده وجده والملوك والكهنة؟

مقالات الرأي



الأنبياء  والسلطة.. (1)

رحلة «خليل الرحمن» من بيع تماثيل الآلهة.. ونار «النمرود» فى الأرض.. إلى جنة الله فى «السماء»

■ شقيقه «هاران» طلب من آلهته أن تقول للنار « كونى بردا وسلاما علىّ» فمات محروقا

■ أهان تمثال «عشتار» آلهة اللذة فغضبت العاهرة المقدسة وطالبته بأن يسلم له نفسها لتعلمه «لذة التضحية»

■ تبنى «لوط» بن هاران وعلمه أصول الدين فقالوا عنه «الكاذب الصغير»


تمر الأزمة، وتتغير الأماكن، والأحوال، والناس أجمعين، قصص وحكايات.. وعبر وصراعات، وتبقى قصص الأنبياء، أروع.. وأدق وأعم وأشمل، خاصة إن كانت القصص الحقيقية لا تعتمد على مصدر واحد.

وفى رائعة «محمد رسول الله والذين معه»، أرّخ الكاتب الكبير الراحل «عبدالحميد جودة السحار»، لحياة الأنبياء، وقصصهم، واعتمد فى مصادرها على مراجع مهمة، على رأسها القرآن الكريم، الكتاب المقدس، البداية والنهاية لابن كثير، أبوالأنبياء للعقاد، فجر التاريخ لهنرى برستد، ومصر الحياة المصرية فى العصور القديمة لأدولف أرمان وهرمان راتكة، وخليل الله فى اليهودية والمسيحية والإسلام لحبيب أسعد.

فى سلسلة السحار الشهيرة التى صدرت فى عشرين جزءا، اخترنا أن نبدأ الكتابة عنها بصراعات الأنبياء مع السلطة ورجالها، سواء كانت سلطة الأب أو الكهنة ورجال الدين، أو الحكام والملوك والسلاطين، وجاء الجزء الأول فيها بواقع 310 صفحات بعنوان «إبراهيم.. أبوالأنبياء».

1- ناحور وآزر وإمتالى

كان «ناحور» صانعا للآلهة، ومن أمهر صناع الآلهة فى مدينة «أور» جنوب العراق، وعلم الصناعة لابنه آزر (وآزر اسم يعنى النار)، لدرجة أن آزر أصبح أمهر صناع الآلهة فى عصره، وأرسل إليه «أوريجاللو»، كبير الكهنة فى بابل ليصنع لهم تمثالا لإلههم مردوخ كبير آلهتم فى عيدهم الكبير.

وقبل خروج آزر، ذبح « ناحور» ذبيحة ونظر فى كبدها، وأخبر آزر أن امرأته ستضع طفلا، فامتقع آزر، كونه كان يتمنى أن تكون مولودته الأولى فتاة، يهبها إلى المعبد المقدس لتكون من العاهرات المقدسات، غير أنه كان ينوى إن رزق بطفل أن يسميه على اسم والده «ناحور»، غير أن إمتالى رأت فى منامها من يأمرها بتسمية مولودها «إبراهيم».

وعندما دخلت فى آلام المخاض، كان آزر مسافرا لصناعة تمثال مردوخ، فذهبت خادمة من عبيد زوجها، إلى بيت والده لتبشره بقدم طفل جميل، فذهب على الفور، ولم يذهب مباشرة إلى غرفتها بينما دخل المعبد الصغير فى بيت ابنه الملىء بتماثيل الآلهة، وصلى لهم فى خشوع، قبل أن يصعد إلى إمتالى التى فاجأته بالاسم الذى لم يعرف عنه شيئا «إبراهيم»، ومعناه أبوالقبائل وأبوالأمم.

رؤية إمتالى، جعلت ناحور يفكر، فقد شاهد رؤية هو الآخر، أن هناك عمودا من النور يخرج من ظهر آزر، ويصعد إلى عنان السماء، لذا بارك اسم «إبراهيم» وتأكدت رؤيته بأنه سيكون له شأن عظيم.

2- الموت والحياة.. والشك واليقين

قرر آزر عدم إلحاق إبراهيم عليه السلام فى مدرسة، واكتفى بأن يلقنه جده العلم، فعلمه النحو واللغة والحساب والفلك والنظر فى النجوم، وارتبط إبراهيم بجده، لكنه لم يصدق بكاءه وركوعه أمام الآلهة، ففى إحدى المرات، دخل معبد الدار على والده وجده ووالدته ووجدهم جميعا يسجدون أمام تماثيل الآلهة، يتعبدون ويبكون ويتضرعون، وكان متعجبا أن يكون ذلك التأثر أمام تمثال، فسأل آزار لماذا تسجدون لها؟ فرد والده لأنها الآلهة التى خلقتنا، فقال: بل أنت الذى خلقتها وشاهدتك تصنعها مرارا، فرد آزر إنها مجرد رموز للآلهة، أما الآلهة الحقيقية فتجلس فى السماء.. فاشتعلت فى نفسه بذور الشك.

وعندما زار عليه السلام، معبد الآله «نانا» إله القمر، مع والده فى المرة الأولى، طالبه والده بالركوع أمام تمثال كبير الآلهة «مردوخ»، فجرى من المعبد، وجرى خلفه آزر، وسأله عن سبب عدم ركوعه، غير أن خليل الرحمن لم يرد، فعلم آزر وقتها أنه مازال صغيرا، وأيقن أنه عندما يكبر ستهديه الآلهة.

فى هذه الأثناء مرض ناحور مرضا شديدا، فجاءوا بكاهن، يطلب له صفح الآلهة وعفوهم، فطلب خنزيرا بريا وسبعة أرغة سويت تحت الرماد، وفشل العلاج، غير أن منزله اعتمرته الصراصير وهو فأل سيئ ينذر بموت صاحب الدار، فجاءوا بعراف طلب طبقا من الماء، وآخر من الزيت، وقرأ فى الماء قبل أن يضع قطرة من الزيت فى طبق الماء، وبعد فترة أخبرهم أنه سيموت.

فكر إبراهيم عليه السلام فى الموت والحياة (لماذا خلقنا؟.. ولماذا نموت؟)، وفكر فى الكاهن الذى قبر جده وتقاضيه سبعة أوان من الخمر و420 رغيفا و120 قا (أداة ميزان) من الحبوب.. وفكر فى من حاولوا شفاءه وما تقاضوه باسم الدين.. أيمكن لهؤلاء أن يكونوا عبادا مخلصين لآلهتم أم أنهم يتخذون من الدين تجارة؟

3- العاهرات المقدسات.. حلاوة الإيمان ولذة التضحية

اشتعل صراع الشك فى نفس إبراهيم، ولم ينته صراع إقناعه بعبادة الآلهة من والده آزر أو والدته إمتالى، لذا قرر الذهاب إلى المعبد ليرى أعمال الكهنة عن قرب، وفى الطريق إلى المعبد، وعلى شاطئ قريب وجد مجموعة من الكهنة يلتف حولهم رجال كثيرون، يمسكون برجل وامرأة، ذهب عليه السلام مسرعا، ليتبين حقيقة ما يجرى.

فوجد الكهنة والرجال، يربطون الرجل والسيدة معا بحبل واحد ويلقون بهما إلى النهر، كونهما ضبطوا متلبسين بالزنى، بينما على جانبى الطريق إلى المعبد تجلس العاهرات المقدسات، ويرمى أصحاب الشهوات شواقل الفضة فى حجورهن ثم تتبعه العاهرة المقدسة لمكان داخل المعبد لإفراغ شهوته، فرن صوت فى أذنه عليه السلام: «الفاحشة هى الفاحشة، لا يجوز أن تقدس إذا ارتكبت باسم عشتار أو تلطخ بالعار إذا ارتكبت باسم الشيطان».

وداخل المعبد وجد أمام التماثيل أوانى الشرب والأغذية فتساءل هل يشربون ويأكلون.. وكيف وهم لا يسمعون ولا ينطقون، فعاد إلى منزله ووجد آزر يصلى فى معبده بالدار، فسأله أين كان ولماذا تأخر؟.. وتهللت أساريره عندما قال خليل الرحمن إنه كان بالمعبد، فأعطاه بعض التماثيل ليعود بها إلى المعبد ويبيعها هناك.. ولم يرفض إبراهيم وذهب بالتماثيل ونادى عليها: «من يشترى ما يضره ولا ينفعه»، فأثار الغضب.. وأمسك تمثال عشتار آلهة اللذة وقال: من يشترى ما يضره ولا ينفعه، فغضبت عاهرة من العاهرات المقدسات، واشترت تمثال عشتار لترحمه من السخرية، وقالت لإبراهيم عليه السلام: «تركتك لأنها عطوف.. لكن لا تطمع فى عطفها أكثر من ذلك، إن فيك غرور الشباب وعندما تكبر ستعلم معنى لذة الخضوع للإلهة.. فما ألذ التضحية.. تعال معى لأعلمك كيف تضحى وتتذوق حلاوة الإيمان، فغلب إيمانه شهوته وغلب يقينه شيطانه، ورفض وتركها وانصرف عائدا إلى بيته يفكر فى الكون والقدرة التى تسيره، فلهذا الكون إله واحد لا شريك له، فنزل إلى معبد والده ورمى بأحد التماثيل فجرى آزر غاضبا يعلن لتمثال إلهه أنه برىء من فعلة إبراهيم.. غير أنه قابل جفاء فى موقف الأسرة كلها ولم يقنع آزر بقوله: (يا أبت لما تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا).

4- رحلة الإيمان والزواج ونار النمرود

تأهبت الأسرة لخطبة إبراهيم على سارة ابنة عمه “هاران”، وسمى شقيق إبراهيم بهاران على اسم عمه والد سارة التى كانت فى غاية الجمال، وقد شغفها حبا، وتقدمت الأسرة تسبقها الهدية أو المهر “الترهاتو” بقرتان وثلاثة خراف وسلال بها دواجن وأسماك وبلح وتين وجمار نخيل، وتمت الخطبة، وكان كل ما اشتراه إبراهيم من ماله الخاص من عمله فى رعى الأغنام، كونه حرّم على نفسه أموال والده وشقيقيه التى تعود لتجارة الآلهة.

وعند العودة إلى الدار وجدوا نارا قد شبت فى معبد الدار وأكلت الآلهة، ولم يقنع آزر أيضا بقول إبراهيم بأنها لا تضر ولا تنفع، وتزوج من سارة، وبحث فى ذهنه عن الإله، مرة عن القمر، وأخرى عن كوكب المشترى ومرة عن القمر، قبل أن يقنع أن جميعهم ليسوا الإله المنشود فى ذهنه، وصعد إلى الجبل وغابت الشمس وأحس بالكون يخفق بالروح الحق، الروح التى خلقت عن سواطع جمالها وأنوار جلالها كل شىء وجاشت نفسه بالرضى قبل أن يوحى له (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى)، وهم بالهبوط من الجبل فوجد شيئا عملاقا بين الأرض والسماء، فجرى منه مرعوبا، فقال فى وضوح: «أنا جبريل رسول رب العالمين إليك وأنت إبراهيم رسول الله.. أنا رسول ربك إليك وأنت خليل الرحمن.. اسلم، قال: أسلمت لله رب العالمين».

وهبط من فوق الجبل يجرى قائلا: «يا قوم إنى برىء مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين».

واستغل إبراهيم فرصة العيد وخلو مدينة أور من سكانها كونهم ذهبوا لقضاء العيد فى الجانب الآخر من النهر يتقدمهم ملكهم النمرود، فأخذ يحطم الآلهة إلا إلههم «مردوخ»، وعندما عادوا علموا أن إبراهيم من فعلها، وألقوا القبض عليه فى محاكمة يحضرها ملكهم النمرود، وقضت المحكمة بحرق إبراهيم لتحطيم الآلهة وللعيب فى ذات الملك: “إن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. فبهت الذى كفر”.

وشرع البناءون فى إقامة بنيان ضخم توقد فيه النار التى سيلقى فيها إبراهيم، وجاءوا بأصناف من الخشب، لتصل النار إلى السماء لدرجة أنها حرقت الطير التى طارت فوقها، وصنعوا منجنيقا ليرموا إبراهيم فى النار من خلاله بعد أن صارت النار جحيما يشوى وجوه من يقترب، وجاء الملك وألقى إبراهيم فى النار وسط دعاء لوط وسارة.

ولوط ابن هاران تبناه إبراهيم كونه لم ينجب من سارة وعلمه أصول الدين وكان معه من المسلمين، وكانوا يسمونه الكاذب الصغير لأنه يقول ما يقوله إبراهيم، وبعد ساعات بدأت النار تخمد ووجدوا أن إبراهيم يجلس فى وسطها لم يمت، فجاءوا به مدهوشين مشدوهين إلى الملك النمرود الذى أعجب بقدرة الإله الذى يعبده إبراهيم، وسأله عمن نجاه فقال أوحى لى ربى أنه قال للنار كونى بردا وسلاما على إبراهيم، وقرر النمرود ذبح 4000 بقرة تقربا منه، غير أنه عليه السلام قال له لن يقبل منك وأنت على دينك، فرد النمرود: “لا أستطيع ترك ملكى”.

أراد شقيقه هاران أن يثبت أن معجزة إبراهيم والنار قابلة للتكرار، وأن أصنامه قادرة على أن تنجيه من النار، فتطهر وصلى فى المعبد وطلب من الآلهة أن يأمروا النار أن تكون بردا وسلاما عليه، وأشعل بعض الحطب وألقى نفسه بين النيران التى لسعته فخرج منها على الفور يئن ويتألم، غير أنه لفظ أنفاسه بعد أن تمكنت منه النار.. لتموت والدته إمتالى كمدا عليه.. ويبدأ إبراهيم فى نشر الدعوة وإعلاء كلمة الله الذى يحق الحق بكلماته.