محمد مسعـود يكتب: الأنبياء والسلطة 3.. حكايات الصراع على مملكة بنى إسرائيل

مقالات الرأي



■ كيف دبر طالوت أكثر من عملية اغتيال لداود؟ ولماذا بكى بين يديه قائلا: «عفوت عنى ولم أعف»

■ داود رفض الزواج من ابنة الملك.. فعين قائداً للجيوش

■ «بلقيس»وصلت إلى عرش «سبأ»على جثة زوجها

■ القصة الكاملة لإبادة مدينة الكهنة بأوامر «طالوت»

■ «أودونيا» ابن نبى الله داود جمع أشقاءه ورجال والده ونادى نفسه ملكا.. فأصر داود أن يكون سليمان هو الملك فهرب أودونيا وطلب «الأمان»


قاد الملك طالوت بنى اسرائيل فى انتصارات متتالية، بعد أن تجرعوا مرارة الهزيمة وذلها مرارا، وظن طالوت أن النصر يرجع إلى ذاته، وعظمته كملك وقائد للجيوش، ونسى أن النصر من عند الله، وأنه كان عبدا فقيرا، ليس له جاه أو مال أو سلطان، فلولا فضل الله عليه أن زاده بسطة فى العلم والجسم، واصطفاه ملكا لبنى اسرائيل، ما كان أصبح ملكا من الأساس، وما كان حقق انتصاراته.. بيد الله ونصره أولا.

هذا ما جاء فى بداية الجزء الثالث من سلسلة «محمد رسول الله والذين معه» للكاتب الكبير الراحل عبدالحميد جودة السحار الذى أصدرته «دار مصر للطباعة» فى عشرين جزءا، وفى السطور التالية نستكمل ما جاء بالجزء الثالث الذى كتبه السحار بعنوان «بنو إسماعيل».

تكبر طالوت، وتطاول على نبى الله، فقطع جلبابه، فدعا شموئيل: «مزق الله مملكة بنى اسرائيل عنك»، ودخل فى نوبة من الحزن والاكتئاب، ماذا لو استجاب الله دعاء نبيه، فقال له رجاله: «روح عن نفسك.. إنى أعرف غلاما إذا غنى وضرب على العود أصغى الكون وخشعت القلوب فصوته عذب لا يحاكيه صوت فى الوجود».

وكان هذا الغلام هو نبى الله داود عليه السلام، فخرج العبيد يبحثون عن داود.. حتى عثروا عليه وجاءوا به إلى الملك طالوت.


1- الغلام المعجزة

وقف نبى الله داود أمام الملك طالوت، وراح الأخير يتأمله، كان داود أشقر بملامح جميلة ومريحة، وكان مجرد النظر إلى وجهه يشعر الآخرين بالراحة والصفاء النفسى، وراح داود يضرب على العود ويغنى لله وعظمته وعظمة خلقه السماوات والأرض، وارتفع صوت داود عذبا يمجد الله سبحانه وتعالى، فأحس طالوت تواضعا يغشاه فخر لله ساجدا، فى راحة وطمأنينة.

هامت روح طالوت نشوة، وذهب الضيق عن صدره، وأحس بطمأنينة، جاءت فى وقتها كونهم يجب أن يستعدوا للقتال، واسترد طالوت ثقته وتواضعه وقال فى جنوده: «إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده»، وكانت الحكمة فى ذلك أن يعرف الملك والقائد المطيعين من جنوده ومن يعصون أوامر قائدهم ولا يحترمون نظامه.

فى هذه الحرب، خرج إخوة داود مع الجيش، وبقى الأخير يرعى غنم أبيه ويهيم فى الكون عشقا لله وتمجيدا لعزته، وسار جيش طالوت حتى إذا ما وصلوا إلى النهر صار الرجال يشربون ضاربين بتعليمات طالوت عرض الحائط، فأمر طالوت من شرب بالعودة، فلا أمل فى جنود لا ينفذون أوامر قائدهم، وما إن عبروا النهر وجدوا جيش «جالوت قائد الكنعانيين» جيشا جرارا فقالوا: «لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده»، فقال الجنود الذين يظنون أنهم ملاقو الله: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين».

أصبح الجيشان متواجهين، فدعوا ربهم: «ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين»، وبدأت المناوشات بين الجيشين، فكان الرجال يخرجون للرجال يتجادلون ويتبارزون، وخرج من بين الصفوف جالوت، كان طويلا فى وجهه صرامة وعبوس يبث الرعب فى أوصال أعدائه، وكان على رأسه خوذة من نحاس، وبين يديه رمح هائل، وصاح فى اعدائه وكان صوته كالرعد: «يا طالوت لماذا يقتل قومى قومك؟، اخرج لقتالى أو اخرج لى من شئت من رجالك.. فإن قتلتك كان الملك لى وإن قتلتنى صار الملك لك، فصاح طالوت فى جنوده: «من يخرج لقتال جالوت؟»، والحقيقة ما كان أحد منهم أن يرمى نفسه فى أحضان الموت المحقق، ورفض الرجال الخروج لقتاله، فتقدم منهم جالوت فى شجاعة فتقهقر بنو اسرائيل، فسخر جنود جالوت منهم وضحك جالوت وكأنما ضحكته بركان أبعث الرعب فى أوصال بنى اسرائيل.


2- من يقتل جالوت سأزوجه ابنتى

ومرت الأيام، وفى صباح كل يوم يخرج جالوت قائلا نفس العبارة.. من يخرج لقتالى يا طالوت؟، فلا يجرؤ أحد على أن يقاتله، حزن طالوت، وأتته فكرة أن يحفز رجاله قائلا: «من يقتل جالوت كرمته.. وزوجته ابنتى وجعلت بيت أبيه حرا»، فقال الجنود إننا سنزف إلى الموت قبل أن نزف إلى ابنتك، وانقضت أربعون يوما والحرب دائرة بين الطرفين والجنود تأبى قتال جالوت، إلى أن ذهب داود إلى الحرب ليرى إخوته ويقدم لهم الطعام، فوجد الوضع على ما هو عليه.. وجالوت يقول: «ألا يتقدم منكم أحد ليقاتلنى»، فحز ذلك فى نفس داود وفارت الدماء فى عروقه فجرى لأول الصفوف قائل بشجاعة: «أنا أقاتلك».

الحقيقة إن الدافع وراء خروج داود نصرة الله وحده، فقد حزن لجبن هؤلاء الذين يقاتلون فى سبيل الله، فما فكر أحدهم فى النصر، أو الفوز بالشهادة، وجرى اخوته يلحقون به ليمنعوه عن قتال هذا العملاق الشرس، فقال: «إن من هو أقوى من جالوت يؤيدنى»، وتقدم طالوت إليه قائلا: «انك مازلت غلاماً وهو رجل حرب»، فرفض داود وقال: «سأقتله بإذن الله»، فألبسه طالوت ملابس حربه، خوذة على رأسه وقلده سيفا، وما هى إلا خطوات فتعثر من ثقل الخوذة والسيف، فخلعهما وتقلد هراوة (عصى) ومقلاع (أشبه بالنبلة).

نظر جالوت إلى الفتى الصغير الذى يتقدم لقتاله بهراوة ومقلاعا، فقال: «ارجع يا فتى فإنى لا أريد أن اقتلك»، فقال داود: «بل أنا مصمم على قتلك»، وألقى الله الرعب فى نفس جالوت وصرخ فيه: «هل أنا كلب حتى تأتى إليّ بهراوة؟»، تقدم داود بثقة بعثها الله فى قلبه، وصوب المقلاع إلى رأسه فإذا بطوبة كبيرة تصيب جالوت فى عينه، فوقع أرضا، فجرى عليه داود وقطع رأسه» فبعث الحماسة فى جنود بنى اسرائيل فهجموا على الكنعانيين وهزموهم شر هزيمة.


3- كيف يتزوج راع ابنة الملك؟

سار الفرح فى صفوف بنى إسرائيل، والآن استحق داود الزواج من «ربوات» ابنة طالوت الذى شعر فى نفسه ضيقا، كيف يتزوج راعٍ ابنة الملك العظيم؟، ونسى أنه قبل أن يختاره الله ملكا كان سقاء، وعزف داود عن مطالبة الملك بالزواج من ابنته، فعينه طالوت قائدا للجيوش، وكان كلما خرج فى معركة عاد منتصرا، فاشتهر وعلا ذكره وأحبه الشعب، فأرسل له الملك أنه لو طلب مصاهرته سيزوجه ابنته «ميرب»، لكن داود قال: «ومن أنا حتى أصاهر الملك؟».

ووقعت «ميكال» ابنة طالوت الثالثة فى حبه، فأرسل له الملك أنه لو أراد مصاهرته سيزوجه «ميكال»، وأقنع رسل الملك داود بالزواج منها، وزاده الزوج محبة فى قلوب الجميع بما فيهم أهل بيت الملك طالوت الذى شعر بالغيرة وقال لابنه وولى عهده «يوناثان» أنه سيقتل داود حتى يبقى الملك فى عائلته فداود سار خطرا على العرش، غير أن يوناثان ذهب إلى داود قائلا إن والدى يلتمس قتلك فاهرب، وأصبح داود طريدا للملك وذهب فى فراره إلى مدينة الكهنة «نوب» ودخل على الكاهن «اخيالك» الذى اضطرب عندما شاهده وحيدا دون جنوده، وطلب منه داود الطعام، فأعطاه خبزا يابسا، وطلب سلاحاً فلم يكن فى المعبد غير سيف جالوت فأعطاه إياه وخرج داود ليحتمى بالجبال وسط أهله وجنوده، وعلم الملك بالأمر فأرسل فى طلب «اخيالك» وقتله وأهل بيته جميعا، وأرسل الجنود فأبادوا مدينة الرهبان ولم يرحموا شيخا ولا طفلاً، وذهب لمطاردة داود فى الكهف الذى يختبئ به، ونام فوجده داود نائما ورفض قتله بل قطع جزءا من جبته، وأعطاه له حينما استيقظ، فندم الملك ندما شديدا من صفح داود الذى كان بإمكانه قتله لو أراد.


4- ذبح طالوت.. وداود ملكا

أخذ الفلسطينيون التأهب لقتال بنى اسرائيل، وأخرجوا أقوى فرسانهم لقتال طالوت وجنوده، وأمام كثرتهم وقوتهم فر بنو اسرائيل، وبقى طالوت وأولاده يحاربون بقوة، وكان طالوت يبغى الشهادة عسى أن يكفر عن ذنبه بقتل الرهبان ورجال الدين جميعا، ووقع ابنه يوناثان قتيلا، قبل أن يقع بقية ابنائه إلا واحد، وقتل طالوت، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وساروا يطوفون برأس ملك بنى اسرائيل، ونصب ابن طالوت ملكا، وبقى داود فى «حبرون» يحكم عشيرته ويقضى بين الناس ويتلقى وحى الله رب آبائه إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب، وجاءه رجل ناعيا ينعى إليه وفاة ابن طالوت فأيقن داود أنه صار ملكا لبنى اسرائيل بإذن الله، وبالفعل جاءه أكابر بنى إسرائيل يدعونه ليكون ملكا، ونودى بالنبى الكريم ملكا، وخرج داود وزوجاته ورجاله وجنوده إلى حصن أورشليم، لأن حبرون لا تصلح أن تكون عاصمة للمملكة.

وقسم داود وقته إلى ثلاثة أيام يوما خالصا للعبادة، ويوما يقضى فيه بين الناس ويوما لزوجاته، ورزق داود سليمان، ومرت السنون وصار شيخا.


5- حكمة سليمان.. وصراع أودونيا

جلس نبى الله داود فى المجلس يحكم بين الناس وكان ابنه النبى سليمان عليه السلام حاضرا، وقال رجل: «إن غنم هذا الرجل دخلت حقلى وأكلت زرعى، فسأله داود عن ذلك فقال نعم فقال الحكم بأن يأخذ صاحب الحقل الغنم مقابل زرعه الذى فسد، كان نبى الله سليمان وقتها فى الثانية عشرة من عمره وقال: «غير هذا يا نبى الله»، فسأله داود: «ماذا ترى؟»، فقال: «يأخذ صاحب الغنم الحقل ليصلحه ويأخذ صاحب الحقل الغنم لينتفع بلبنها ونتاجها، حتى إذا عاد الحقل كما كان، أخذ صاحب الحقل حقله وصاحب الغنم غنمه».

فرح داود بحكمة ابنه، وانتهى المجلس ودخل لزوجته أم سليمان فرحا وأخبرها أنه سينصب سليمان ملكا من بعده.

ومن جانبه ظن أودونيا ابن داود أن والده شاخ ولم يعد يصلح للحكم، فجمع عجلات وفرسانا ورجالاً يجرون أمامه ونادى نفسه ملكا على اسرائيل، وأعد وليمة فاخرة دعا لها جميع اخواته باستثناء سليمان وخدام الملك ليبايعوه ملكا، ودخل حكيم من حكماء القصر على أم سليمان وأخبرها بما جرى، فذهبت لزوجها نبى الله وأخبرته، فدعا بدوره رجاله المخلصين وقال لهم: «أركبوا سليمان على بغلتى وانفخوا فى الأبواق واهتفوا يحيا الملك سليمان، وعلت الهتافات فى الشوارع تهتف بحياة الملك سليمان ووصلت الأصوات مسامع أودونيا ومن دعاهم فشعروا بالرعب وفروا جميعا، واحتمى أودونيا بخيمة الرب وقال: «لن أبرح حتى يأتينى الأمان من أخى»، فأعطاه سليمان الأمان، وبنى بعد ذلك هيكل الرب.


6- بلقيس.. الجميلة القاتلة

فى ذلك الوقت كان الناس باليمن، فى ضنك كبير بعد أن سلب الملك من ملكهم، طاغية ذو قلب من الصخر، كان القتل عنده هو العقاب الوحيد، وساروا جميعا يعيشون فى ذعر من ذلك الظالم الجبار، وخيم على سبأ الحزن والخوف، ففكرت الأميرة بلقيس فى حيلة تخلص بها شعبها من ذلك الحاكم الظالم فتزينت وأرخت شعرها وتحلت بأفخر اللآلئ والمعادن، فكانت فاتنة ذات حسن وجمال وانطلقت إلى قصر الطاغية تلعب بالعقول والقلوب بجمالها، ودخلت على الملك فلان أمام جمالها.

حدثته بليونة ونظرت إليه فى دلال فهفت نفسها إليها، وتكررت الزيارات حتى شغفها حبا، وأراد الزواج منها، وأقيمت الأفراح، واختلى الملك بعروسه أخيرا، فهم بالدنو منها، فقدمت له كأسا من الخمر، وكأس وراء أخرى حتى لعب الخمر برأسه فجاءها زاحفا بين قدميها فأخرجت خنجرا خبأته من قبل وأودعته فى صدره، ثم قطعت رأسه فى هدوء وخرجت لتجلس على عرش سبأ.. وكانت تعبد الشمس دونا عن الله مالك الملك العزيز الجبار، ليعرف حكايتها سليمان عن طريق الهدهد فى القصة الشهيرة، فقد علم سليمان منطق الطير وحشر له من الجن والإنس والطير.. وكان سليمان عبدا شكورا: «رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى انعمت علىّ وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين».