تفسير الشعراوي للآية 155 من سورة البقرة

إسلاميات

الشيخ الشعراوي -
الشيخ الشعراوي - صورة أرشيفية


{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}.

نعرف أن مجرد الابتلاء ليس شرا، ولكن الشر هو أن تسقط في الابتلاء، فكل ابتلاء هو اختبار وامتحان، ولم يقل أحد: إن الامتحانات شر، إنها تصير شراً من وجهة نظر الذي لم يتحمل مشاق العمل للوصول إلى النجاح، أما الذي بذل الجهد وفاز بالمركز الأول، فالامتحانات خير بالنسبة له، إذن فقوله الحق: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي سنصنع لكم امتحاناً يصفي البطولة للعقيدة الجديدة.

والحق سبحانه قد ذكر لنا قبل هذه الآية قمة الابتلاءات؛ وهي أن ينال الإنسان الاستشهاد في سبيل الله، وذكر ثواب الشهيد، وهو البقاء على هيئة من الحياة عند ربه، وكان ذلك مقدمة للابتلاءات الأقل، فقمة الابتلاء في حدود إدراكنا هي فقد الحياة، وأراد الحق أن يعطي المؤمنون مناعة فيما دون الحياة، مناعة من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وكل ما دون حياة الفرد هو أمر ترفي بالنسبة لفقد الحياة نفسها، فمن لم يفقد حياته، فستأتي له ابتلاءات فيما دون حياته وهي ابتلاءات الخوف والجوع ونقص الأموال، ونقص في عدد الأخوة المؤمنين، وكذلك نقص في الثمرات، وكل هذه أشياء يحبها الإنسان، ويأتي التكليف ليطلب من المؤمن أن يترك بعضا مما يحب، وتلك الابتلاءات تدخل في نطاق بقاء التكليف.

وأول تلك الابتلاءات هو الخوف، والخوف هو انزعاج النفس وعدم اطمئنانها من توقع شيء ضار، فالنفس لها ملكات متعددة، وعندما يصيبها الخوف، فهي تعاني من عدم الانسجام، والخوف خورٌ لا ضرورة له، لأنك إذا كنت تريد أن تؤمن نفسك من أمر يُخيفك، فأنت تحتاج إلى أن تجتهد بأسبابك لتعوق هذا الذي يُخيفك، أما إن استسلمت للانزعاج، فلن تستطيع مواجهة الأمر المخيف بكل ملكاتك، لأنك ستواجهه ببعض من الملكات الخائرة المضطربة، بينما أنت تحتاج إلى استقرار الملكات النفسية ساعة الخوف؛ حتى تستطيع أن تمد نفسك بما يؤمنك من هذا الخوف. أما إن زاد انزعاجك عن الحد، فأنت بذلك تكون قد أعنت مصدر الخوف على نفسك؛ لأنك لن تواجه الأمر بجميع قواك، ولا بجميع تفكيرك.

إذن فالذي يخاف من الخوف؛ نقول له: أنت معين لمصدر الخوف على نفسك، وخوفك وانزعاجك لن يمنع الخوف، ولذلك لابد لك من أن تنشغل بما يمنع الأمر المخوف، ودع الأمر المخوف إلى أن يقع، فلا تعش في فزعه قبل أن يأتيك، فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وهم بذلك يطيلون على أنفسهم أمد المصائب. إن المصيبة قد تأتي مثلا بعد شهر، فلماذا تطيل من عمر المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو تركتها إلى أن تقع؛ تكون قد قصرت مسافتها. ولك أن تعرف أن الحق سبحانه وتعالى ساعة تأتي المصيبة فهو برحمته ينزل معه اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها، لكن لو ظللت صابراً محتسباً قادراً على مواجهة أي أمر صعب، فأنت لن تعيش في المصيبة بدون اللطف.

لقد كانت الدعوة إلى الله بالإسلام ما زالت وليدة، لذلك كان لابد من إعداد القدوة المؤمنة إعداداً قوياً، وكان الخوف متوقعاً، لأن خصوم الدعوة يكيدون لها ويُبَيتون، وهذا هو الابتلاء. وما المراد من المؤمن حين يواجه ابتلاء الخوف؟ إن عليه أن يجعل من الخوف ذريعة لاستكمال الأسباب التي تمنع وقوع الأمر المخوف، فإن صنع ذلك يكون قد نجح في هذا الابتلاء.

ونأتي إلى الابتلاء الثاني في هذه الآية الكريمة، وهو الجوع. إن الجوع شهوة غالبة إلى الطعام، وهو ضروري لاستبقاء الحياة، ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالإنسان أن ضمن له في ذاته غذاء يدخره من وقت رخائه لينفعه وقت شدته. فالإنسان يحتفظ بالغذاء الزائد على صورة شحم ولحكم، وحين يجوع ولا يجد طعاماً، فهو يأخذ من هذا الشحم، فإذا انتهى الشحم، فهو يأخذ من اللحم، وإذا انتهى اللحم يأخذ الجسم غذاءه من العظم، من أجل أن يستبقى الإنسان الحياة.

والإنسان مكون من أجهزة متعددة، وسيد هذه الأجهزة المخ، ومادامت الحياة موجودة في خلايا المخ فإن كل شيء فيك جاهز للعمل، لكن إذا ماتت هذه الخلايا، انتهى كل شيء، وذلك هو السبب في أن يقال: إن فلاناً مات ثم أعطوه دواء معينا فعادت إليه الحياة. إنهم يتناسون الحقيقة العلمية المؤكدة، وهي أن الحياة لا تغادر الإنسان إلا إذا توقف المخ عن العمل، ولذلك فهناك إنسان قد يتوقف قلبه فيعالجه الأطباء بصدمة كهربية تعيد تشغيل القلب، أو يشقون الصدر لتدليك القلب. لكن إذا ماتت خلايا المخ فهذا هو الموت. فأجهزة الجسم كلها في خدمة ذلك السيد وهو المخ.

ومن العجيب أنك تجد سيد الإنسان وهو المخ في قمته، والحيوانات كذلك مخها في قمتها، أما النبات فسيده في جذوره، فالورق يذبل أولا، ثم تحف الأغصان الرفيعة، ثم الجذع، ويجف الجذر في النهاية عندما لا يأتيه بعض الماء، وعندما يأتي بعض الماء إلى الجذور في الوقت المناسب فهي تعود إلى الاخضرار، وتنمو وتعود إليها الحياة، وكذلك المخ في الإنسان، فساعة ينهي الإنسان مخزونه من شحمه ومن لحمه ويتغذى على العظام، فإنقاذه يأتي من إيصال الغذاء إلى المخ. ولذلك قالت المرأة العربية التي لم تكن تعرف التشريح: "نحن مرت علينا سنون، سنة أذابت الشحم، وسنة مَحَقَتْ اللحم، وسنة محت العظم".

ويجب أن نفهم أن الجوع يُحسِّن لنا كل رزق في الحياة؛ فإنك إن كنت جوعان صار كل طعام شهياً، والذي يرغم الناس على إعداد ألوان مختلفة من الأطعمة؛ إنما هو عدم الجوع؛ فالإنسان يريد أن يُشهِّي لنفسه ليأكل، لكنه لو كان جوعان لكفاه أي طعام، ولذلك قالوا: "طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ".

فساعة يكون الإنسان متعبا فهو ينام على أرض خشنة؛ ويستغرق في النوم، وإن لم يكن الإنسان متعبا، فهو يظل يتقلب في الفراش حتى ولو كان من الديباج.

إذن فابتلاء الجوع هو أن تصبر على الضروري من الطعام الذي يقيم لك الحياة، وأنت تأكله كوقود لحركة الحياة، ولا تأكله التذاذا، وحين يقتات الإنسان ليضمن لنفسه وقود الحياة فأي طعام يكفيه. ولذلك شرع الله الصوم لنصبر على أذى الجوع، لأن المؤمنين قد تضطرهم معركة ما لأن يعيشوا فيها ساعات طويلة دون طعام، فإن لم يكونوا مدربين على تحمل قسط من الجوع فسيخورون ويتعبون.

إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعد المؤمن إعدادا كافيا كاملا، فالمؤمن يواجه الخوف فيستعد، ويواجه الجوع فيأخذ من قوت الحياة بقدر الضرورة.

ولذلك تجد أن المجتمعات تواجه متاعب الاقتصاد بالتقشف، ولكن بعض المجتمعات لا تستطيع ذلك، فتجد الناس في تلك المجتمعات لا تتقشف، ولهذا نقول لمن يعيش حياة الترف: أنت لا تعد نفسك الإعداد اللازم لمواجهة تقلبات الزمن.

وأقول كما قال إبراهيم بن أدهم:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته *** فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
إن أي شيء إذا غلا سعره، لا يشتريه، ويتركه، فيكون أرخص شيء لأنه لن يدفع فيه مالا ليشتريه.

وأما الابتلاء الثالث وهو نقص الأموال فمصدره أن المؤمنين سينشغلون عن حياتهم بأمر الدعوة، وإذا ما شغلوا عن حركة الحياة لمواجهة العدو فسيضطرون إلى التضحية بحركة الحياة التي تنتج المال ولذلك تنقص الأموال، لأن حركتهم في الحياة توجهت إلى مقاومة خصوم الله. وكذلك سيواجهون العدو مقاتلين؛ وقد يستشهد منهم عدد. وأخيراً يواجهون نقص الثمرات، والثمرات هي الغاية من كل عمل.

والحق سبحانه وتعالى حين يعدنا هذا الإعداد، فإذا نجحنا فيه تكون لنا البشرى، لأننا صبرنا على كل هذه المنغصات: صبر على الخوف، وصبر على الجوع، وصبر على نقص الأموال، وصبر على نقص الأنفس، وصبر على نقص الثمرات.

إذن فالمهم أن ينجح المؤمن في كل هذه الابتلاءات؛ حتى يواجه الحياة صلبا؛ ويواجه الحياة قويا. ويعلم أن الحياة معبر، ولا يشغله المعبر عن الغاية؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.