منال لاشين تكتب: أحمد بهاء الدين.. مناضل بلا تجريح

مقالات الرأي



قرأت يوما أن غياب العظماء والأحباء مثل الخمر الجيد يتكثف طمع الحرقة والشوق إليهم كلما طال الزمن، وتذكرت هذه العبارة بمناسبة مرور عشرين عاما على رحيل أستاذى الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين.

عشرون عاما لم ينطفئ الشوق إلى عمق تحليلاته وصلابة موقفه، ونضاله ضد كل ما هو قبيح فى حياتنا.

عشرون عاما تتزايد خلالها حاجتنا إلى كتاباته وعقله المستنير عاما بعد عام، وأزمة تلو الأخرى. خلال هذه الأعوام خاصة بعد ثورتين جرت فى مياه الوطن أحداث جسام كانت تحتاج إلى أحمد بهاء الدين النموذج.

كان الأستاذ بهاء صلبا دون شتائم أو صوت عال أو ضجيج. مناضلا دون تجريح أو إهانة.

كان بهاء يعبر عن قناعاته حتى ولو أغضبت السلطان، ولكن من وجهة نظرى فإن نضاله الأعظم كان فى مواجهة الناس بمعناها الواسع بحسب تعبيره.

نصحه بعض أصدقائه ألا يغضب الناس فى بعض القضايا الشائكة، فكتب عمودا رائعا ردا على هذه النصحية. قال بهاء إن الكاتب لا يجب أن يكون كالراقصة يتمايل مع الطبلة أو الاتجاه، وأضاف: إن الكاتب يجب أن يصارح قراءه ويواجههم بعيوبهم إذا اقتضت المصلحة.

وذات مرة قاد كتاب منافقون حملة على الرغيف المدعم، وركزوا فى حملاتهم على حق المواطن المصرى أن يأكل أفخم وأغلى أنواع الخبز مثل أهالى أوروبا، واتهم البعض هذه الحملة بأنها مقدمة لإلغاء الدعم.

وحده الأستاذ بهاء كان له رأى آخر. كتب يقول إن المصرى الذى لا ينتج غذاءه، ويستورد طعامه لا يحق له أن يأكل أفخر الأنواع، وأضاف: إن الفرنسى أو الأوروبى يكد ويتعب، ولذلك فمن حقه أن ينال أفخر أنواع الخبز وأرقى أنواع الطعام.

وقد اخترت هذا النموذج من كتاباته المتشعبة القيمة العظيمة لأننى أتذكره كثيرا هذه الأيام.

أتساءل ما سيكون رد فعل الأستاذ بهاء أو رأيه فيمن يملأ الدنيا صراخا لأنه لا يجد دولاراً للشوبينج فى الخارج، فى الوقت الذى تعانى منه الدولة من توفير دولار للدواء.

أتصور كتاباته من النوع السهل الممتنع عن مطالبات مواطنين للحكومة على توفير التكييفات فى دور العبادة ونحن نستورد الغاز، أو «نتسوله أحيانا».

وبنفس الشوق أتصور كتاباته ضد التشدد الدينى وإهمال تطوير الخطاب الدينى، والتجاهل الشديد لكل ما يجرى خارج حدود مصر، وربما خارج حدود العاصمة.بنفس الشوق أتمنى أن اقرأ تحليلا عن المشهد السياسى الحالى وتسرب اليأس بين طبقات المجتمع المصرى

افتقد كتاباته عن المأزق الذى يمر به الوطن العربى، وضياع أكثر من دولة عربية بعد فلسطين، وقد كان الأستاذ بهاء محامى القضية الفلسطينية الأول فى الصحافة المصرية والعربية.

بعد عشرين عاما من غيابه اكتشفت عاما بعد الآخر أنه رجل فريد فى أخلاقه وكتاباته وتحليلاته وصلابته، وأن غيابه يكثف أزمة العقل العربى، ويفضح حضور الكثيرين الذين يتصدرون المشهد الآن.