البابا شنودة والشيخ الشعراوي.. الدين لله والوطن للجميع

منوعات

بوابة الفجر


صور عدة جمعتهما، واحدة تبادلا فيها الضحكات والحكايات، إذ كان لها أن تظهر إلى أى مدى كانت العلاقة بين قامتين كبيرتين تجمعتا على الحب والمودة والإنسانية، بعد عداء غير مقصود حدث بسوء فهم.
البابا شنودة، وضع صورة الشيخ الشعراوى فى مكتبه الخاص لكى يصلى من أجل أن يتم الله شفاؤه، وأن يعود إلى أرض الوطن بكامل صحته بعد إجرائه عملية جراحية فى لندن، إذ وضع الشموع تحت صورته فى لافتة إنسانية تلفها مشاعر الحب والتقدير.
بدأت الصداقة بين الشعراوى والبابا، بعد إرسال الأخير وفدا من رجال الكنيسة لزيارة الشعراوي أثناء إجرائه عملية جراحية فى لندن، وقدم له هدية عبارة عن «علبة شيكولاتة» مع باقة من الورود، وعندما عاد الشيخ إلى مصر سالما، رأى أن من الواجب أن يزور البابا فى الكاتدرائية، فكان استقبال الشعراوى فى الكاتدرائية استقبالا حافلا، وكان عشرات الأساقفة والكهنة فى انتظاره، وتجمع عدد كبير من الأقباط أمام الباب الخارجى لتحيته أثناء دخوله، فكانت فرحة الجميع بالشيخ ظاهرة على الوجوه.
الغريب أن هذا اللقاء التاريخى كان مقررا له أن يستمر نصف ساعة فقط، لكنه استمر أكثر من ثلاث ساعات دون ملل، إذ قال الشعراوى وقتها: «من منح الله لى فى محنتى أنه جعلنى أجلس مع قداسة البابا شنودة»، فرد البابا: «لقد نبهنا إلى شيء هام، وهو أن الذين ارتبطوا بالسماء يجب أن يضعوا أيديهم فى أيدى بعض دائما من أجل ما اتفقوا عليه ويتركوا ما اختلفوا فيه، خاصة أن الملحدين يأخذون من الخلاف حجة لكى يبتعدوا عن الإيمان، ونشكر الله لأن المساحة المشتركة بيننا واسعة لكى نعمل فيها معا».
وقبل نهاية اللقاء قال الشعراوي: «مساحة الاتفاق هذه تسعنا بإذن الله لخير الوطن»، فرد البابا بقوله: «نعمل معا ليس فقط فى مواجهة الملحدين، ولكن ضد المنحلين خلقيا واجتماعيا وفكريا، فالبعض يستغل حرية الفكر لينحرف بفكره ويقع فى الضلال»، فعلق الشيخ قائلاً: «الفكر الذى يجب أن يشغل الناس به أنفسهم هو حقيقة واحدة، هى حقيقة الله الذى خلق الكون، وما أمر به عباده، وغير ذلك لا يعتبر فكرا».
وقال الشيخ الشعراوي: إنه يعرف أن البابا له مؤلفات كثيرة، ويجب أن يطلع عليها، فأهداه البابا مجموعة كتب من مؤلفاته، لكن الشيخ قال: «وأين الشعر»؟ فقدم البابا كتابا يضم بعض الأشعار التى نظمها، وقال له: هل يمكن أن نسمع منك بعض أشعارك»؟، فألقى الشيخ إحدى قصائده، وسأل البابا أن يسمعه قصيدة من قصائده، واستمر الاثنان يتبادلان القصائد وسط تهليل الحاضرين، حيث تحولت الجلسة إلى مأدبة ثقافية دينية خالصة.
وفى نهاية اللقاء سأل الشيخ البابا عن آخر قصائده، فقال البابا: إنها القصيدة التى لم أكتبها بعد، وقدم هدية إلى الشيخ عبارة عن موسوعة لسان العرب لابن منظور من عشرين جزءا، وقدم الشعراوى إلى البابا هدية عبارة عن عباءة سوداء، وعلق البابا وهو يتسلمها قائلاً: «نحن نريد للمجتمع كله أن يعيش تحت عباءة واحدة».
وعن لقائه بالشعرواى، قال البابا فى تصريحات له آنذاك: «أرى أن هذا اللقاء يفرح به كثيرون، لأنه لقاء به مودة ومحبة، وكل لقاء هو مقدمة للقاءات أخرى، اللقاء هو أول خطوة فى طريق يمكن أن يطول، وإذا التقى الناس بالأجساد فمن الممكن أن يلتقوا بالأفكار».
وحين توفى الشيخ ذهب البابا للعزاء مع مجموعة من كبار الكهنة، وقال: «لقد خسرنا شخصية نادرة فى إخلاصها ونقائها وفهمها لجوهر الإيمان»، ولم يستطع أن يخفى ملامح الحزن على وجهه وقتها.
هذا اللقاء التاريخى لم يكن الوحيد الذى جمع بين البابا والإمام، إذ جمعتهما مناسبات دينية وسياسية ووطنية كثيرة، وأصبحا رمزا يحتذى به فى مصر وخارجها، وكشف البابا شنودة عن تفاصيل علاقته بالشعراوى بقوله: «توثقت العلاقة بينى وبين فضيلة الشيخ الشعراوي، وعندما توعكت صحته عام ١٩٩٤ ذهبت للاطمئنان عليه فى المستشفى، وكان هذا اللقاء أكثر هدوءا، لكن أهم لقاء بينى وبين فضيلة الشيخ كان يوم جنازة إبراهيم باشا فرج، سكرتير عام حزب الوفد، وكان فؤاد سراج الدين قد طلب أن تكون الجنازة فى الكاتدرائية باعتبار أن إبراهيم باشا فرج شخصية عامة وتقريبا كان «آخر الباشوات الأقباط»، وكان مفروضا أن أصلى عليه وألقى عظة، وجاء الشعراوى قبل الجنازة فجأة واستقبلته فى مكتبى، وذهبت معه إلى الكاتدرائية، وقتها كانت صحته ضعيفة لدرجة أننى كنت «أسنده» فى الطريق إلى الكاتدرائية، ودخل معى بعد أن صليت على الراحل، وألقيت العظات التى تضمنت بعض الأشعار.
كان آخر لقاء جمع بين البابا شنودة والإمام الشعراوى فى سرادق الإمام الأكبر جاد الحق على جاد الحق، كان فضيلة الشيخ الشعراوى يجلس قرب باب السرادق، وعندما اقترب البابا منه لتحيته، أراد أن ينهض لكن سارع البابا بمنعه ليجلس فى مكانه، وقال البابا وقتها: «لأنى شعرت أن صحته لا تحتمل النهوض كثيرا، وتجمعت الأنظار حولنا، ونحن نتبادل السلام بمودة صادقة لاحظها الجميع».