الهجرة وعقلية "الحمامة والعنكبوت"
مع مطلع عام هجري جديد، ومع بداية شهر الله المحرم، تطل مع هلاله ذكريات الهجرة الجميلة، التي تعايشنا معها منذ الصغر، ولعلي أتذكر مشهدًا يذكره الكثير والكثير، ويتربى عليه الصغير وينشأ عليه الشباب ويردده الكبار وتتوارثه الأجيال، وينتشر في الإعلام، ويصور في اللوحات، ويجسد في الدراما والسنيما.
مشهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في غار ثور، ومِن الخارج يقف كفار مكة بالسيوف وقد حثو الخطى في تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه داخل الغار، وخارجه المشركون، وتحجز بين الداخل والخارج عنكبوت نسجت خيوطها على فوهة الغار، وإلى جوارها حمامتين باضتا.
لعل الكل يذكر قصة العنكبوت والحمامتين وهي قصة واهية ضعيفة لا تثبت بأي حال ولا يقوى لها إسناد، قال الشيخ الألباني: واعلم أنه لا يصح حديث في العنكبوت والحمامتين على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكن من ذلك على علم.
بل لعل في حديث البخاري ما يثبت أن فوهة الغار كانت غير مستورة بنسيج عنكبوت، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ القَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُهُمَا".
وفي رواية: "مَا ظَنُّكَ، يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟".
فأبو بكر ينظر إلى الخارج دون أن يرى حمامًا أو عنكبوت، بل يبصر الأقدام دون حاجز، ويعلم أنهم لو نظروا لأبصروهم، فليس هناك من ستر!
لستُ أهدفُ من المقال إلى إثبات ضعف القصة، فهذا معروف ومثبت ويُراجع في كتب أهل العلم، إنما أسأل: لماذا مع ضعفها ومع التحذير منها لا تزال منتشرة بين الأجيال؟
الهجرة تخطيط وتأييد:
لندع قصة العنكبوت والحمماتين جانبًا الآن، ولنقرر حقيقة هي أثبت تاريخيًا وحديثيًا من القصة الضعيفة، وهي أن الهجرة في الأصل تخطيط وجهد بشري، يحوطه التأييد الإلهي والوحي الرباني.
ولعل المتأمل يجد أن النبي أعد خطة للهجرة محكمة، ونفذها بشكل جيد، ولعلها تتلخص في تلك النقاط:
1- يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في أوَّل الليل؛ لتجنُّب حصار المشركين على البيت.
2- يهاجر إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر، وهو طريق وعر غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة؛ وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
3- يستأجر دليلًا على دراية بالطرق وهو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين، وهذا في منتهى الذكاء؛ فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا خارج مكة، وهو في الوقت ذاته رجل أمين يكتم السرَّ، وفي النهاية هو صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شكَّ أن أجرته كانت مجزية.
4- يتَّجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن، لمسافة حوالي ثمانية كيلو مترات، وهي مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكة وليست في جنوبها؛ ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شكَّ أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
5- يذهب إلى غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وهو غار ثور ويمكث فيه ثلاثة أيام كاملة، إلى أن تنتهي قريش من عملية البحث.
6- يقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور استخباري؛ فهو يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في أول الليل بأخبار مكة، وتحرُّكات القرشيين، وردود الأفعال ثُمَّ يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك.
7- يقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية؛ وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ثمَّ فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
8- والطعام حسب أمره أيضًا، بإعداد أسماء وعائشة بنتا أبي بكر رضي الله عنهم له قبل الهجرة، وسقاية عامر بن فهيرة اللبن من الماشية يوميًا.
مع كل هذا الإعداد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حسن الظن بربه، مستشعر معيته، طالب لمدده، مستأهل لنصره.
قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40].
عقلية "الحمامة والعنكبوت":
نعود إلى قصة العنكبوت والحمامتين، ولنغور داخل عقلية أمة أبت أن تنشغل بالتخطيط والتدبير، وباتت تمجد الخوارق والمعجزات.
ولأن الأحزان عامة والمصائب جامة والبلايا طامة، والأمة باتت منكوسة مشردة متأزمة، بين مُلِمّات ونَوائِب ونَوَازِل، كوارث ومحن ونكبات، ظلم واضطهاد وتشريد، جهل وتخلف ورجعية، وضف إلى ذلك ما يحتويه معجم الفشل من معانٍ وكلمات!
جعلت أعناق المسلمين تشرئب إلى معجزة تنشلهم من وحلهم، وتهبَهم نسيم النعيم بعد أن زكمت أنوفهم قازورات الهوان، لكنهم واهمون، في غفلة عن فقه سنة الله عز وجل في التغيير..
لابد أن يعتمد المسلمون على أنفسهم، وعلى سواعدهم، وعلى شرعهم ومنهجهم..
لابد أن يعتمدوا على "ربهم".
والاعتماد على الله يكون ببذل المستطاع، وإنفاذ المطلوب، فإذا كان كسر أو خلل جبره الله "بجنود لم تروها" وليس بمعجزة حسية أو خارقة عادة يطلبها الكسالى وقليلو الحيلة.
هذا هو التفسير الوحيد -عندي- لانتشار مثل هذه الحكيات، هو تسليط الضوء على المعجزة، الذي يقابله إهمال الجانب البشري التخطيطي.
لا أنكر أبدًا تأييد الله لنبيه في الهجرة ونصرته له ومعيته، وكل ذلك ثابت كما بالآية، إنما كان ذلك مع بذل الجهد وإحكام الخطط والحرص على النفع، والله يمنع عنه ما شاء ومن شاء وينصره دون الحاجة إلى خارقة، وهذه التأييد وتلك النصرة لم تأتي على صورة خارقة أو معجزة حسية -كما أرادوا أن يصورها- لتكون دليلًا على أنها متاحة لكل من عمل وبذل وخطط.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".