في ذكرى وفاة والد الشعراء.. فؤاد حداد لا يزال حياً

منوعات

بوابة الفجر


حتى أواخر الأربعينيات لم يكن الزجل يعانى من الغربة.. ولم يقع فى مأزق.. عمود الشعر الفصيح الذى عجز عن التعبير عن القضايا الملتهبة فى ساحة الوطن.. والاشتباك مع قضايا الإنسان العادى الذى يعانى من الفقر والجوع والمرض.. والقهر والقمع والحرمان.. إذ كان الزجل آنذاك يتصدر غالبية الصحف والمجلات ويحتل الصفحات الأولى منها.. ولم تكن هناك صحيفة أو مجلة تخلو من الزجل الساخن اللاذع.. وكانت الصحف تُصَادَر وتغلق بسبب مقطوعة زجلية تَسُب الإنجليز.. أو تعيب الذات الملكية.. ولكى نتعرف على ملامح مشروع فؤاد حداد الشعرى.. لابد أن نلقى نظرة على المشهد الشعرى آنذاك.. أى فى أواخر الأربعينيات. 
 
ولعل أهم ما كانت تحفل به الساحة الشعرية هو إنتاج بيرم التونسى.. الذى كان قد تخلص تماما من سماته القديمة، واكتسب ملامح جديدة.. كانت السر الذى مكن إنتاج بيرم الفنى من أن يكون الإرهاص بالشعر الذى سيولد بعده.. فالنديم وصنوع وبيرم كانوا مصدرا مهما من مصادر شعر العامية المصرية.. وبعد بيرم جاء دور المثقفين الذين لعبوا دورا رياديا فى تكوين «السبيكة» الأولى.. التى صُبّت فى القالب الجديد الذى أطلق عليه بعد قليل «شعر العامية المصرية».. والذين تعد أعمالهم الأولى رصيدا حقيقيا لهذا الشعر الجديد. 

ولكن الشاعر الكبير «فؤاد حداد» سيظل فى موقع الريادة بعد كل محاولات ترتيب أولويات الحضور.. فلفؤاد حداد مكانته التى لا يرتقى إليها أحد غيره: 
فهو «والد الشعراء»، فقد حمل فؤاد حداد لواء العامية من رائدها الأول بيرم التونسى.. باعتباره همزة الوصل بين الزجل وشعر العامية.. فتجارب فؤاد حداد الأولى هى الجسر الذى عبره الزجل وهو فى طريقه إلى شعر العامية .. وتأتى شهادة جاهين بريادة فؤاد حداد فى المقدمة.. فهو الذى قال: «عندما قرأت لفؤاد حداد هذه الكلمات : «فى سجن مبنى من حجر/ فى سجن مبنى من قلوب السجانين / قضبان بتمنع عنك النور والشجر/ زى العبيد مترصصين».. قررت أن أكون شاعرا عاميا».. وكان ذلك سنة 1951..

ويقول جاهين عن تلك الأبيات:  «بحثت مبهورا عن صاحب هذه الكلمات حتى عثرت عليه.. وكنت قد بدأت أنا الآخر بضع محاولات بالعامية، أغلبها جاء متأثرا بالأستاذ الكبير بيرم التونسى، ولذلك هالنى أن أقرأ نظما بالعامية يسير فى طريقه الخاص، ويستمد منطقه من نفسه».. ويعود جاهين ليؤكد دور فؤاد حداد فى تكوين وجدانه الشعرى إذ يقول فى مقدمة «دواوين صلاح جاهين» سنة 1977: 
«قضيت مع فؤاد حداد زمنا لا أذكر طوله بالتحديد، ولكنه كان كافيا لأن تتكون فيه نواة ما يسمى بشعر العامية المصرية كنا نقرأ معا أشعار المقاومة الفرنسية ويساعدنى فؤاد على فهم معانى الكلمات، وكنا نرفع عقائرنا فى الأماكن الخلوية منشدين شعر العامية اللبنانية، والمعلقات الجاهلية، وقد تأثر فؤاد بخطابية الشعر العربى القديم أكثر منى، لأننى كنت قد بدأت أغازل الشعر الحديث الذى حطم عمود الشعر التقليدى، والذى كان شعراء الفصحى قد بدأوا ينشرونه، ولكنه لم ينزل لفؤاد حداد من بلعوم».. وفى مقدمة ديوانه الأخير «أنغام سبتمبرية» يعقد صلاح جاهين مقارنة بينه وبين حداد فيقول: 
«.. وأشهد أنى لم أكتب قط شطرة منه طمعا فى شىء.. إلا أن هذا العمل يظهر سر رائعة فؤاد حداد «استشهاد عبد الناصر» . فما أخوفنى من المقارنة، لأنه أشعر منى وأرحب وأكثر تدفقا، ولكنى أشطر منه - كما قال لى ذات يوم - لأننى أقص قماش الشعر بمقص خياط على المقاس».

ولكن برغم اعترافه بأستاذية فؤاد حداد.. فإنها سنوات الاعتقال التى قضاها حداد بعيدا عن الواقع وبعيدا عن جمهوره الحقيقى.. تاركا بذلك مساحات الإبداع لجاهين.. ثم فؤاد قاعود والأبنودى وسيد حجاب، وغيرهم من شعراء الرعيل الأول لحركة شعر العامية.. حتى إن الشاعر فاروق شوشة عندما سأل جاهين فى حوار تليفزيونى قائلا: 
- «النقاد يعترفون أن الشكل الجديد للقصيدة العامية صنعته أنت مع فؤاد حداد.. فكيف حدث ذلك؟ 
فأجاب جاهين: 
- «فؤاد حداد بالنسبة لى كان لديه زخم وفحولة شعرية لدرجة أنه كان يستطيع أن يتدفق كالشلال إلى مالا نهاية.. وكان يشبه الشعراء الملحميين، أى شبه «هوميروس».. أما أنا فقد كان نفسى قصيرا.. لذلك كنت ألجأ إلى حيل الصنعة.. وأختار أوزانا غير مطروقة».

ولكن رغم كل هذا الاحتفاء بقيمة وريادة فؤاد حداد، فإن فترات الغياب الجبرية التى قضاها فؤاد حداد خلف أسوار معتقل الواحات.. أثرت بالسلب على مساحات وجوده فى المشهد الشعرى.. وربما تكون الأبواب المغلقة والجدران العالية والزنازين الضيقة التى أمضى فيها فؤاد حداد أجمل سنوات عمره كان لها تأثير على نسق الكتابة والصياغة.. ففى المعتقلات حيث لا أوراق ولا أقلام لتسجل مسودات قصائدك.. فعليك أن تلجأ إلى تأليف بيتين من الشعر فيحفظهما زملاؤك فى الزنزانة ثم بيتين آخرين ليحفظهما زميل ثان.. وهكذا . لذلك فإن طبيعة الحياة داخل المعتقل تملى على الشعراء نسق الكتابة المنظومة فى شكل أطوال ليسهل حفظه.. أو أقرب إلى القصيدة «الزجلية» فى بعض الأحيان.. وربما يكون فترات الاعتقال المفتوح بلا أفق معلوم لنهاية الحبس.. جعلت النص لدى فؤاد حداد مفتوحا وملحميا وعامرا بهذا القدر من الزخم والفحولة الشعرية.

وعندما خرج فؤاد حداد من المعتقل فى 1964.. التحق على استحياء بمجلة «صباح الخير».. لأنه لم يوقع على التماسات العفو الجماعى.. ولم يوافق على قرار حل الأحزاب اليسارية.. والانخراط فى التنظيم السياسى  الاتحاد الاشتراكى  فى الوقت الذى تبوأ فيه معظم المعتقلين أرفع المناصب.. فقد خرج محمود أمين العالم ليرأس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم.. ولطفى الخولى أصدر ورأس تحرير مجلة الطليعة.. وحسن فؤاد لرئاسة مجلة «صباح الخير».. وهكذا.. وظل فؤاد حداد ينشر أشعاره على استحياء من خلال ملحق صغير أصدره حسن فؤاد سماه «حكايات صباح الخير».. كان ينشر فى بطن غلافه الأول فزورة يكتبها فؤاد حداد.. دون توقيع.. ومن نماذج هذه الفوازير:
أنا مش مش وأنا مش مشمش 
جنب البحر أنا كنت مبشـبـش
دلـوقـتى أنفــع طفـــاية 
دلوقتى يمكن بتوشوش
ومنها أيضا:
لوجات لك على اسمى الكحة غير جو
دانا عرعورتى أميرة فى كوخها
يزغد كوعى الشمس فى كوعها 
تقوم فى التو

.. ومرت سنوات من التهميش.. والإقصاء إلى أن جاءت سنوات النكسة.. فانطلق فؤاد حداد ليقدم نور الخيال من صنع الأجيال.. وغناها ولحنها سيد مكاوى.. وبعدها كتب كلمة مصر.. وبعدها كتب المسحراتى ولحنه وغناه سيد مكاوى .. وانهالت عبقرية فؤاد حداد ليكتب الديوان تلو الديوان.. فكتب كلمة مصر.. والحضرة الزكية.. وقدم بابا ثابتا لاكتشاف المواهب الجديدة من الشعراء سماه (قال الشاعر) ورحل شاعرنا الكبير فؤاد حداد عن 56 عاما بعد أن ترك لنا كنزا من الشعر تمثل فى  14 ديوانا من الشعر نشرت بعد رحيلة تباعا.. فهو واحد من عباقرة الشعراء العرب وهو والد الشعراء.